كان العرب إذا نبغ فيهم شاعرٌ أو خطيبٌ احتفلوا به، وأقاموا الأفراح في قبيلتهم، فهم يرون وجود نابغة بينهم هو نبوغ للقبيلة كلّها، ومردّ هذا إلى أنّ مجالس العرب كانت لها طقوسها الخاصّة، ممّا يجعل أبناء القبيلة كلّهم ينهلون من ذاك النّابغة أو الخطيب.
أمّا الشّاعر فهو بمثابة السّدّ المنيع الّذي يدرؤون به تعدّيات القبائل الأخرى عليهم، فالشّاعر يستطيع أن يرفع أقواماً بمديحه، ويحطّ من شأن أقوام بالهجاء؛ لذلك تجد كلّ العرب يتجنّبون ازعاج الشّعراء خوفاً من ألسنتهم الحادّة.
اقرأ أيضاً بعض الخطوات للتعامل الأمثل مع الناس.. تعرف عليها الآن
عادات قديمة عند العرب
من عادة العرب في مجالسهم ألّا يتكلّم فيهم إلّا الكبير، وصاحب الخبرة والرّأي السّديد، ثمّ إنّ الجميع يستمع ويستقي من قصصهم وتجاربهم وخبراتهم في الحياة، فينشأ الأبناء وقد أخذوا من الآباء معيناً وتحصيلاً فريداً من الحكم والقصص وأخبار الأوّلين.
فضلاً عن هذا فإنّ للمجالس آداباً في كيفيّة الجلوس أمام الكبار بأدب جمّ، وانتباه لحركات الجسد، فلا يجلس الصّغير أمام الكبير متّكئاً، ولا مستلقياً، ولا واضعاً رجلاً على أخرى، ولا شارحاً يديه بانبساط، كلّ هذا يستحيل أن تجده في مجالس القوم قديماً.
أمّا ما نجده اليوم في مجالسنا من أحوال مؤسفة، وتصرّفات سخيفة لا تمتّ إلى الأخلاق بصلة، ولا تسرّ الخاطر على الإطلاق، فعلى سبيل المثال اثنان يتحدّثان على انفراد مع بعض في موضوع، وآخران يتحدّثان في موضوع ثانٍ، وإلى جانبهم مجموعة أيضاً يتناقشون بموضوع ثالث.
والأسوأ من هذا وذاك أن تجد شخصاً يجلس إلى جانب آخر، وكلّ واحد يتحدّث إلى شخص مقابله، فتتعالى الأصوات، وتتقاطع القصص، فلا هذا يفهم على هذا، ولا ذاك يفهم على ذاك، ويستمرّ الحال ربّما لأوقات طويلة، ويبدو المجلس كأنّك في مقهى، أو تجد من يقاطعك وأنت تتكلّم كما هو حال الكثير في مجالس النّقاش والحوار اليوم، مع أنّه من أدب الحوار أن تستمع للمتكلّم، وتنصت له، ثمّ إذا ما انتهى من حديثه تبدأ أنت بالحديث.
اقرأ أيضاً فن الحوار والتخاطب.. تعرف على أثر الكلمة في النفس
احترام الكبير موروث شعبي
وفي الموروث الشّعبيّ يقولون لمثل هذه المجالس مجالس نساء؛ لأنّ النّساء مشهورات في هذا اللّغط دوماً، وقد يقولون (حمام نسوان مقطوعة ميته) كناية عن هذه الحالة الاجتماعيّة المؤسفة.
لقد حضرت في طفولتي مجالس للرّجال لا يستطيع الأولاد والشّباب أن ينبسوا ببنت شفه بحضور الرّجال الكبار وهم يتكلّمون، فإذا ما كان أحد الشّيوخ وكبار السّنّ يتكلّم أنصت الجميع كأنّ على رؤوسهم الطّير يستمعون ويعون ما يقول، ترى ما الّذي أوصلنا إلى هذه الحال من جرأة الصّغير ليتكلّم في حضرة الكبير دون خوف أو أن يجلس الصّغير في حضرة الكبير متّكئاً أو تجده مستلقياً بوجوده أو واضعاً رجلاً على أخرى دون أن يعير هذا التّصرّف أيّ أدب واحترام للكبير.
إنّنا أمام انهيار في منظومة الآداب العامّة الّتي نشأنا عليها، ربّما من وسائل الإعلام ووسائل التّواصل الاجتماعيّ، ومشاهدة عادات مجتمعات أخرى لا تمتّ لأخلاقنا وقيمنا وعاداتنا بصلة، وعلى أصحاب الشّأن إعادة النّظر في منظومة التّعليم أوّلاً والحرص على نشر تقاليدنا الأخلاقيّة القديمة بين صفوف الأولاد والشّباب، فموروثنا الأخلاقيّ المعتمد على الآداب الإسلاميّة يحمل من القيم ما لا تجده عند غيرنا من شعوب الأرض.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.