عباس بن فرناس.. حكيم الأندلس وأول من حلم بالطيران

غالبًا ما يختزل اسم عباس بن فرناس في صورة رائد الطيران العربي الأول، لكن هذا العالم الأندلسي الموسوعي كان قامة فكرية شامخة تجاوزت حدود عصره. في هذا المقال، نُزيح الستار عن جوانب مُذهلة في حياة «حكيم الأندلس»، مُستعرضين إسهاماته البارعة في الفلك والفيزياء والكيمياء والشعر والموسيقى، ومُتتبعين تفاصيل محاولته الأسطورية للطيران التي ألهمت الأجيال.

في هذا المقال نتناول شخصية عباس بن فرناس بكثير من المعلومات المدهشة، ونوضح في السطور التالية كثيرًا من النقاط محل الاختلاف والنقاش، التي تخص تاريخ عباس بن فرناس.

من عباس بن فرناس؟

هو أبو القاسم عباس بن فرناس بن التاكرني، وتعود أصول عائلته إلى بلاد المغرب، لكنه وُلد في رندة بالأندلس عام 810 ميلادية، وهي المدة التي كان يحكم فيها الأمويون الأندلس. وهو معروف في الدراسات والأبحاث والمصادر الغربية باسم (أرمن فيرمان)، لكن هذه النقطة من نقاط الخلاف والنقاش بين كثير من الدارسين والمؤرخين، فيقول بعضهم إنهم شخصان مختلفان، ويؤكد بعض آخر على أن الشخص نفسه هو عباس بن فرناس.

نشأ عباس بن فرناس وتربَّى في مدينة قرطبة، حيث تعلم على يد كثير من المفكرين والفلاسفة والعلماء في علوم الفلك والفيزياء والكيمياء، حتى أصبح صاحب معرفة كبيرة، ووصل إلى درجة أن يكون أحد علماء تلك المرحلة، إضافة إلى كونه صاحب رأي، ومفكرًا كبيرًا؛ ما جعل أمراء بني أمية يستعينون به في كثير من الأمور، وبالتحديد الأمير الحكم بن هشام، ومن بعده ابنه عبد الرحمن بن الحكم، ثم الحفيد محمد بن عبد الرحمن الذي توفي في عهده عباس بن فرناس.

كان عباس بن فرناس ماهرًا في إلقاء وكتابة الشعر والعزف على الآلات الموسيقية وكان عالمًا وفيلسوفًا

يُذكر أيضًا أن عباس بن فرناس كان مقربًا على نحو خاص من الأمير عبد الرحمن بن الحكم الذي كان يعده معلمه في بعض الأمور مثل علم الفلك. وتقول بعض الدراسات والمراجع إن عبد الرحمن بن الحكم هو من أطلق على عباس بن فرناس لقب (حكيم الأندلس) حتى انتشر اللقب بين الناس في تلك المدة.

كان عباس بن فرناس أيضًا ماهرًا في كثير من الأمور، مثل إلقاء وكتابة الشعر، والعزف على الآلات الموسيقية، إضافة لكونه عالمًا وفيلسوفًا في كثير من الأمور التي سبق بها عصره؛ وهو ما جعل كثيرًا من معاصريه لا يفهم ابتكارات واختراعات عباس بن فرناس؛ ما أدى إلى تعرضه لاتهامات بالجنون والسحر والزندقة والشعوذة.

عباس بن فرناس عالم الفلك

كان عباس بن فرناس بارعًا في علوم الفلك، فكان كثير القراءة والملاحظة والتجربة. وتعد القبة السماوية التي صنعها دليلًا على تفوقه في علم الفلك، فقد صنع ما يحاكي به السماء الحقيقية على نحو تخيلي، وهو ما جعله يبني غرفة مخصصة في منزله لهذا الأمر، فكان الزائر يدخل إلى الغرفة ليرى النجوم والأجرام والسحب والصواعق والتكوينات الكونية المختلفة على جدران وسقف الغرفة، وهو ما صنعه بنفسه دون أن يستعين بأحد.

ابتكارات واختراعات عباس بن فرناس

كان لعباس بن فرناس كثير من الابتكارات والاختراعات التي توضح معرفته الكبيرة للقوانين المتعلقة بالفيزياء والرياضيات والكيمياء. فعلى سبيل المثال كان عباس بن فرناس هو أول من يبتكر البندول الإيقاعي الذي استُخدم بعد ذلك في الساعات، وطوَّر (الميقاتة) أو الساعة المائية، وكان عباس بن فرناس أول من صنع الزجاج الشفاف من الحجارة، وأطلق عليه الناس في ذلك الوقت (حجر الزجاج).

صنع عباس بن فرناس قلم الحبر عن طريق تصميم خاص يعتمد على حاوية يتدفق منها الحبر إلى الأسطوانة

وكان عباس بن فرناس سباقًا في تطوير طريقة لتقطيع الأحجار الصلبة مثل المور والكريستال التي تستخدم بلورات بعد ذلك في صناعة العدسات بأشكال مختلفة، فمنها ما كان يُستخدم للنظر أو التكبير أو مناظير مكبرة في الأعمال الفلكية، وهي أفكار تبدو صعبة ومعقدة وفقًا لتلك المدة والإمكانيات المتاحة للوصول إلى هذه الدرجة دون الاستعانة بتقنيات حديثة.

كان عباس بن فرناس أيضًا أول من صنع قلم الحبر، وذلك عن طريق تصميم خاص به يعتمد على حاوية يتدفق منها الحبر إلى الأسطوانة، ومنها إلى الحافة المدببة التي يتم الكتابة بها. وعلى الرغم من أن الفكرة تبدو بسيطة، لكنها كانت الأولى في التاريخ التي تم تطويرها بعد ذلك للوصول إلى شكل قلم الحبر الذي نعرفه في العصر الحديث، فقد نقل عباس بن فرناس الإنسان من الكتابة بالريشة إلى الكتابة بالقلم الحبر.

عباس بن فرناس وتجربة الطيران

تُعد تجربة طيران عباس بن فرناس هي التجربة الأشهر في التاريخ التي أكسبته شهرة كبيرة على مرِّ السنوات، لكن معظم الناس لا يعرف أن عباس بن فرناس هو عالم ومفكر، وأدى كثير من التجارب والدراسات المتعلقة بأجنحة الطيور وحركتها والظروف المناخية المناسبة لعملية الطيران، إضافة إلى كثير من العمليات الحسابية التي تُقاس فيها السرعات والأوزان والعلاقات الرياضية، وهو ما استخدمه في صناعة الرداء الذي استخدمه في تجربة الطيران الذي كان مصنوعًا من الريش ليحاكي جهاز الطيران عند الطيور.

عندما جرَّب عباس بن فرناس بتجربة الطيران اعتمد على القفز من مكان مرتفع لكي يستطيع التحليق مدة من الزمن، لكنه أغفل صناعة الذيل الذي تعتمد عليه الطيور في عملية الهبوط، وهو ما جعله يسقط ويتعرض لإصابات في الكتف والقدم والظهر، وقالت كثير من المراجع إنه توفي نتيجة هذه التجربة، لكن الحقيقة أن عباس بن فرناس قد تعافى بعد هذه التجربة، وعاش بعدها نحو 12 عامًا.

اعتمد عباس بن فرناس على القفز من مكان مرتفع للتحليق مدة من الزمن لكنه أغفل صناعة الذيل

ومن الجدير بالذكر أن تجربة عباس بن فرناس كانت على مسمع ومرأى من جمهور الناس الذين كانت لهم ردود أفعال مختلفة، فمنهم من شعر بالدهشة، ومنهم من شعر بالفزع الكبير، وكثير منهم سخر من محاولة عباس بن فرناس الطيران، ولم يعرف معظمهم أن عباس بن فرناس بهذا الأمر كان سابقًا لعصره، فقد كرر كثير من المخترعين والمبتكرين تجربة عباس بن فرناس بعد ذلك بوسائل عدة، حتى وصلنا إلى مرحلة الطيران الشراعي الذي يستخدم تقريبًا فكرة عباس بن فرناس نفسها.

من ناحية أخرى قلَّد كثير من العرب تجربة عباس بن فرناس، ومنهم اللغوي المعروف (أبو العباس الجوهري) الذي قام بتجربة مماثلة لتجربة عباس بن فرناس عام 1003 ميلادية في مدينة خراسان، وقفز من على سطح منزله مستخدمًا الجناحين المصنوعين من الخشب، لكنه سقط ميتًا لأخطاء تتعلق بالحساب.

محاكمة عباس بن فرناس

أشرنا من قبل أن عباس بن فرناس كان سابقًا لعصره في كثير من الأمور، ومنها أمور الصيدلة والطب والعلاج بالأعشاب واستخدام النباتات، إضافة إلى تقديم كثير من الاختراعات والحيل التي جعلت كثيرين ينظرون إليه بدهشة، وجعلت كثيرًا من الجهلاء والوشاة يتهمونه بالشعوذة والسحر، حتى وصل الأمر إلى القاضي (سليمان بن الأسود الغافقي) الذي حاكم عباس بن فرناس، فأكد له عباس بن فرناس أن كل تجاربه في نطاق العلم، وليست لها علاقة بالشعوذة والسحر.

ومع الاستجواب والشرح والأخذ والرد لم يجد القاضي في أقوال وأفعال عباس بن فرناس أي شيء يتصل بالشعوذة والسحر، فحكم له بالبراءة، لكن الأمر لم ينتهِ عند هذا الحد، فقد تعرَّض عباس بن فرناس لمحاكمة أخرى داخل المسجد الكبير، وفي هذه المرة كانت التهمة هي الزندقة، وعلى الرغم تبرئته من الشيوخ لكنه تعرَّض للضرب من قبل بعض العامة حتى سقط مغشيًّا عليه، ولكن هذا هو مصير المبدعين والمختلفين في كل زمان ومكان.

تكريم عباس بن فرناس

على الرغم أن عباس بن فرناس لم يُكرم في عصره على النحو اللائق، لكنه يحظى بتقدير كبير على مستوى العالم. فقد سُميت فوهة قمرية باسم عباس بن فرناس، ووُضعت له كثير من التماثيل في أمكنة متفرقة في العالم، ومنها على سبيل المثال تمثال في مطار بغداد كُتب تحته (أول طيار عربي ولد في الأندلس).

تمثال عباس بن فرناس في بغداد بالعراق

إطلاق اسمه على كثير من الفنادق والمطارات والجسور، ومنها جسر عباس بن فرناس في قرطبة، المدينة التي عاش فيها، وتم صناعة تمثال كبير له في منتصف الجسر وهو يستعد للطيران مستخدمًا الجناحين، وفي مسقط رأسه في مدينة رندة يحمل المركز الفلكي اسم عباس بن فرناس شاهدًا على عبقرية الرجل وإنجازاته الكبيرة.

وفاة عباس بن فرناس

تُوفي عباس بن فرناس عام 887 ميلادية.

في نهاية هذا المقال الذي حاولنا من خلاله تقديم صورة كاملة وواضحة للعالم العربي الأندلسي عباس بن فرناس، ونرجو أن نكون قدمنا لك المتعة والإضافة، ويسعدنا كثيرًا أن تشاركنا رأيك في التعليقات، ومشاركة المقال على مواقع التواصل لتعم الفائدة على الجميع.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة