استطاعت الكاتبة المصرية "هايدي عمار" في قصتها القصيرة "خيول من زجاج" والمنشورة في المجلة العربية، السعودية، العدد (545)، فبراير 2022 م، رجب 1443هـ، أن تستوقف لحظة من شريط الحياة، سجلت لقطة مكثفة في قصة قصيرة تحمل على متن كلماتها الرشيقة أحداثًا في أوج تصاعدها.
اقرأ أيضًا مميزات القصة القصيرة جدًا
قصة خيول من زجاج
ففي 343 كلمة فقط، حكت معاناة أم موهوبة في صناعة الخيول الزجاجية مع أبنائها الثلاثة، واتهامهم لها بأبشع تهمة تتهم فيها امرأة، ومع من؟ مع الرجل الذي يأتي كل مدة لشراء تلك الخيول، إلى أن انتهى بها الحال معهم، بأن كسرت ما صنعت كافة، وتركت لهم البيت، فانطلقوا يبحثوا عنها في كل مكان دون جدوى، فتطرح القصة لمجموعة قضايا اجتماعية متشابكة ومتداخلة.
عن عمل المرأة المعيلة التي تربي وتبني مستقبلًا لأبنائها بعد تغيب زوجها عنها سواء بالوفاة (أرملة) أو الانفصال بالطلاق (مطلقة)، وطمع هؤلاء الأبناء في مالها الذي جمعته من عمل يدها، بل ونكرانهم جميلها وعقوقها بالشك في سلوكها.
تتسم قصة "خيول من زجاج" بالصدق الفني، ورهافة انتقاء الكلمات، لتصوير واقع له خصوصية شديدة، وحساسية في تصاعد الحدث الدرامي ونمو الشخصيات، فأبطال القصة هم: الإخوة الثلاثة، والرجل الأعرج، والأم، والرجل العجوز الثري، وانتهت القصة نهاية مفتوحة (أخذ الإخوة يفكرون في ما فعلوا في حق أمهم، وانطلقوا معًا في رحلة دامت أعوامًا بحثًا عنها، لكنهم لم يعثروا عليها حتى الآن).
صحيح أنهم أدركوا خطأهم الفادح (الشعور هو إدراك المرء لذاته، أفعاله وانفعالاته إدراكًا مباشرًا، وعرف العالم "هاملتون" مفهوم الشعور بأنه معرفة النفس بأفعالها، وانفعالاتها)، ولكن لا يدرون أين ذهبت أمهم فقد تركت لهم البلدة كلها وبعدت عنهم نهائيًّا، فلم ولن يستطيعوا إصلاح ما أفسدوه من سوء نية والخطيئة الكبرى في حقهم أمهم "الأم نعمة عظيمة ومهما فعلنا، فلن نوفي حقها".
يعد عقوق الوالدين من أكبر الكبائر عند الله سبحانه وتعالى، ليس فقط المتعارف عليه من خلال قلة الاحترام بالصراخ أو الشتم في وجه الوالدين، فما بالنا باتهام الأم في شرفها (قرر الإخوة الثلاثة أخيرًا تفجير كل الأفكار والشكوك التي خطرت لهم طوال السنوات الماضية في وجه أمهم، فقد اعتقدوا أنها اتخذت لها عشيقًا في السر تنفق عليه كل الأموال التي كانت تجنيها من صناعة تماثيل الخيول الزجاجية).
اقرأ أيضًا أجمل القصص القصيرة والواقعية
مفهوم اللاشعور من وجهة نظر علماء النفس
أشار علماء النفس إلى مفهوم اللاشعور بأنه مجموعة من الرغبات، والأفكار، والأشياء الداخلية، والتجارب المؤلمة التي يكبتها الإنسان، ولكن العقوق قد يأخذ أساليب أخرى لا يدرك خطورتها بعض الأبناء، والتي قد تتسبب بجرح غائر في نفسية الأبوين يصعب علاجه بسهولة.
إن الحياة النفسية للأم حياة غير شعورية (أدركت الأم أن الاتهامات التي يبدو أنهم طبخوها على نار هادئة بمكر، ما هي إلا عقاب لها على كل الوقت والجهد الذي صرفته على هوايتها الأصيلة في صنع الخيول الزجاجية)، فالأم عندما تكبر في السن تصبح أكثر حساسية، لذا تجدها تتحسس من تجاهل الأبناء أو إدخالهم في مشكلاتهم الخاصة، وذلك لأنها لا تتحمل رؤية أبنائها يتألمون أو يعانون بعض الأمور في حياتهم.
ماذا حدث لأبنائنا؟ ولماذا هانت على الأبناء حياة آبائهم إلى هذه الدرجة؟ (حتى إنهم لم يعرفوا ما المبلغ الذي كانت تتقاضاه في مقابل تقديم خيولها الجامحة متقنة الصنع لهذا الرجل الأعرج، لرفضها حضور أبنائها عملية البيع، الأمر الذي أشعل غضبهم وزاد حقدهم عليها)، ولماذا ماتت كل المشاعر الإنسانية داخل هؤلاء الأبناء وهم يتعاملون مع من أنجبوهم وربوهم وعلموهم وسهروا على رعايتهم وتحملوا كل المشاق وربما الإهانات من أجل راحتهم؟
(كان لهيب الاتهام ضرره أشد وقعًا على الأم من اللهب الحقيقي الذي كانت تتعامل معه يوميًا لصنع التماثيل الزجاجية)، ومن أين جاءت كل هذه القسوة في تعامل الأبناء مع آبائهم الذين جاءت كل النصوص القرآنية والأحاديث النبوية تحذر من مجرد إغضابهم بكلمة أف؟ لأن الوعي لدى "الإخوة الثلاثة" لا ينظرون إليها إلا باعتبارها أخطاء.
مع أن فهمها الحقيقي لا يكون إلا في مستوى غير شعوري، "فأنت ترى الإنسان السليم، كالمريض على السواء يبدي من الأفعال النفسية ما لا يمكن تفسيره إلا بافتراض أفعال أخرى يضيق عنها الشعور".
(لم تمتلك الكلمات لتدافع عن نفسها، فما كان منها سوى الذهاب للغرفة الخاصة بهوايتها ودفع التمثال الكبير الذي عكفت على صنعه عدة أشهر، ليتحطم مئة قطعة بمجرد ملامسته للأرض، ما أثار دهشة أبنائها)، يعد الشعور حالة مؤقتة تتحكم بها عوامل عدَّة، مثل الشعور بالجوع، والشعور بالسعادة، والشعور بالحزن، والشعور بالكآبة.
وهنا بالقصة شعور الأم كان الحزن والغضب من أبنائها، فتلك الأم بطلة قصة "خيول من زجاج" فنانة موهوبة مرهفة الحس والمشاعر، فهي تجيد فنون النحت وتشكيل الزجاج بمهارة متناهية النظير.
اقرأ أيضًا دراسة نقدية في مجموعة حارس الغيوم القصصية
رؤية الدكتور محمد سليم العوا في هذا الموضوع
ويرى الدكتور محمد سليم العوا، المفكر الإسلامي المعروف (تحقيق صحفي نشر بصحيفة "الخليج" بتاريخ 29 سبتمبر 2011) أن مظاهر القسوة والعنف في سلوك الأبناء تجاه آبائهم وأمهاتهم وأشقائهم وأقاربهم تكشف عن حالة من الجحود ونكران الجميل وفقدان كل القيم والأخلاقيات الإسلامية والإنسانية التي يجب أن تحكم تصرفاتنا، لكنه هنا يحمل بعض الآباء والأمهات الذين يشكون جحود وقسوة أبنائهم بعض المسؤولية.
إذ ربى هؤلاء أبناءهم على العنف والقسوة منذ الصغر، ومن تربى على العنف فلا بد من أن يدمنه ويتعود عليه ويمارسه مع الآخرين حتى ولو كانوا الآباء والأمهات!، "وقبل أن تدخل غرفة نومها التفتت إليهم في غضب وتحدٍّ وقالت: (أنتم لا تستحقون)".
إن القصة القصيرة في معظم الأوقات تركز على شخصية واحدة (الأم)، وموقف واحد (غضب الأم من أبنائها وتركت لهم الدنيا كلها وبعدت عنهم)، ولكن هذا الأمر لا يعني أن القصة القصيرة لا تتكون من أكثر من شخصية واحدة (الإخوة الثلاثة والرجل الأعرج والرجل الثري العجوز)، ولكن تختلف أهمية الأدوار وتتفاوت درجتها من شخصية لأخرى، كما أن طريقة سرد القصة تأخذ منحى معينًا.
يخدم الحوار بالقصة الحدث، هو يتسم بالبساطة، (جاء الرجل الأعرج الذي اعتاد أخذ التمثال كل مرة، وعندما أخبروه بعدم وجود أي تمثال يُقدم له بعد ما فعلته أمهم، استشاط الرجل غضبًا ورحل)، فمن الواضح أن كل من يتعامل مع هؤلاء الإخوة الثلاثة لا بد أن ينتهي به الأمر للغضب الشديد منهم، ثم ترك المكان الذي يجمعه به.
فالأم غضبت وتفوهت بكلمات بسيطة وتركتهم ودخلت غرفة نومها، والرجل الأعرج استشاط غضبًا ورحل، ولكنه (سرعان ما عاد ومعه رجل عجوز تبدو عليه معالم الثراء والنعمة، طلب الرجل بوقار مصطنع الحديث مع أمهم).
أخذ فن القصة القصيرة من الشعر توتره وكثافته ومن الفن الدرامي حركته وسرعة إيقاعه، (عندما ذهب أحد الإخوة لاستدعاء الأم لم يجدها في غرفتها ولا في أي مكان في المنزل أو الحي، لقد رحلت)، وإلى هنا يأخذ الصراع منحى جديدًا وشديدًا بين شخصيات القصة.
فقد أصبح الإخوة الثلاثة بعد تغيب الأم في مواجهة هذا الرجل العجول الثري (وقتها قرر الرجل العجوز الخروج عن وقاره وكأنه تحول لإنسان آخر، وطلب من الإخوة الثلاثة الخروج حالًا من المنزل، وعندما استهجن الإخوة تصرف العجوز.
أخبرهم الرجل الذي كان يأخذ من أمهم التماثيل أن إقامتهم في هذا المنزل طوال هذه السنوات كانت بفضل الخيول الزجاجية التي كانت تصنعها والدتهم وتقدمها للرجل العجوز الثري صاحب المنزل)، وقد استطاعت الكاتبة وصف الشخصية من الناحية الاجتماعية والنفسية (البعدين النفسي والاجتماعي)، بالحديث عن طريقة تعامله مع الآخرين في المجتمع.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.