ظاهرة التنمر بين الجريمة المهينة والبطولة الوهمية ج 1

مصطلح «تنمر» في اللغة العربية له جذور تعود إلى كلمة «نَمِر» التي تشير إلى الحيوان المعروف بصفاته العدوانية والشجاعة؛ أي إن المصطلح فيه جزء سلبي، وهو العدوانية، وجزء إيجابي، وهو الشجاعة، واختلاط العدوانية بالشجاعة في المفهوم الثقافي العربي ربما يرجع إلى سياق اجتماعي وثقافي قد يبرر للمجتمع الإعجاب بالمتنمرين بسبب الحنق على الأوضاع الاجتماعية أو السياسية.

ولكن هل يسعى المتنمر حقًّا للثورة على الظالم الحقيقي، أم أنه يختار ضحاياه من طبقة المجدين المجتهدين؟ فغالبًا ما تتسم شخصية المتنمر بالجبن، فلا يجهر بعدوانيته لأصحاب القوى، ويفضل توجيه طاقاته التنمرية للأشخاص المجدين، بل إنه قد يتحالف مع أصحاب القوى لقهر منافسيه من الطبقة الجادة.

وهذه الفروق الدقيقة قد تغيب عن وعي العامة، فيعاملون المتنمر على أنه شجاع على الرغم من معرفتهم بسوء نياته ووضاعة أهدافه الخبيثة التي تسعى لتدمير الآخرين وملاحقتهم بالتشويه والأكاذيب والوشاية. ففي المجتمعات ضحلة الثقافة، يجد المتنمرون بيئة مناسبة للحياة واستثمار آلياتهم غير الأمينة في النيل من الآخرين، على الرغم من أنهم لو استغلوا نفس هذه الطاقة في عمل شيء جاد، لكانوا بلا شك أكثر نفعًا لأنفسهم وللآخرين.

بدأ يُستخدم هذا المصطلح بصورة واسعة في السنوات الأخيرة على المستوى الإعلامي لوصف السلوك العدواني والمتكرر الذي يستهدف شخصًا آخر بغرض إيذائه أو إلحاق الأذى به على مستوى نفسي أو اجتماعي. وهذا يعني أن المستوى الإعلامي أكثر وعيًا من المستوى الاجتماعي.

أما لعلاقة مصطلح «تنمر» في العربية بمصطلح «bully» في اللغة الإنجليزية، فكلمة «bully» كانت تُستخدم في الأصل للإشارة إلى الشخص الذي يتصرف بعنف أو عدوانية تجاه الآخرين. ومع مرور الوقت، تطورت الكلمة لتشمل أنواعًا مختلفة من الاضطهاد والتنمر النفسي والجسدي؛ لذلك، يمكن القول إن مصطلح «تنمر» في اللغة العربية يظهر المفهوم نفسه الذي تحمله كلمة «bully» في اللغة الإنجليزية.

أما في اللغة الإنجليزية، فإن مصطلح «bully» له تاريخ أطول، إذ كان يُستخدم في القرن السادس عشر بمعنى «حبيب» أو «رفيق»، لكنه تطور مع الزمن ليأخذ معناه الحالي الذي يشير إلى الشخص الذي يتصرف بعدوانية تجاه الآخرين.

إذًا، المصطلح في اللغة الإنجليزية كان له جانب إيجابي واختفى، وهو الحب، أما في اللغة العربية، فإن جانبه الإيجابي هو الشجاعة، والذي لم يختفِ على المستوى الاجتماعي غير الرسمي.

النفسية السيكولوجية للمتنمر وتأثيرها في سلوكياته

تحليل النفسية السيكولوجية للمتنمر يتطلب فهم العوامل النفسية والاجتماعية التي تؤثر في سلوكياته، توجد أسباب عدة قد تدفع الشخص إلى التنمر، منها:

قد يكون التنمر نتيجة لمشاعر الغيرة والحسد تجاه نجاحات أو مميزات الآخرين

انعدام الثقة بالنفس: قد يلجأ المتنمر إلى هذا السلوك لتعويض شعوره بالنقص أو عدم الثقة بالنفس، إذ يشعر بالقوة والسيطرة بممارسة إيذاء الآخرين.

الغيرة والحسد: يمكن أن يكون التنمر نتيجة لمشاعر الغيرة والحسد تجاه نجاحات أو مميزات الآخرين، ما يدفعه إلى محاولة التقليل من قيمة الضحية لتحقيق نوع من التوازن النفسي.

