ظاهرة الأيام في العصر الجاهلي

ظاهرة الأيام في العصر الجاهلي

اتسم العصر الجاهلي بأنه عصر نزاعات استفاضت بها أيام العرب المشهورة التي خلدها التاريخ أمثلة للحروب التي تثيرها الحماقات، وتُضرِم نيرانها كلما خبت التِّرات والثأران.
وبهذا ظلت حالة الحرب هي الحالة الأصل في الحياة الجاهلية، ولم تتخللها إلا حالات سلام معدودة: «فقد تفرقت القبائل العدنانية بأحيائها وبطونها وقبائلها. . وكان كل منها مستقلاً بأحكامه وأعماله، يتخاصمون، ويتحاربون، على ما تقتضيه طبيعة البداوة، ويندر أن يجتمعوا تحت راية واحدة، يدلك على ذلك أنهم لم يجتمعوا في الجاهلية كلها إلا ثلاث مرات.
هذا ما حققه المؤرخون، ومنه يمكن القول إن تلك الحروب هي أبرز ما في سجلات وصحائف تاريخ العرب، قبل الإسلام. وكانت هذه الحروب بعض أهم الأغراض التي دارت عليها قصائد الشعر الجاهلي ومقطوعاته التي نعتمد عليها في التصوير والتوثيق.
ويمكن القول إن ظاهرة الأيام كانت ظاهرة بارزة في العصر الجاهلي، فالمجتمع العربي في الجاهلية كان مجتمعا مضطربا تسوده الحروب والغزوات، بسبب الظروف التي عاشها سواء أكانت اجتماعية أم سياسية أم اقتصادية , وهذه الحروب بشكل عام كانت حروبا دامية، وفي ظل هذا الوضع القائم نشأت العصبية القبلية وقانون الثأر والانتقام، فقد كان الجاهليون يحرمون على أنفسهم الخمر والنساء والطيب حتى يأخذوا بثأرهم ([2])ولم يكن لأي فرد حق التصرف في نقض هذه العادة المقدسة أو الوقوف ضدها، فأفراد القبيلة متلاحمون، وتساعدهم القبائل الأخرى الحليفة في ذلك، فتتوارث القبائل المتحاربة الثأر حتى يتدخل من يصلح بينها، ويتحمل الديات والمغارم، ولم يكونوا يقبلونها إلا بعد تفاقم الأمر، وبعد استنفاد كل السبل والمحاولات لإقناعهم، أما قبل ذلك فقد يعدونها عار وسبة، ومن يأخذها يشيرون إليه قائلين هذا رجل أخذ دية أو يأكل التمر بالدم، لأنه يأكله بالدية ([3])
وقبل الحديث عن دوافع الأيام يحسن بنا أن نقف عند تحديد معنى اليوم وكيفية تسميته
ورد في لسان العرب ([4]) أن العرب تقول الأيام في معنى الوقائع والحروب وسميت كذلك لأن الحروب كانت تحدث نهارا، واليوم عندهم هو النهار من طلوع الشمس إلى غروبها وإن كانت ليلا ذكروها 
ليلة العرقوب حتى غامرت جعفر يدعى ورهط ابن شكل
وأما ما يتعلق بكيفية تسمية اليوم، فقد أجمل أحد الدارسين المحدثين ذلك فذكر أن العرب تسمى اليوم غالبا باسم عين ماء قريبة من الموقعة التي حدثت، وأحيانا يسمى اليوم باسم رجل أو امرأة كان له أثر واضح في هذا اليوم، وربما سموا الأيام بصفة اتصفت بها كحروب الفجار، وأحيانا يسمون اليوم باسم مكانين حدث فيهما قتال في نفس اليوم، وأحيانا يسمى اليوم بأكثر من اسم، وذلك بسبب قرب المواضع التي حدثت بها الحرب([5]) ويجب التنبيه إلى أن الحرب تشتمل أحيانا على أكثر من يوم كحرب حاطب، وتسمى هذه الأيام المتفرعة عنها أياما، كما أن إطلاق لفظة حرب أو يوم متفاوت بين المصادر والمراجع فمثلا يوم سمير ذكرته المصادر حرب سمير وكذلك حرب الشرارة وحرب ربيع الظفري وكل هذه الأيام من أيام الأوس والخزرج، والشعر العربي زاخر بالأمثلة في استعمال الأيام بمعنى الحروب كما في قول قيس بن الخطيم:

أُجالِدُهُم يَومَ الحَديقَةِ حاسِراً كَأَنَّ يَدي بِالسَّيْفِ مِخراقُ لاعِبِ([6])

وقوله:
وَيَومَ بُعاثٍ أَسلَمَتنا سُيوفُنا إِلى نَسَبٍ في جِذمِ غَسّانَ ثاقِبِ
وقوله:
ونحن الفوارس يوم الربي ع قد علموا كيف فُرْسَانُها ([7])
وإذا انتقلنا إلى الحديث عن دوافع الأيام عامة في العصر الجاهلي نجدها كثيرة ومتنوعة وتناولها الباحثون القدماء والمحدثون من زوايا متعددة واستخلصوا منها مجموعة من الدوافع وأرى في بداية الحديث عن دوافع الحرب وقبل أن بالصورة النهائية لهذه الدوافع أن أنبه لأمرين:
أولهما: إن الدافع للحرب ربما كانت له جذور عميقة، وإن بدا السبب المباشر تافها 
وثانيهما: إنه ربما اجتمع أكثر من عامل على إشعال نار الحرب بين قبيلتين
وبعد أرى أن أعرض لمختلف آراء الباحثين في دوافع هذه الحروب، وبعد ذلك نخرج بالدوافع العامة لهذه الأيام 

فجورجي زيدان([8]) يرد سبب الحروب والتنازع فيما بين القبائل إلى ضعف سلطة اليمن واستقلال عرب الحجاز ونجد من سيطرتها هاج شاعريتهم وأيقظ ما فطروا عليه من عزة النفس، وإباء الضيم، فأخذوا يختلفون فيما بينهم لأن سيطرة اليمن قد جمعتهم قيودها فلما أطلق سراحهم تنازعوا، فجرت بينهم حروب 
وفيليب حتى ([9]): يخالف الذين دونوا أخبار الأيام وسعيهم إلى إبراز الدوافع التي أدت إليها، وتعزيزهم أمر العداوة الدموية، ويرى أن كثيرا من هذه الحوادث بلا ريب بعثتها عوامل اقتصادية بحتة ويرى في الأيام منقذا للتخلص من شر ازدحام السكان
وبلاشير ([10])يرد عوامل اللجوء إلى القوة في ذلك العهد إلي عاملين: تأمين العيش وأخذ الثأر، والحرب عند العربي في ذلك الوقت كانت دفعا لملل الحياة الرتيبة وسآمتها يدفعها بالحب والحرب، وهذا رأى ول ديورانت مؤلف قصة الحضارة([11]) ودافع الحرب عند العربي في رأى على مظهر ([12])هو العصبية لأن الكلمة يفهم منها المحاباة دون مراعاة لمصلحة المجموع، وكثيرا ما يكون هذا الحب أو تلك المساعدة ضد مصالح الآخرين، لهذا السبب قضى سكان الجزيرة حياتهم يحارب بعضهم بعضا منشقين على أنفسهم
أما جواد العلي فيرى أن أكثر أسباب هذه الأيام هو عسف حكام القبائل القوية في القبائل الضعيفة التابعة لأولئك الحكام بسبب الإتاوة، أو بسبب نزاع على ماء، أو مرعى، أو أخذ بالثأر أو محاولة للتخلص من حكم القبائل على القبيلة بظهور شخصية قوية فيها ([13])
ويشير البهبيتي ([14])بأصابع الاتهام إلى ملوك الحيرة الذين كانوا وراء كل خلاف يقع بين القبائل العربية، فالقبائل تلتقي وتفترق في هذا السبيل والدماء تجري والموت يبتلع الناس ابتلاعا، كل ذلك تدفع إليه سياسة التفرقة التي كان يركبها إذ ذاك هؤلاء الملوك، ولا يكاد يفلت من ذلك يوم واحد من أيام العرب 
أما أحمد الشايب فيرى أن البداوة الفقيرة قد أدت إلى ظاهرتين طبيعيتين: الفقر الحسي والعلمي، والغنى النفسي والتشبث بالحرية إلي أبعد الآماد لأنه يرفض الفقرين المادي والنفسي وقد نشأ عن هذا الفقر المادي والحرية والمسؤولية المشتركة بين أفراد القبيلة عدم احتمال الضيم، كما نشأ عنها الثورة لأقل الأسباب والعمل على إشاعة رهبة القبيلة بين القبائل ([15])
ويرد التنافس في موضع آخر بين القبائل في الجاهلية إلى عاملين رئيسيين: مادي يتمثل في طمع في إبل، أو مرعى، أو فرس، أو بئر، أو متاع ما وأدبي يتمثل في رغبة في رياسة، أو أخذ ثأر، أو اعتزاز بتفس أو مفاخرة بقوة أو غضب لجار، أو نقض عهد، أو مجاراة لسفيه 0
وفي موضع ثالث نراه يلخص الأسباب المباشرة للأيام بالطمع والرغبة في النهب والسبيوالغضب للكرامة والشرف، والوشايات والعوامل السياسية، والملاحات والمراء الذي يوغر الصدور، وحماية الجار، والنجدة لصديق أو حليف أو قريب وفي سبيل الفقراء والثأر وفي سبيل النفوذ الخارجي، ولرفع الضيم والتشبث بالحرية، ومن أجل الرياسة وزعامة القبائل وحماية اللطائم ([16])
وهو يرى أن الحرب كانت ط ضرورة للحصول على العيش، كما كانت ضرورة لتحقيق الحرية والكرامة، ثم صارت غاية يفخر بها الشيوخ والشبان ([17])
وأكثر حروبهم كما يرى الدكتور شوقي ضيف كان يجرها نزاع بعض الأفراد في قبيلتين مختلفتين، إما بسبب قتل أو بسبب إهانة، أو بسبب اختلاف على حد من الحدود ([18])
ويتحدث الدكتور عبد الحميد يونس عن حروب عامر في الهلالية ويستطرد فيذكر أن أغلب الأيام كانت تدور على التناحر على البقاء بصورة من الصور ([19])، وأسباب الأيام عند بطرس البستاني النهب والسلب، أو التزاحم على الماء والكلأ، ومنها ما كان يحدث لأسباب تافهة تدعو إلى عنجهية البدوي ([20])
ويراها محمد دروزة تقع لأسباب حلفيه أو شخصية أو نسائية أو نتيجة لغارات يشنها بعضهم على بعض ([21]) ويحصيها الدكتور زكي المحاسبي فيجدها النعم والمال ن والحفاظ على الشرف وإجازة المستجير والشهوة والزعامة وحب التسلط للدفاع عن كرامة المرأة وبسبب المال الذي قد يكون سترا تنفذ منه أحقاد الصدور ([22])

والسبب الرئيسي لهذه الأيام عند الدكتور على الجندي، عدم وجود سلطة مركزية قوية يخضع لها العرب جميعا ويضيف إلى هذا السبب الأساسي أسباب أخرى منها: الصراع بين أهل البدو والحضر، والتسابق على منابت الكلأ والرغبة في التوسع ([23]) ودوافع الحرب عند شاكر الجودي قلة الخيرات في شبه الجزيرة التي أشاعت الفقر بين سكان الجزيرة، ولعل هذا الفقر كان أهم أسباب الغارات والحروب، يلجأ إليها البدوي حين لا يجد وسيلة غيرها لسد حاجته، ولعل هذا الفقر أيضا هو الذي جعل الحياة هنيئة يبذلهله من أجل الحصول على أتفه المكاسب 00 ([24])
ويردها الدكتور عمر فروخ إلى ثلاثة عوامل اقتصادية ويمثل لها بحرب البسوس، وسياسية ويمثل لها بحروب الأوس والخزرج، وأجنبية ويمثل لها بعين إباغ وحليمة ([25])
ويرجع إحسان النص([26]) هذه الأيام إلى أربعة دوافع هي:
1 الحاجة والفقر سوء الأحوال المعيشية 
2 الثأر والانتقام 
3 الغضب لشرف القبيلة وسمعتها وكرامتها 
4 المفاخرات القبلية
وبعد هذا العرض وقبل أن ننسق هذه الآراء في دوافع كلية نود أن نشير إلى أن طبيعة البدوي وخلقه، وسرعة انفعاله بحكم عوامل بيئية أثرت فيه كانت وراء هذه الأيام ولو احتكم إلى عقله لمنع الكثير من هذه الوقائع، كما أننا نرفض الرأي القائل بأن العربي كان يلجأ إلى الحرب دفعل للسأم والملل، فلم يكن العربي في جاهليته إلا إنسانا متحركا لا يكاد يستقر، وكنا نجد الكثير مما يفعله من أجل
تأمين عيشه وعيش أسرته، كما نرفض الرأي القائل بأن ملوك الحيرة وراء كل يوم من أيام العرب في الجاهلية لأن الحيرة لم يكن لها من النفوذ ما يجعلها وراء كل يوم، حقا كانوا وراء بعض الأيام يدفعون القبائل لمقاتلة بعضهم بعضا لتحقيق مآربهم، ويجردون الحملات أحيانا لتأديب بعض القبائل التي تعترضهم أو تعترض نفوذهم ومصالحهم، كما أن عدم وجود سلطة مركزية تحفظ الأمن كان من دوافع هذه الحروب 
وبإمكاننا أن نجمل نقاط الالتقاء بين هذه الدوافع على النحو التالي:
الصراع على أسباب الحياة المختلفة، والعصبية القبلية، والثأر وحب الانتقام، وتمرد بعض القبائل على المناطق المجاورة في التوسع 
والأيام أحيانا تبدأ ضعيفة صغيرة ثم تقوى وتستحكم وتعظم، وتستفحل بمرور الزمن، فتصبح كعدوى الجرب، لا يفلت منها راغب أو كاره، فالجميع يصطلون بنارها، بل يترامون فيها ترامى الفراش، فهي أمنيتهم ومبتغاهم ([27])وتؤلف الحروب والأيام القسط الأكبر من علم الإخباريين بتاريخ الجاهلية، وكانت مادتها القصص المتداولة بين الناس ممن شهدوها إلى أن دونت، وبقيت مادة محببة تناولها الناس في الجاهلية والإسلام، بلذة وشوق، وكانت هلا والشعر مادة المجالس قيل لبعض أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ما كنتم تتحدثون به إذا خلوتم في مجالسكم؟ قال: كنا نتناشد الشعر، ونتحدث بأخبار جاهليتنا ([28])هذا ما حققه المؤرخون، ومنه يمكن القول إن تلك الحروب هي أبرز ما في سجلات وصحائف تاريخ العرب، قبل الإسلام. وكانت هذه الحروب بعض أهم الأغراض التي دارت عليها قصائد الشعر الجاهلي ومقطوعاته التي نعتمد عليها في التصوير والتوثيق. لكن لا بد من التنويه إلى أن العصر الجاهلي لم يخلُ من متأملين استبطنوا أحواله بعمق وحذق، وخرجوا بالعظات التي عبروا عنها في شعر جزل منيف. . بيد أن الشعر لم تكن له فائدة عملية في أخذ الناس إلى ناحية السلام؛ لأن الشاعر ليس نبياً، ولا صاحب سلطان يفرض به ما ينصح به للناس. ولما جاء الإسلام هرع الناس إليه؛ لأنه جاء بما شجب عهود الفوضى، وجاء بالآلة التنفيذية التي تفرض واقع السلام. ولم يستغرب أن تكون أول المجتمعات استجابة للإسلام أكثرها تعرّضاً لنيران الحروب، وهي جماعات الأوس والخزرج التي انخرطت في الحروب التي كادت تبيد خضراءهم وتأتي عليهم أجمعين.

[1] انظر جورجي زيدان، العرب قبل الإسلام، (القاهرة)، دار الهلال، 2006م، ص 251. وقد ذكر ابن الأثير تفصيل ذلك، الكامل في التاريخ، 1415هـ، ص 400.

[2] انظر العصر الجاهلى :62                 

[3] انظر المعانى الكبير ج2 :1019                 

[4] انظر لسان العرب :مادة يوم  

[5] انظر الشعر وأيام العرب فى العصر الجاهلى :110 - 111                

[6] انظر ديوانه ص42                

[7] انظر ديوانه ص26                

[8] انظر تاريخ آداب اللغة العربية ـ زيدان 1 /71                 

[9] انظر تاريخ العرب مطول ـ فيليب حتى 1 /34                  

[10] انظر تاريخ الأدب العربى ـ بلاشير 1 /40                  

[11] انظر قصة الحضارة – ول ديورانت 13 /12                   

[12] انظر العصبية – على مظهر 6-7                  

[13] انظر تاريخ العرب قبل الإسلام ـ جواد على  4 / 347                

[14] انظر تاريخ الشعر العربى تـ البيهتي 31                 

[15] انظر النقائض – أحمد الشايب /36 ، تاريخ الشعر السياسى – أحمد الشايب /46                  

[16] انظر النقائض – أحمد الشايب /63-64                  

[17] انظر النقائض – أحمد الشايب /38                  

[18] انظر العصر الجاهلى تـ شوقى ضيف 63

[19] انظر الهلالية – عبد الحميد يونس 23                   

[20] انظر الشعراء الفرسان – بطرس البستانى 30                  

[21] انظر تاريخ الجنس العربى ـ محمد دروزة ج5 / 153                   

[22] انظر شعر الحرب فى أدب العرب – زكى المحاسنى 27                   

[23] انظر شعر الحرب في العصر الجاهلى – على الجندي 17                    

[24] انظر إلمامة بالرجز – شاكر الجودي /30-32                   

[25] انظر حضارة العرب – عمر فروخ /58                   

[26] انظر العصبية القبلية وأثرها فى الشعر الأموي : 150                   

[27] انظر العصر الجاهلى : 63                 

[28] انظر نهاية الأرب فى فنون الأدب ج5 : 338                  

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.