عامل البنزينة التجريبي !

عامل البنزينة التجريبي

علاء عامل زوايا عجل بإحدى محطات البنزين في طنطا، ورغم أنه لايقرأ ولا يكتب إلا أنه قرر فجأةً أن يهجر محطة البنزين ويصبح ممثلاً !

فقد علمته سنوات عمره المحدودة أن طريق الفن هو الحل هذه الأيام، خاصة وقد حفزَّه النجاح المدوي لجارتيه الجميلة سعاد والبدينة أماني.

الأولى هربت من أهلها للقاهرة بحثاً عن فرصة تطلق بها موهبتها كممثلة، فلم تمثل بل تزوجها منتج سينمائي لعدة شهور، ثم طلقها تاركاً لها طفلة وشقة وعملاً بملهى ليلي بشارع الهرم !

والثانية بدأت كومبارساً بالمسرح القومي، وانتهت نجمةً في تليفزيون طنطا ( ق 6 ) .

الورشة

سافر علاء للقاهرة، وبعد شهور من ( السنكحة ) واللف والدوران والتعب في شوارعها وبلاتوهاتها ومسارحها، وفي قهوة ( بعرة ) لتسول أي دور صامت أو متكلم، نجح بالحظ والتباتة والزن في أن يشبط في إحدى ( الورش ) الفنية بمسرح الطليعة بالعتبة .

وكلمة ( ورشة ) هنا ليست لزوم قافية زوايا العجل ..وإنما هي بالفعل تعبير فني استحدث في التسعينيات، ورسخ فصار أحد مفردات زماننا، ومعناه دورة تدريبية يأتي إليها المتدربون من الشوارع لمدة أسبوع إلى عشرة أيام، ليصبحوا بعدها ممثلين ومخرجين ومؤلفين !

فيتباهى الواحد منهم بعدد الورش التي التحق بها، ويكون مقياس التفاضل فيما بينهم هو عدد الورش التي حضرها كل منهم، 3 أو 5 أو 7 ورش !

صبري شعير

وكان " أسطى " الورشة التي تخرج منها علاء ممثلاً هو ( صبري شعير )، وهو مساعد مخرج هولندي من أصل مصري، جاء صحبة زوجته الممثلة الهولندية النكرة لتقديم (مونودراما) أو مسرحية هي بطلتها الوحيدة بمهرجان المسرح التجريبي عام 1991 .

لكن صبري تركها تعود لبلدها صحبة المنتج، وبقي كام يوم على حساب المنتج لزيارة الأهل والأقارب في إمبابة !

واستفاد صبري من الوقت بإنشاء ورشة فنية بمسرح الطليعة باعتباره خبيراً مسرحياً عالمياً !

وكانت أهم نتائج هذه الورشة عدا تخريج علاء ممثلاً، هو فوز صبري بعدة علاقات فنية أثمرت بعد عدة سنوات حصوله على دور ثانوي في فيلم " همام في أمستردام " !

المسرح الحر

وكان صبري يعامل تلاميذه المفتونين به كشيخ طريقة يردد تعاليمه بين مريديه طوال الوقت:

-         - مسرحي  هو مسرح متحرر من قيود الكلمات واللغات .. والحدود والقوميات .. والمذاهب والأديان .. فكلها  شكليات أو "كماليات" بلا معنى في زمان العولمه ."

-         - فأنا  لست سير وليم شكسبير، ولا مسيو موليير، ولا مستر ستانسلافسكي، ولا الرفيق بريخت، ولا يوسف بك وهبي، ولا زكي أفندي طليمات ( وبصوت جهوري) .. لا .. أنا صبري شعير ! .. ومسرحي لم ولن يكون سجيناً لتراث هؤلاء جميعاً  .. فتراثهم ليس أكثر من .. مظاهر بائدة  !

وكان لابد أن يؤيد الاسطى علاء وأشباهه هذه ( التجليات ) بكل قوتهم، فهم أميون أو أشباه متعلمين، وهذا الفكر المبهر يزيل من أمامهم عقبات العلم والدراسة بمعاهد التمثيل !

وتطرف علاء بشدة حتى صار أحد ( المساعدين الأربعة ) لصبري شعير ( بلا قافية ! )، بل صار (صامولة ) هامة في تيار شبابي كامل سمي وقتها " المسرح الحر"، وضم العشرات من فناني المسرح الحركي التجريبي ( العولمي ) من الأميين وحملة الابتدائية والشهادات المتوسطة ممن وحَّدهم التعالي على المسرح التقليدي وفنانيه وفي القلب منهم ( لبد ) علاء وتمادى وتطرف!

فهم فنانوا ونجوم القرن الـ 21 وسفراء ثقافة مصر إلى عالم جديد المتحرر من قيود  اللغات والقوميات والحدود والأوطان والأديان، والذين حطموا قيودهم بالصراخ والرقص والتمرغ في الأرض، وفرَّغوا طاقاتهم المكبوتة وحرمانهم واحباطاتهم خلال مسرحياتهم وفرقهم الصاعدة : الشظية - الضوء - المكعب والخيال - الفراغ المزدحم .. إلخ

الصعود

المهم أن علاء تخرج في " الورشة " بعد أسبوع " ممثلاً تجريبياً " قد الدنيا، بعد عدة تدريبات، وسرعان ما أخذ علاء دوراً حركياً وصار نجماً في مسرحية تجريبية صارت علامة وقتها هي ( أحدب نوتردام )، فقد ألغى مخرجها الشاب كلام مؤلفها المرحوم فيكتور هوجو، وحوله لمجموعة همهمات وإيماءات وشقلباظات على طريقة صبري شعير الذي اختفى من القاهرة فجأة !

ولخص هذه المسرحية وقتها  المخرج المشهور : " يابابا النور يطفي .. النسوان تصرخ .. العيال تتشنج .. وينزلوا ع الصالة وسط الجمهور وهما عمالين يهرشوا .. هو ده التجريب يا بابا !.

وكان لممثلي هذه المسرحية طقوس عجيبة قبل رفع الستار، إذ يتجمعون وسط خشبة المسرح، ويتصافحون جميعاً يداً واحدة، ثم يسحبون أيديهم بسرعة وهم يهتفون بالإنجليزية بقوة لسبب مجهول:

-        SON   OF  ****   !!!

 والعجيب أن هذه المسرحية نجحت نجاحاً باهراً ولسبب مجهول أيضاً، بل ونالت تنويهاً من لجنة التحكيم في ختام المهرجان التجريبي عام 1992، وقد تبناها وزير الثقافة شخصياً، وقيل وقتها أن نجاح (أحدب نوتردام) كان مصطنعاً بغرض التعتيم على النجاح المذهل لمسرحية ( اللعبة ) الشهيرة التي فضح مخرجها الشاب المرحوم منصور محمد الأنظمة البترولية العربية في عز انتصارات (عاصفة الصحراء) في حفل افتتاح المهرجان السابق، فقلب الدنيا على رأس المهرجان التجريبي ووزارة الثقافة، وتسببت في احتجاجات دبلوماسية عربية، بل واستجواب للوزير في مجلس الشعب!!

وقيل وقتها أيضاً أن مخرجها كان صديق الوزير الحميم، فخشاه الجميع وتكالبوا على نيل رضاه، بل ورضا كل أعضاء فرقته، خاصة مستشاره (الأنتيم ) الاسطى علاء الذي انفتحت كافة الأبواب أمامه وهو يمشى مختالاً كالطاووس، وهو لايجد قوت يومه، وصار فرخةً بكشك لدى كبار صغار، وصغار كبار مسئولي هيئة المسرح!

وكان أول طلب نفذوه للمخرج (الطاووس) هو نقل المسرحية فوراً من مسرح الطليعة بالعتبة إلى مسرح الهناجر ( 5 نجوم )، وذلك بعدما تفلسف علاء في ملأٍ ذات مرة، وشبهه بعشة الفراخ أو ( عفشة العربية الموسكوفيتش التي تخبط وهي تمشي قائلةً : لينين .. لينين .. لينين ! )، نقلوا المسرحية ! .

ولما طلب المخرج وظيفةً لعلاء رحمةً بظروفه القاسية، وليتخلص من كثرة طلباته !، عينوه على الفور في وظيفة فني صوت بالمسرح دون أن يسألوه حتى عن شهادة ميلاده .. وذلك للانتفاع بخبرته العملية في ضبط زوايا العجل وتزويد زيت الفالفلين !!

على القمة

وفي مسرح الهناجر وخلال أسابيع صار علاء علماً من أعلام مسرح الهناجر، وأحد أهم ركائز أو ( مقصات ) حركة التجريب في المسرح المصري، ونفش ريشه بعدما صار معارفه وأصدقاءه من الصفوة :

صحفيين.. نقاد .. تشكيليين .. متفرنجين .. روتاريين.. مسؤولين ثقافيين .. وغير ثقافيين .. وزراء سابقين .. إفرنج بلديين.. أرمن .. مثليين .. فرانكفونيين .. ماسونيين .. إلوميناتيين.. ومخلوقات أخرى عجيبة لا تراها إلا هناك !

كما صار له أًصدقاء أجانب كثيرون من عابري السبيل من المسرحيين الأجانب النكرات في بلادهم، الآتين كالبمبوطية، كأخينا صبري شعير، ليتصيتوا في أم الدنيا ( فول بورد )‏ !

وكان على علاء لكي يحيا أن يسترضيهم أو يحمل لهم حقائبهم، ليشغلوه في مرماتهم التجريبية، فالمرتب لا يكفي وحده، فصار لا يرى إلا بصحبة الأرجنتيني خايمي ليما أو الإيطالي جاني فيوري أو اللبناني وليد عوني أو الفرنسي جاك ميسا .. وغيرهم .

وبانت النقلة الحضارية على الولد، فلبس كاسكيته في منتصف الليل، وصار لا يمشي بدون أن يحمل تحت إبطه كتباً و كتالوجاتاً وبانفلتاتاً لمسرحيات وباليهات أجنبية أو مصرية كالأجنبية !

سفر المطرودين

ومثل علاء للمرة الثانية في افتتاح المهرجان التجريبي 1993 بالأوبرا، فأدى دوراً حركياً في مسرحية مصرية المخرج، بولندية الطابع والنشأة والمذاق، اسمها ( سفر المطرودين )، ولاحظ يا عزيزي كلمتي ( سفر ) التوراتية، و ( المطرودين ) وهم أولاد عمنا اليهود !

ولذا حملت المسرحية رائحة حارات اليهود ( الجيتو ) في شرق أوربا، بعذاباتها ومعاناتها وأجواءها الرمادية الكئيبة، فارتدى ممثلوها البلاطي والبرانيط السوداء وأحاطتهم مواسير رمادية ضخمة !

أحلام معدلة

وتطورت أحلام علاء، فلم يعد هدفه فقط هو أن ينجح أكثر من نجاح جارتيه سعاد وأماني، بل تطلع لما هو أبعد، وصار هدفه السفر لفرنسا للتمثيل في مهرجانها الشهير في أفينيون، درة المهرجانات الفرانكوفونية، أسوة بكل من سبقوه من فناني مصر التجريبيين المشهورين هناك و النكرات هنا ( ح . ج ) و ( ع . د ) و ( خ . ج ) ..

لكن الفارق بينه وبينهم هو أنه خطط للهرب هناك، لينضم لفرقة مسرحية فرنسية، فإن لم ينجح فلمحطة بنزين !!

وبلؤم الفلاحين الأزلي خطط لنيل رضا شخصية ثقافية فرانكوفونية هامة، لأنه من رضا مسيو شيراك وقتها ( ماكرون الآن ! ) .

فلما علم باستضافة هذه الشخصية للمخرج  البولندي الكبير مستر شاينا ( يهودي ) لينشأ ورشة لتدريب الهواة، سارع بالالتحاق بها تملقاً و دحلبةً، ولم يدري أن تلك الورشة كانت آخر عهده بفن التمثيل !

وكما قال المثل الشعبي :

- ما طار طيرٌ وارتفع !

وكما طار وقع

قدم الخواجة شاينا بصبيانه في نهاية ورشته عرضاً مسرحياً تجريبياً عجيباً كان ( بلا مبالغة ) عبارة عن إبن آوى واقف في يمين المسرح، وثعبان ضخم في اليسار، وبينهما ممثلين عراه قرع يحملون حجارة صفراء، وممثلات يدرن داخل فرد كاوتش سيارات نقل ( نقاها واشتراها علاء بنفسه ! )، والكل لنصف ساعة يصرخون في سماعات التليفون : آلو .. آلو ..، وما من مجيب !

فلما تساءلت إحدى المشاهدات وهي طبيبة كبيرة :

-         أنا مش فاهمة !

صرخ فيها جارها مخرج روائع القطاع الخاص :

- بلاش جهل .. اتعلموا المسرح بقى .. جاتكوا القرف !

وأوقع علاء سوء حظه وقعةً غير مسبوقة في تاريخ المسرح المصري .. التجريبي أو التقليدي !

فقبل رفع الستار بدقائق، ارتجل الخواجه ( شاينا ) إضافةً للعرض فعلق في رقبة علاء جردل ماء بلاستك صغير، وأعطاه ملعقة شاي، وكلفه بالمرور على المتفرجين بالصف الأول في نهاية المسرحية، ليرشهم بالماء واحداً واحداً، وكأن بينه وبينهم ثأراً، فرش الماء في مصر .. عداوة !!

فكانت الواقعة

فقد نفذ علاء شطحة المخرج البولندي حرفياً، فتقدم في نهاية العرض من بين المتفرجين إلى الصف الأول، وبدأ في رش الماء بالملعقة من جردله على كبار الضيوف الجالسين بالصف الأول من الوزراء وكبار المسئولين والفنانين والكتاب العرب والأجانب، فلما وصل لمنتصف الصف وجد مسئولاً كبيراً، لم يره سابقاً إلا في الصحف، فتجمد علاء أمامه، ووقف مبتسماً ببلاهة، وأخذ يرش الماء عليه وعلى ضيوفه، وأطال علاء الوقوف وهو ينظر بركن عينه لعل المصور الفوتوغرافي القريب يفهم ويأتي  مسرعاً لتصويره وهو يرش الماء في العالي !

النهاية

في البداية ابتسم المسؤول الكبير لطرافة الموقف، لكن لما طال و باخ، بدأ يشعر بالإحراج والتوتر، فنهض حارسه الشخصي من خلفه فوراً ليدفع هذا الجربوع الذي يرش بالماء مولاه !

ولم يقدر أي أحد أن يمنعه لسرعة حركته، فطار علاء في الهواء بجردله ليسقط  بعيداً، ولولا أن تصادف إظلام المسرح لانتهاء المسرحية لصار الأمر فضيحة فضائية على الهواء ! .

ومرت الدقائق التالية كالحلم على  علاء الذي حطمت دفعة المارد ضلوعه، بينما تبرأ المخرج البولندي من فعلته واعتذر هو والمديرة للمسئول الكبير .

ونقل علاء في شبه غيبوبة لمكتب وجد به مسئولين كبار رآهم للمرة الأولى، أحدهما رئيس قطاع، والآخر وكيل وزارة، حيث وبخاه بشدة، ثم أوقفاه عن العمل لعدم وجود شهادات دراسية ضمن مسوغات تعيينه، وصارحه الوكيل القول ( وهو متفرنج بشع )

-        أنه لا يعترف به أبداً كفنان ولا كموظف لأنه أصلاً ولا حاجة !

ورماه الرجلان للشارع في ثانية هاتفين :

-        إحمد ربنا أن اكتفينا برفدك يا واطي ..

-        انت مكانك التخشيبة يا عره .. بره !

وهكذا ضاع مستقبله الفني بسبب حماقته ورغبته في التصوير مع المسئول الكبير وهو يرشه بالماء، ولم تشفع له كل إنجازاته، ولا الخمس ورش التي حضرها، ولا صداقاته المحلية والدولية .

وطرد علاء إلى الشارع الذي أتى منه شر طردة .

وبعد عشر سنوات

قابلته في حفل رأس السنة على ظهر مركب نيلي في أسوان، كان يقف متوارياً في ظلام أحد الكواليس وهو يراقب أداء الراقصة شبه المعروفة سعاد (بلدياته) التي كان نجاحها سبب مأساته !

فقد صعب عليها زمان لما رأته يوم طردوه من الأوبرا يبكي أمام باب الممثلين بأحد مسارح عماد الدين، فألحقته بفرقتها ( نباطشياً )، أي شيالاً للآلات الموسيقية، يحملها من السيارة النصف نقل خارج الملهى أو المسرح أو الفرح، ليرصها في مكانها على البيست قبل وصول الأساتذة الموسيقيين !

رأيت عيناه تبرق ببريق عجيب وهو يتابع أداء الموسيقيين وحركات الراقصين ،وموقف الصوت والإضاءة، وهو يكلم نفسه ويتمتم غاضباً دائماً لسوء أداء الجميع !

وكان يحمل تحت أبطه ملف قديم مزيت لم يفارقه طوال السنوات، فيه صورقديمة له وهو يمثل، أو وهو بصحبة علية القوم ( ف . ح ) و ( د . هـ . و )، و بانفلتات لريبورتواره وأعماله .

فلما حييته وميزني بصعوبة بعيون أنهكها السهر والحرمان، وعقل جرَّفه الشقاء والإدمان، انطلق راوياً ولم أقدر أن أوقف حكاياته وقصصه المتدفقة، وكل أبطالها اليوم هم نجوم كبار ملئ السمع والبصر، زاملوه زمان في ورشة صبري شعير ..

نجمة التليفزيون فلانة التي جاءت من الواحات وتبناها فلان ! ..

ونجم السينما علان، الذي كان سائق لوري ثم صعدته علانة التي تزوجها عرفياً !  

و و  و و  !

انتهت

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

هل تحب القراءة؟ كن على اطلاع دائم بآخر الأخبار من خلال الانضمام مجاناً إلى نشرة جوَّك الإلكترونية

نبذة عن الكاتب