التعرض للعنف: الأشخاص الذين تعرضوا للعنف في الماضي قد يصبحون متنمرين نتيجة لتجاربهم السابقة، إذ يحوِّلون العدوان السابق عليهم إلى عدوان على آخرين.

توثر هذه العوامل على اتجاهات وسلوكيات المتنمر، إذ تتسم بالعدوانية، والانعزال الاجتماعي، وانخفاض الأداء الأكاديمي نتيجة تركيز جهوده في إيذاء الآخرين.

التنمر وانفصام الشخصية أو الشيزوفرينيا

انفصام الشخصية «الشيزوفرينيا» هو اضطراب نفسي يؤثر على طريقة تفكير الشخص، ويتميز بأعراض مثل الهلوسة والأوهام وصعوبة التفكير والتركيز. أما التنمر فهو سلوك عدواني متعمد يهدف إلى إيذاء الآخرين جسديًا أو نفسيًا، وغالبًا ما يكون نتيجة لعوامل اجتماعية ونفسية مثل انعدام الثقة بالنفس أو التعرض للعنف.

التنمر واضطراب الشخصية النرجسية

يوجد توافق بين التنمر واضطراب الشخصية النرجسية، الذي يتميز بما يلي:

  • إحساس مبالغ فيه بأهمية الذات وتفوقها على الآخرين.
  • الافتقار إلى التعاطف مع مشاعر واحتياجات الآخرين.
  • الحاجة المستمرة إلى الحصول على إعجاب الآخرين بطريقة مفرطة.
  • الشعور بالاستحقاق في معاملة وامتيازات خاصة.
  • استغلال الآخرين لتحقيق أهدافه الشخصية دون مراعاة لمشاعرهم أو احتياجاتهم.
  • الانشغال بأوهام النجاح والقوة.
  • التصرف بعجرفة وغرور، والتباهي بإنجازاته غلى نحو مبالغ فيه.
  • يشعر المتنمر بالحسد تجاه الآخرين ويعتقد أن الآخرين يحسدونه.

هذه العلامات تكون البنيان النفسي للمتنمر، وتشكل وقود أفعاله العدوانية.

لماذا تزايدت ظاهرة التنمر مع تزايد وسائل التواصل الاجتماعي؟

توجد أسباب عدة لاستفحال ظاهرة التنمر مع نمو وسائل الإعلام وتزايد وسائل التواصل الاجتماعي، منها:

تتيح وسائل التواصل الاجتماعي للمتنمرين إخفاء هويتهم فيتصرفون بعدوانية دون خوف من العواقب

  • تتيح وسائل التواصل الاجتماعي للمتنمرين إخفاء هويتهم، ما يشجعهم على التصرف بعدوانية دون خوف من العواقب.
  • يعطي الانتشار السريع لوسائل الإعلام الحديثة والتواصل الاجتماعي إحساسًا مرضيًا للمتنمر بفاعلية الأذى والأثر الضار الذي ينفثه في المجتمع، ما قد يؤثر في الضحية بسرعة كبيرة تزيد شعوره بالنجاح في تنفيذ أهدافه الإجرامية.
  • تتيح وسائل التواصل الاجتماعي للمتنمر أن يصل إلى ضحيته في أي وقت وأي مكان، ما يشجعه أكثر على مزاولة العدوان ليلًا ونهارًا وأينما كان، وهذا يزيد شعور المتنمر بالقوة والإنجاز، فيسعى في عمله الشائن بلا كلل.
  • غياب الرقابة على منصات التواصل الاجتماعي يسمح بانتشار السلوكيات السلبية، ويترك الحرية للمتنمرين الأوغاد.
  • سهولة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي تحت أسماء مجهولة أو مستعارة أو حسابات وهمية تتيح حرية أكبر للمتنمرين للعبث والإيذاء دون حساب أو عقاب. وقد يخفي المتنمر شخصيته بعض الوقت، ولكنه عندما ينجح جزئيًّا أو كليًّا في النيل من الضحية، يكون أول الظاهرين كي يجني ثمار ما فعل في الخفاء تحت اسم مستعار.

المكاسب الرخيصة التي يحققها المتنمر

التنمر يمكن أن يحقق للمتنمر بعض الفوائد النفسية والاجتماعية غير الصحية، مثل:

  • الشعور بالقوة والسيطرة عندما ينجح في إرهاب أو إزعاج الآخرين.
  • تعزيز الثقة بالنفس إذا كان يعاني مشكلات في تقدير الذات.
  • الحصول على الاهتمام بجذب انتباه الآخرين، والإحساس بأنه مركز الاهتمام.
  • التنفيس عن مشاعر الإحباط والغضب التي يعانيها المتنمرون في حياتهم الشخصية.
  • زيادة التأثير الاجتماعي للمتنمر الذي يسعى إلى تحسين مكانته الاجتماعية بين أقرانه بإظهار القوة والسيطرة.

وهذه المكاسب قصيرة الأمد، لا تؤدي إلى تحسين حقيقي في حياة المتنمر، بل يمكن أن تؤدي إلى عواقب سلبية على المدى الطويل لكل من المتنمر والضحية.

ما العوامل التي تدفع المتنمر للتمادي والطغيان؟

  • انعدام الثقة بالنفس: هذا الأمر يدفع المتنمرين للعدوان كونه وسيلة لتعويض شعورهم بالنقص.
  • الغيرة والحسد: قد يكون التنمر نتيجة لمشاعر الغيرة والحسد تجاه نجاحات أو مميزات الآخرين.
  • التعرض للعنف: الأشخاص الذين تعرضوا للعنف في الماضي قد يصبحون متنمرين لتعويض إحباطاتهم.
  • البيئة المنزلية السلبية: وهي البيئة التي تفتقر إلى الحب والاحترام.
  • ضغوط الأقران: يمكن أن تدفع الأفراد إلى ممارسة التنمر لكي يتم قبولهم في مجموعة معينة.
  • الثقافة المجتمعية: ونعني هنا الثقافة التي تتسامح مع العنف والعدوانية تزيد انتشار هذا السلوك.

البيئة المنزلية السلبية التي تفتقر إلى الحب والاحترام تدفع المتنمر للتمادي والطغيان

النتائج السلبية للتنمر

يمكن أن يؤدي التنمر إلى مشكلات نفسية مثل الاكتئاب والقلق وانخفاض تقدير الذات لدى الضحايا، ويؤثر سلبًا في تحصيلهم الدراسي وأدائهم الأكاديمي وعلاقاتهم الاجتماعية، إذ قد يشعرون بالعزلة والانطواء نتيجة لتجاربهم السلبية.

ثم إن المتنمر ذاته قد يكون أكثر عرضة للمشكلات القانونية في المستقبل، عندما يظهر الشخص المناسب الذي يستطيع مجاراته وقمعه، مثل أمثلة كثيرة معروفة إعلاميًّا كانت تطيح في المجتمع فسادًا وإرهابًا، حتى أتى من استطاع أن يوقفها ويوصلها للمكان المناسب لها.

النتائج الإيجابية للتنمر

يستفيد المجتمع من تحديات المتنمرين فيزداد وعيه وإدراكه لأهمية مكافحة هذه الظاهرة، ثم إن ضحايا التنمر قد يجدون التعاطف من المجتمع، فتتعزز الروابط الاجتماعية وتزاد رقعة الأمان النفسي على عكس إرادة المتنمر، ثم إن بعض الضحايا قد يطورون مهارات التعامل مع الصعوبات والتحديات نتيجة لتجاربهم مع التنمر.

أنواع الإيذاء الذي يمارسه المتنمرون عبر وسائل التواصل

  • التحرش اللفظي بإرسال رسائل مسيئة أو تهديدات مباشرة عبر الرسائل الخاصة أو التعليقات العامة.
  • التشهير بنشر شائعات أو معلومات كاذبة عن شخص بهدف تشويه سمعته.
  • الاستبعاد الاجتماعي بتجاهل أو استبعاد شخص من مجموعات أو محادثات جماعية عن عمد.
  • انتحال الهوية عن طريق إنشاء حسابات مزيفة باسم شخص آخر واستخدامها لنشر محتوى مسيء.
  • المطاردة الإلكترونية بمتابعة نشاطات الضحية على الإنترنت على نحو مفرط ومزعج وعدواني.
  • نشر صور أو فيديوهات محرجة للضحايا دون إذنهم.
  • إرسال رسائل كاذبة إلى أماكن عمل الضحايا تحتوي اتهامات كاذبة من فاعل خير.
  • أي عمل من شخص مجهول يمكن أن يؤدي إلى التأثير في فرص الضحايا في النجاح.

من الشخصيات التي يستهدفها المتنمرون؟

المتنمرون غالبًا ما يستهدفون شخصيات معينة، مثل:

  • الأشخاص الذين يظهرون ضعفًا أمام المتنمرين.
  • الأشخاص المختلفين عنهم في المظهر، العرق، الدين.
  • الأشخاص الناجحين أو الموهوبين بدافع الغيرة أو الحسد.
  • الأشخاص الذين لا يتوافقون معهم.

المناقشة والاستنتاج

نحن أمام ظاهرة إيذاء خطيرة، لو تُرك لها القياد لمزقت المجتمع إربًا، ولقضت على كل بوادر الأمل التي تبحث جادة عن الارتقاء بنفسها ومجتمعها.

حاول المقال استكشاف أبعاد القضية، والتي تتركز على شخصية المتنمر الساعية للإيذاء المتعمد، لأسباب كامنة في شخصية المتنمر، وتشمل عدم الثقة بالنفس وحسد الآخرين، يقابله إحساس زائف بالتفوق والتعالي لتعويض هذا النقص. هذه الشخصية ترفض التعاون؛ لأنها تضمر في نفسها أنها أفضل من الآخرين، ولكونها لا ترى هذا السياق متحققًا على أرض الواقع، فهي تسعى لهدم الآخرين كي يتسق الواقع مع رؤيتها.

لو تُرك لهذه الشخصية حق العبث بالآخرين، فنحن أمام موقفين غاية في الصعوبة:

  • استسلام الضحايا ويأسهم من المجتمع الذي يقف مشلول الأيدي أمام تجاوزات هؤلاء.
  • انتفاض الضحايا ودخولهم في صراعات مباشرة مع القتلة المغتالين، ولا يمكن لأحد أن يتصور المدى الذي يمكن أن تصل إليه هذه الصراعات، وهذا سيكون وبالًا على المجتمع كله.

كلما نجح المتنمر ضد ضحية سيبحث عن آخرين ولن يتوقف سلسال الدمار الذي يسعى إليه المتنمرون

المشكلة أن المجتمع لا يدرك بعد خطورة وحجم هذه المشكلة.

المشكلة الثانية هي شعور المتنمرين أنهم في مأمن من العقاب نتيجة إخفاء أو تزوير أسمائهم وارتكاب جرائمهم بأيدي الآخرين. وكلما نجح المتنمر ضد ضحية، سيبحث عن ضحايا آخرين، وبذلك لن يتوقف سلسال الدمار الفتاك الذي يسعى إليه هؤلاء المتنمرون الأوغاد.

المشكلة الثالثة أن أسلحة المتنمرين السيكولوجية تعتمد في معظمها على التخويف والإرهاب، وهذا سلاح فعال لا يطول فقط رأس الضحية، لكنه يمتد لرؤوس كثيرة حولها. وعندما يسيطر الخوف على الإنسان، سواء كان الضحية المباشرة أو ضمن ضحايا المجتمع غير المحددين، فإن الأثر التدميري يصل بسرعة، وقد لا يتوقف على الأثر المعنوي للإرهاب، وهو الخوف والاستسلام لإرادة الإرهابي، بل على ما يستتبعه ذلك من آثار مادية تجعل الضحايا يهجرون مجتمعاتهم ومكاناتهم، بل قد تمتد الآثار المادية لما هو أكثر من ذلك. وما يشجع على استخدام هذا السلاح الجبان هو رخص ثمنه وصعوبة الاعتراف به كأداة جريمة في ظل نظم قانونية لم تتنبه بعد لخطورة وإجرامية هذا السلاح الإرهابي.

المشكلة الرابعة هي أن انتشار وباء المتنمرين إذا امتد، سيكون دمارًا ووبالًا على الجميع، ولن يستطيع أحد الخروج من دائرة الخطر، وقد تجر أقدام كثير من الأبرياء إلى ساحات الصراع الفتاك التي لا ترحم. ووقتها قد ينال من بدأوا التنمر نفس المصير، ولكن سيكون الوقت قد مر، ولن يكون هناك صلاح للمجتمع.

المشكلة الخامسة هي أن توليد هؤلاء المتنمرين الذين يستخدمون أسلحة الملاحقة والتخويف والإرهاب سيكون نواة لوحدات إرهابية تنتمي في المستقبل لمنظمات إرهابية أكبر، إن لم تكن منتسبة بالفعل، فيوجد تشابه كبير بين أهداف ووسائل الشخصيات المتنمرة مع المنظمات الإرهابية التي تختفي عن الساحة ولا تظهر إلا في شكل أحداث إرهابية.

إذن الخلاص هو الوقوف في وجه المتنمرين بكل وسائل الكشف والدحض والشجاعة، وأي وسائل شرعية أخرى لا تنحدر لأسلوب الوشاية والتحريض والتشويه.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة