«طوق».. قصة قصيرة

فأس - منجل - حبل - كوخ - قش، لا قوت أقتات، ولا منزل فيه أبات، فكل ما أملك، هي تلك الأدوات، ورثتها عن أبي.

بعد أن شيعت والدي بمفردي ودفنته استلقيت على ظهري، أندب حظي وقدري، إلى يميني قبر أبي، وعلى شمالي قبر أمي. 

حاورتهما: لماذا سكنتما هذا الوادي الخالي المهجور؟ هل جذبتكم إليه الطيور الجارحة، أم السباع المفترسة؟ لماذا جاورتما الضواري والحجر والشجر، وتركتما جيرة البشر؟ إلى من أتحدث بعد فراقكما؟ إلى من أشكو الضجر، هل تُجيب الصخور، ويستمع الحجر؟ 

هل تُحس السباع بما أعانيه من آهات وأوجاع؟ كيف أطلب من فاقد الإحساس أن يحس بآهاتي، ربما شعر النبات بما أشعر، لكنه عجز عن مناداتي..

- ارحل، أُغلقت الأبواب وقُطعت الأسباب، رحل عنك الأحباب وفارقك الأصحاب، ارحل!

- من أين ياتي هذا الصوت؟ إنه صوت أمي! سأضع أذني على تراب القبر.

الصوت لم يتكرر، والوقت تأخر، دنت الشمس من المغيب... فداهمتني الأهوال وضاق بي الحال. 

عُدت إلى كوخي؛ دخلت الكوخ، فهددت قوائمه وأرجعت عاليه سافله، عثرت فيه على برطمان صغير مغلق، فتحته، وجدت بداخله عقد كهرمان.

سعدت برؤية العقد، فضممته إلى تركتي، وعلى ظهري حملت أدواتي. 

مع الغروب؛ شددت الرحال تاركًا مسقط رأسي، نحو المجهول كانت وجهتي.

حلَّ الظلام بعد أن أفل القمر، فدخلت كهفًا أبيت فيه، فلمحت بباب الكهف شبحًا، ارتعبت فوقفت، فأخذت الفأس بكف والمنجل بكف واستعددت للنزال؛ فتقدمت نحوه بثبات دون خوف أو ارتجال. 

- إن كان هذا كهفك، فاعتبرني ضيفك، وإن كنت تنوي الهلاك، فلن يهلك سواك. 

- خذ هذا ألف دينار، مقابل أن تعطيني البرطمان وعقد الكهرمان. 

- اكشف عن وجهك، وبُح بسرك قبل أن أنقض عليك، وأنتزع روحك عن جسدك. 

- أنا مرسل من أبيك، أحميك، من أي شر يؤذيك، وأستعيد أمانته كي لا يوصم بالخيانة. 

- ما أراك إلا كاذبًا. لماذا لم تعطِ والدي المال في حياته، فقد عانى من الفقر حتى لحظة وفاته؟ ولم يكن يعلم بالبرطمان، وعقد الكهرمان، ولم يذكرهما على لسان، لن أعطيك مقصودك، ولن تنال مطلوبك! 

- أمك هي من أمرتك أن تترك الكوخ المصون، وأعانتك على استخراج كنزي المدفون، لكن عليك أن تعلم، أننا جيران، نسكن معًا في الكوخ نفسه من زمان، وليس أبوك من شيده وبناه؛ فقد أتى طريد فأويناه ونجيناه. 

- لن أفرط بما ورثته عن أبي ولو كلفني حياتي.

- أعطني ما أخذت يداك، قبل أن ألحقك بأمك وأبيك!

برزت للمارد بعضلات مفتولة، وسواعد مصقولة، شاهرًا منجلي وفأسي. ففتح المارد فمه، فخرج منه لهب قذف بي، فألقاني على ظهري.

وقعت يدي على البرطمان، فأخرجت عقد الكهرمان، ولبسته حول عنقي كي لا يأخذه المارد. انطفأت النار المندفعة من فم المارد. لفظت أنفاسي فاستعدت رباطة جأشي، فأخذت البرطمان بيدي ورجمت به المارد بشدة، فصُعق كبرق السماء، وأحال المارد إلى هالة لهب تبعثره في الهواء. 

تنفست الصعداء، استلقيت، متخذًا من التراب فراشًا، شرد عني النعاس، فهجم عليَّ الوسواس.

فهُيئ لي أن عقد الكهرمان، الذي وضعت حول عنقي كأمان؛ له صلة وثيقة وارتباط بالشيطان، وأنه سيطاردني في كل مكان، فقررت التخلص منه. 

بت ليلي صاحيًا، وفي أثناء مروري في الصباح رأيت بئرًا عميقًا، فألقيت العقد فيه كي لا يكون للشيطان إليه طريق. 

استمررت في المسير.. حافيًا عاريًا لا ساتر يسترني، عدا لحاف ما بين الركبة والسرة. فكنت أسافر الليل وأنام النهار. 

وبعد شهر زمان، شاهدت طُرقًا مطروقة، وحقولًا مزروعة، فحثثت الخُطى في طريقي، فسمعت خوارًا، ونهيقًا، وثغاءً، فاستبشرت بقربي من البشر. 

وفي أحد الحقول، وجدت بنتًا دوارة، للمياة حوارة، تسقي الزرع بعناية، تحث الخُطى تسابق الماء، قابضة بشمالها معزقًا، وبيمينها منجلًا. 

فجأة تعثرت ببعض الحصاة، فوقعت في جدول الماء، وتراكمت حولها الأحجار التي تساقطت من الجدار، فكانت من الهلاك قاب قوسين أو أدنى. 

شاهدت ما جرى، عندما كنت بجوار الحقل واقفًا، فانطلقت نحوها لإنقاذها، كالبرق الخاطف.

فرفعت من فوقها الأحجار، ثم انتشلتها من الماء، فكانت في حالة إغماء. 

حملتها على كتفي، ودرت بها عدة دورات ورأسها يتدلى، كي يخرج ما تسرب إلى رئتيها من ماء، ثم وضعتها على الأرض وضغطت على صدرها عدة ضغطات، ومن ثغرها أعطيتها قبلة الحياة. 

تنفست فعادت للحياة من جديد، كانت مكشوفة الرأس، منزوعة الحذاء، ظاهرة الوريد. 

شاهدت على صدرها عقد الكهرمان، فتعجبت وارتعبت، ومن جوارها هربت. 

في أثناء فراري وفي نهاية الجدول عثرت على نعليها عائمة، أخذتها وعدت، فوجدتها قد استوت جالسة. 

وضعت أمامها الخفين وهممت بالمغادرة. 

- تمهَّل، أخبرني من تكون؟ واشرح لي ماذا حصل؟ فقد فقدت وعيي لحظة سقوطي.

وقفت فاستدرت، فحكيت لها ما جرى وصار، ثم إليها وجهت الاستفسار. 

- من أين لكِ العقد الذي على صدرك؟ 

مباشرة خلعت العقد وقالت: خذ هذا العقد من الآن صار ملكك.

قلبت العقد في كفي، تفحصته كي أتحقق ألا يكون شبهه. 

- هذا العقد ألقيته في البئر قبل عدة أيام، فوجوده بحوزتي كان يعرضني لمطاردة الهوام. 

- صدقت، عثرت عليه في المسنى عند ردي ساقية الماء، فها قد رده الله إليك.

فتبرأ كلانا عن أخذ العقد، فتجادلنا وتحاورنا، فأجمعنا على تسويقه وبيعه بشرط أن يكون لي ثمنه. 

- أين بلدك وأهلك وعشيرتك؟

رددت باختصار شارحًا ظروف الحال. 

فعرضت عليَّ البقاء أيامًا، وأن أتخذ من الحقل مقامًا!

حضر أبوها بالطعام، فوجدنا في حالة انسجام، نتبادل الكلام. 

استشاط غضبًا وبرز على جبينه العصب، فتنحنح وصاح: ابنتي صباح هل صار المحظور لديك مباحًا؟ 

ألا تخشين العار؟ كيف تقفين أمام من هو من ثيابه عار؟ 

دارت وإلى أبيها سارت، فرآها في أشرِّ حال؛ ثيابها مبلولة ملطخة بالوحل والرمال. 

فوضع ما في يده واستل من خصره خنجره، وهجم عليَّ وقال: من اعتدى على ابنتي الوحيدة لا بد لي من قطع وريده! 

فهمَّ بطعني، فحالت صباح بيني وبينه، فهدأت من روع أبيها وحكت له القصة. 

فأبدى اعتذاره وقدَّم شكره، وطلب عفوه عما بدر منه. وعرض عليَّ أن أحل ضيفه!

فصحبني إلى الدار، فذبح أحد الكباش، وبشَّ بي، فألبسني أحسن القماش. 

وبعد ثلاثة أيام استأذنت للذهاب. 

فطلب مني والد صباح أن أبقى حارسًا لحقله، وافقت، فأقمت في محراب الحقل.

صباحًا أحتطب بمعولي والفاس، فأحضر ما جمعت من حطب فأبيعه للناس. 

أعطاني والد صباح مساحة، فبنيت عليها دارًا. 

وذات يوم طلبت صباح من والدها أن يذهب برفقتي إلى السوق لبيع عقدها. 

وعند عرضه تهافت عليه التجار، وتنافسوا فبلغ سعره ألف دينار. 

فاشتراه تاجر غريب لم يعرفه التجار. 

اندهش والد صباح، فأخذ الألف وصرَّه في صُرة، ووضعه في عجزه.

وعند وصوله أخبر ابنته بثمن العقد الباهظ. 

قبضت صباح من والدها ثمن العقد، وأعطتني، فاحترت أين أضعه وخفت سرقته. 

فأشارت عليَّ صباح بوضعه في صندوق مقفل، وتأمينه لدى شيخ القبيلة، فهو ذو ثقة. 

فسألني الشيخ عما في الصندوق؟

- ألف دينار.

اندهش الشيخ فقال: ما عملك؟

- حطاب.

همس الشيخ في سره؛ إنه لا شك سارق، ثم قال: أنت آمن على ما استأمنت، اذهب يا حطاب. 

كنت أمرُّ على صباح في الحقل ذهابًا وإيابًا، فازداد بها إعجابًا. أحييها بالفأس والمعول، فترد التحية بالمعزق والمنجل. آتي من الضيعة أترنح، على ظهري حمل أحطاب، مخلوط بالأخشاب، بطرف الحقل أتكئ على مسني، فتأتيني صباح مسرعة بشربة ماء. 

ذات يوم نظرت صباح إلى حِملي المهول، فقالت: هل لك إخباري باسمك؟ 

- طوق! 

- هل كان والدك قويًّا فتيًّا، عريض المنكبين، طويل الساقين، صنديدًا همامًا، دواس الظلام، تهابه الهوام؟

- قبل أن أخبرك، عليك أن تخبريني، هل أمك زهية، بهية، ذات جبين وضاح، وحواجب هلالية، مسلهمة ذات حواشي ململمة، مشربة الخدود نادشة الجعود، جوزية الشفتين مهوية القرطين، مدبلجة الكفين بارزة النهدين، إن عبست أضاءت، وإن ضحكت أشرقت؟

تبسمت صباح ودارت وإلى حقلها انسحبت، بعد أن قالت: رحمة الله تغشاها.

تنحنحت بافتخار، فحملت الحطب، وواصلت المسار بعزيمة وإصرار. 

ذات يوم مرَّ شيخ البلدة، فلمح صباح، فهام بها، وأرسل إلى أبيها يخطبها بإلحاح!

رفضت صباح هذا الطلب، فعتب الشيخ على والدها أشد العتب. 

استوقفت طوق في أثناء مروره بحمله وقالت: 

يا طوق، أتى الشيخ لخطبتي!

يا طوق، استشرتك فأشر عليَّ!

بب بب ألقى ما على ظهره من حطب، وتشقلب، فظهر عليه الغضب.

وقال: حدث ما لم يكن في الحسبان. وبماذا أجاب والدك المصان؟ 

كان طوق مترددًا خجولًا، لم يفصح لها عما في خاطره يجول. 

أحست صباح بخجله، فأرادت جس نبضه. 

- إذا لم أقبل بالشيخ فارس، ربما أعيش بقية حياتي عانس! 

- أنا.. أنا.. أنا! 

- أنت.. أنت.. أنت ماذا؟ 

- الفارس...! 

أشرق وجه صباح وتهلل، فاحمر وجه طوق وخجل. 

- عليك بخطبتي من أبي، الآن، قبل فوات الأوان. 

تمَّت الخطبة، وشاع خبرها. 

الشيخ رأى ذلك إهانة ما بعدها إهانة، فقد فضلت عليه من هو أقل شأنًا ومكانة.

قرر الشيخ الانتقام. 

ذهب طوق إلى الشيخ، طلب صندوق الأمانة، فأنكره وجحده!

عجز الحطاب عن الإثبات، فظنَّ الناس أن فيها مبالغات!

فكيف لحطاب أن يحوز الألوفات، فهذا لا يتماشى مع طبيعة الأحوال في كل الأوقات. 

فإلى من يشكو ظلم من ظلمه، فكل من حوله خدم للشيخ وحشم. 

طفق عائدًا نحو داره، مشبكًا كفيه خلف ظهره. 

كانت صباح منتظرة عودة طوق، بشغف وشوق!

فعاد بخُطى خائب، وهيئة بائس. 

فراع صباح منظره فهرعت إليه مسرعة. 

- هل غدر فمكر، وتعالى فاستكبر، وللأمانة أنكر؟

ألجم طوق لسانه فصمت، فتولت عيناه الإجابة فأوضحت وأبلغت. 

كظمت صباح غيظها، وأظهرت سرورها وبهجتها. 

فطلبت من والدها أن يكون لها خير معين، لدحض مكر الماكرين وكيد الكائدين. 

فقاسم طوق نفقات الفرح والزفاف، وتأجل المهر إلى أن تنقضي السنون العجاف. 

كان عرس كبير، حضره جمع غفير، حطابون بفؤوسهم، وفلاحون بمناجلهم، الكبير والصغير. 

عدا الشيخ لم يحضر، ولم يجب الداعي، فأضحى حاسدًا وشانيًا. 

مرت الأيام... 

ألمت بوالد صباح علة في بدنه، تقاطر إليه الحُكماء فلم يستطع أي منهم أن يبريه من علته وسقمه، دنى أجله فوافته منيته وانتقل إلى جوار ربه. 

أضحى طوق وصباح وحيدين، لا والد ولا إخوان ولا ولد. 

ورثت صباح ثورين جرارين، وبقرتين حلابتين، وحقلين زراعيين، وبيتًا من طابقين. 

ترك طوق الاحتطاب، ولزم في البيت الاحتجاب. 

افتقده العامة فتساءلوا وعنه سألوا، فاحتاروا في أمره وما هو مصيره. 

بلغ الشيخ خبره فانشرح صدره، وأرسل أحد عساكره للتحري عنه. 

العسكري: يا صباح أين الحطاب مضى عليه مدة منذ أن اختفى؟ 

- افتقرت أحواله، فذهب للاغتراب، بعد أن جحده الشيخ الأمانة. 

سمع الشيخ من العسكري ما قال، فتمنى للحطاب الزوال. 

في المساء تبادل طوق مع صباح الأفكار، وتذكرا كل ما جرى، فلم يغب عن بالهما الألف دينار. 

عقدا العزم على استعادة الحق المنهوب، بأي وسيلة وأي أسلوب. 

- سأكيدنه كيد نساء؛ لا ينسى ولا يبلى، سأجعله يأتي إليك ذليلًا مستباحًا، يترجاك السماح. 

وكل ما عليك أن تطلق لي العنان، فلا تسئ بي الظن مهما كان.

في الصباح ذهبت صباح ترعى الأبقار، في حقل الشيخ القريب من الدار. 

من النافذة لمح الشيخ بقرًا في إحدى مزارعه، فأمر أحد عساكره بضبط صاحب الأبقار وزجره! 

وصل العسكري، وإلى الراعية أمعن النظر؛ انبهر وفي موضعه تسمر، فلم يتقدم خطوة أو يتأخر. 

- من أنتِ ولمن هذه البقر؟ 

- أنا زوجة الحطاب.

كانت صباح قد تزينت بزينة؛ تزيغ البصر وتهيج الذكر، تصدر عن معاصمها أصوات الأساور، وتتدلى على صدرها فصوص الجواهر، منقوشة الأنامل، كثيفة الجدائل.

عاد العسكري وقال: يا شيخ هذه زوجة الحطاب، دعها ترعى تنال فيها الأجر والثواب، إنها راعية ليس ككل الرعاة؛ من رآها نسي اسمه ومن سماه، وتمنى أن يكون ثورًا لها ترعاه.

فغضب عليه غضبًا كبيرًا، ووصمه بالإهمال والتقصير. 

فأمر عسكريًا آخر أن يتصدى لها ويمنعها. 

فأخذ سلاحه وتلقاها، وبدل أن يمنعها، قام بالرعي معها. 

فواعدته مواعدة الغرام، يأتيها ليلًا في غسق الظلام. 

العسكري جن جنونه، فأخفى سره ومكنونه. 

فطلب من زميله أن ينوبه في الحراسة هذه الليلة. 

اقتربت الشمس من المغيب، فأخذ بندقيته، وذهب، وصل فطرق ففتحت مسرعة وبشت به ورحبت، أدخلته المجلس فجلس واستراح، بعد أن علق في المعلاق السلاح. 

ذهبت لتحضير العشاء.

وبعد أن تعشى، على ظهره استلقى، فسرت في عروقه غريزة الذكر نحو الأنثى. 

فجأة سُمع طرق الباب، فقال: من يكون الطارق للباب هل هو صاحب من الأصحاب؟

ردت: كلا ! ثم قالت وهي مرعوبة: يا رب بسترك استرنا ولا تفضحنا. وتقدمت نحو الباب وقالت: من في الباب؟

- أنا زوجك طوق الحطاب! 

أظهرت الخوف وارتعبت، فكان رعب العسكري أشد. 

فطلب منها تخليصه مما هو فيه، وإيجاد أي وسيلة تخفيه. 

فقالت لزوجها تمهل حتى أرتدي ثيابي!

فأحضرت مجرفة وحقيبة زبالة، وألبسته ثيابًا رثة، وأدخلته الإسطبل وقالت: انقل ذبل البقر إلى السطح ولا تتوقف مهما حصل!

بدأ العسكري العمل، ثم فتحت الباب فدخل الحطاب، صاح ولاح غاضبًا عليها عاتبًا، ثم قال: من هذا الذي في الدرج؟

- إنه ابن خالي، أحضرته لمساعدتي في نقل الذبل إلى السطح. 

- وهذا سلاح من؟ 

- هذه بندقية عمي، أحضرتها لحماية البيت من السرق.

أخذها وتفحصها وتوجه نحو العامل، وقال بعد أن دقه بالبندقية بأحد الأضلع: هيا خليك أسرع، وكلما أحس طوق بخفة خطوات العسكري على الدرج، صاح وهاج وذهب إليه فيوسعه بكرسي البندقية دقًا ورجًا. 

شعشع الفجر، فتحت صباح الباب، فخرج العسكري كما يخرج السنجاب، تاركًا ثيابه وسلاحه في بيت الحطاب. 

فتسلل إلى بين زملائه خلسة ونام، كاتمًا سرَّه مخفيًا أمره فأطال المنام. 

في اليوم التالي ذهبت صباح للرعي كالعادة، حضر الشيخ وأيقظ العسكري من رقاده!

- اليوم ليست نوبتي، فقد انتهيت أمس من خدمتي. 

فكلف زميله الآخر للذهاب للمزرعة وإخراج البقر، وعندما وصل حدث له ما حدث للأول؛ نظرة فموعد. 

عاد إلى زميله فاستأذن بعد أن أكد عليه وذكَّر؛ أنه سيذهب ضيفًا عند أحد أقربائه لتناول العشاء والسمر، وألا يقلق عليه إن غاب أو تأخر.

فهم زميله مضمون ما قاله، فعرف أنه سيجري له ما جرى له. 

ذهب إلى السوق فاشترى ما لذَّ وطاب، ومع المغيب طرق الباب، فتحت زوجة الحطاب، وقالت: تفضل بالدخول قبل أن يلمحك أحد من أصحاب الفضول! 

أعطاها الهدايا، ووضع بندقيته في إحدى الزوايا، جلس في صدر المجلس يعتريه الغرور، وبعد أن قدمت له واجب الضيافة، قالت: بقدومك غمرتنا البهجة والسرور، اخلع عنك ثيابك، حتى أعود من تحضير شرابك! 

فخلع من على خصره حزام الرصاص. 

أظهرت صباح الرضا، وبدأت فأزالت من على رأسها أحد الأعطاف. 

فإذا بثلاث طرقات على الباب متتاليات! 

فوقف مرعوبًا، فبادرت صباح وقالت: استرنا يا ستار العيوب! 

قد يكون أحد لمحك عند دخولك فأتى لفضحك! 

تكرر الطرق فقالت: من الطارق؟ 

رد بصوت مرعب: أنا طوق الحطاب افتحي الباب. 

ارتبش العسكري وارتعش فلبس بالمقلوب، فقالت: اتبعني، قد نجد وسيلة للهروب. 

أوصلته السطح فقالت: خذ هذه المجرفة والحقيبة والحبل، وقم بنقل هذا الذبل إلى الإسطبل. 

ثم عادت، ففتحت لزوجها فدخل؛ هائجًا يسخط ويسب، فضرب الجدار بالعصا، فصاحت صباح وكأنها وقعت على ظهرها. 

ثم قال: ما هذه القربعة على الدرج؟

ردت: هذا ابن خالي أحضرته كي ينقل الذبل، فهو قريب وليس غريبًا. 

اقترب منه ومسك خلف رأسه، وبعد أن تمكن من هسه وجسه، كاد أن يفصل رأسه عن جسده، من شدة قبضته على رقبته. 

قال: يا بن الخال عليك بالاستعجال! فدخل المجلس فشاهد البندقية والرصاص.

فسأل: ولمن هذا ؟

ردت: استعرتها من عمي كي أحرس البيت من النوائب، عندما كنت غائبًا!

رد: بوركت، هذا من الآن سلاحي. 

بات العسكري طالعًا نازلًا الدرج، أوقاتًا يندرب، وأوقاتًا يتدحرج.

لاح الصباح ففتحت صباح، فطلب منها أن تأتيه بالذخيرة والحزام والسلاح.

قالت: اعفني الآن ربما طوق يصحو، سآتيك بذلك إلى المرعى!

فخرج العسكري نصف جسده عاريًا، فاستقبله زميله ضاحكًا متشفيًا. 

فقال، بعد أن قهقه: كيف كانت ليلتك خبِّرنا؟ 

رد: ههههه ههههه الذي طلعت نزلنا!

وأين بندقيتك والمحزق والطيار؟

 رد: هن في أمان، ستأتي بهن صباح في وضح النهار. 

أين سلاحك أنت وذخيرتك والوشاح؟ 

ماذا لو دخل الشيخ علينا ها الحين، وعن كل ذلك سألنا فماذا نحن قائلون؟

رد: سننام ونتغطى، فنقل بتنا حارسين فأضحينا مرهقين.

في الصباح أتت صباح ومعها السلاح مغطى ملفوفًا، فوجهت المرآة إلى سكن الحراس المسقوف، نظروا من النافذة فإذا بالبقر في المزرعة.

ذهبوا إلى صباح بوجوه وجلة، وخطى هزلة. 

أمامها وقفوا كطلاب الدراوشة، رؤوس منكوسة وأنظار معكوسة.

قالت: نحوي وجهوا أنظاركم، فقد حفظت أماناتكم. ففي هذا الكيس أسلحتكم وأمتعتكم، ولي شرط عليكم!

ردَّا بصوت واحد: اشرطي، سنلبي شرطك، وننفذ أمرك.

 قالت: أن تشهدوا بالحق إن استشهدتم، وأن تكتموا أسراري ما حييتم، وألا تعتدوا على أبقاري في مراعيكم. 

حملوا الكيس وهرعوا إلى المحراس فرحين مستبشرين.

أطل الشيخ من النافذة، فإذ بالبقر داخل الزرع منتشرة؛ تأكل بعضه، وتحشر بعضه، وترفس بعضه. 

كانت صباح بذلك متعمدة. نادى الشيخ للحراس، لا مجيب رغم مناداته المتعددة!

ذهب الشيخ بنفسه، فبرزت صباح متزينة، فكان عطرها قد استولى على أنفاسه، قبل أن يزيغ فيها بصره. 

قال: لا رادع يردعك ولا مانع يمنعك؟

ردت بصوت دلال: عهدناك شهمًا كريمًا، تظهر على وجهك نعمة النعيم، فقد أثبتت لي الأيام، أني كنت أعيش في أوهام، ليلي نهد ونومي سهد، فلا أرضعت أنثى ولا أنجبت ولدًا. 

- و ما السبب؟.

- زواجي من الحطاب، هجرني على الفراش، ورعاني القراش، كنت فاقدة الصواب، عندما فضلت عليك الحطاب، الذي أضحى أكبر كذاب.

- سبق وأن اتهمني باطلًا بخيانة أمانة، لكن أين هوا الآبق؟ 

- بعض الأخبار تقول إنه قد مات، والبعض يقول إنه مسجون بعدة سرقات، أما أنا فقد أصبحت منه من اليائسات. 

سمع الشيخ ما قالته صباح فحل عليه الارتياح. 

فسمح للأبقار بالمرعى ليل نهار، وجلس يتبادل مع صباح الأخبار، فصادته، وإلى بيتها واعدته. 

مرَّ على سكن الحراس الاثنين، فتغطوا بالبطاطين وتبادلوا الأنين، فتناولهم بالتهديد والوعيد، قالوا: أُصبنا بالإغماء، وتقلص في الأمعاء، وإسهال وطرش وحمى. 

- اذهبا سبعة أيام إجازة، فلم يعد لي بكم حاجة. 

كشفا عن وجهيهما مبتسمين، فكانوا للشيخ شاكرين. 

- لكن قبل ذلك أريد أن تذهبا إلى السوق، فتشتريا ما لذَّ وطاب، فتحملان ذلك إلى بيت الحطاب! فبعد غياب طوق حلت بهم الفاقة، فوجبت عليهم الصدقة. 

انتفضوا من الفراش مسرعين، ونفَّذا ما أمرهم، وفي أثناء الطريق، تغامزا وتهامسا.

قال الأول: يا ترى هل سيقوم الشيخ بنقل الذبل إلى السطح؟

أجاب الثاني: ربما يختلف عمله لعلو مقامه، أرجح أن يقوم بالكنس والبرح. 

وصلا فطرقوا، فتحت صباح، فإذا الباب مركوم، بأنواع الخضر والفواكه واللحوم.

قالا: هذا مرسل من شيخنا عتيق، يبدو أنك دللتيه على نفس الطريق. 

قالت: تفضلا بالدخول!

أبيا أشد الإباء ونظرا؛ نحو الإسطبل والجباء! ضحكت، فضحكا، ثم تفرقوا. 

حلَّ المساء... 

فأتى الشيخ بأطمارة، بمحزقة وطيارة، وبندقيته الميمُ ون، ومداعته والتتن. 

قرع الباب قرعتين، ففتح الصارعين، تلقته صباح ببخور جاوي، وعطر مكاوي، فأجلسته في مقامه، وطلبت منه خلع حزامه! 

فأخذت بندقيته وعلقته على الجدار أمامه. 

نصبت  قدامه المداعة، ومدت إلى فمه القصبة. 

قالت: اشفط تعميرة، حتى أفرغ من طبخ الطعام وتحضيره!

أشعلت التنور فقدحت القدور، فحلَّت على الشيخ البهجة والسرور. 

استمرت صباح في الذهاب والإياب، بين مجلس الشيخ ومكان تخفي زوجها الحطاب. 

حان وقت تناول طعام العشاء، فأحضرت صباح غسل الماء، غسل الشيخ فمدت صباح طرف خمارها ونشفت يداته، لتزداد طمأنينته. 

أحضرت المائدة، مدَّ الشيخ يده نحو الكباب، وقبل أن يلمس اللحم سمع طرق الباب! 

فهتفت صباح بالآيات والأذكار، قائلة: يا ستار يا ستار! هل أخبرت عساكرك بقدومك، فأتوا لتناول طعام العشاء معك؟

نشف ريق الشيخ فألقى ما في يده، نهض من مجلسه نحو الباب وأراد أن يشق طريقه، فاصطدم بالمداعة، فأحرق الجمر ثيابه. 

قالت: من في الباب؟ 

رد: طوق الحطاب. 

فطرقت خديها ووركيها، ووضعت السبابتين في عينيها! 

همس الشيخ: أخفيني في التنور! 

ردت: ستنضج وتفور! 

لكن سأخرج ثيابي وأدخلك الصندوق وأقفله. 

فأدخلته وطبقه، وبالقفل قفله.

ثم ذهبت وفتحت الباب. 

دخل طوق بايق نايق، فقال: أراك منشرحة مرحة، في رغد عيش مرتاحة، وفوق هذا كله أضحيتِ شرابة مداعة!

أخبريني مع من كنت موعودة، ولمن هذه المائدة ممدودة؟

ففتش البيت وخباياه، ثم جلس على الصندوق. 

قالت: يا طوق إليك انتابني الشوق، بيتك عامر، وشرفك طاهر، فلا تنخدع بالمظاهر. 

عمي كان على المائدة، وهذه بندقيته ومداعته، أتى بلحم كبش، فطلب مني طبخه!

خرج من البيت لتوه، بعد تناول وجبته. 

تفضل على الطعام، وبعد أن نفرغ نتم الكلام. 

أكل طوق بنهم وشهية قائلًا: كم أحب اللحوم المشوية! 

- بالهناء، كل لقمة مكتوبة لآكلها، حدثنا يا طوق عن غيبتك الطويلة، هل كنت من الغانمين أم عدت من الخائبين؟  

- الغربة يا صباح كربة، عملت نجارًا احترقت المنجرة، عملت بالتجارة بضاعتي بارت، عملت حارس مخازن، سُرقت فدخلت السجن. 

خرجت من السجن قبل يومين أتيتك أقلب الكفين؟

غدا سأبيع هذا السلاح والمداعة، وعند عودة عمك أخبريه أنه أتى سارق فسرقه. 

- أمانة عمي تسري بعروقي ودمي، محال أن أسمح لك!

إذا كنت بائعًا فبع شيئًا يخصك.  

- افتحي الصندوق قد أجد بعض الجواهر أبيعها وأنتفع بثمنها. 

- مفتاح القفل ضائع. 

بات الشيخ في الصندوق جائعًا معطوفًا، باردًا كفرخ منتوف. 

صباحًا استيقظ طوق، صاح: هاتي المفتاح! 

ردت: لم أعثر عليه!

تقدم طوق وأخذ البندقية وحشاها بالذخيرة، قال: سأطلق الرصاص على القفل حتى أكسره! 

صاحت: لا لا تفعل، ربما يحترق الصندوق بما في داخله فنخسره، إن كنت عازمًا على بيعه دون سواه، فبعه كما هو مقفلًا بمحتواه.

وافق الحطاب على الفكرة، فحمد الشيخ ربه وشكره. 

ساعدت صباح طوق في إخراج الصندوق، وحمله على الحمار وسار. 

وضعه في سوق المدينة، وللبيع عرضه! 

فكان يطلب به ثمنًا غاليًا، لا يخطر للمشتري على بال. 

أتى مشترٍ فقال: بكم هذا الصندوق؟ 

قال: بألف دينار. 

رد: هل أنت بكلامك جاد، أم أن هذا من باب المزاح والعناد؟! 

غضب الحطاب فربط الصندوق خلف الحمار وسحبه في السوق. 

اجتمع الناس حوله ليتبينوا أمره، فقالوا: هل لك أن تفتح الصندوق لنرى مكنونه وسبب غلو ثمنه؟

قال: ضاع مفتاحه وليس لي مفتاح سواه، لذا عزمت على بيعه بما حواه. 

ثم نهم الحمار وزجر، فتقرقع الصندوق في الحفر، صادف ابن الشيخ في ممر، استوقف الحمار وسأل صاحبه، عن سبب جر هذا الصندوق خلف الحمار. 

رد: معروض للبيع إن كنت مشترٍ ادفع ألف دينار. 

صمت باستغراب ولم يرد بجواب! 

زجر الحطاب الحمار، فصاح الشيخ من الصندوق: اشترِ يا ولدي ولو بألف دينار! 

سمع الابن صوت أبيه الأليف، فنشب بينه وبين الحطاب شجار عنيف. 

حضر العساكر فاقتادوهم مع الصندوق إلى حاكم السوق، فأخرجوا الشيخ والدم من رأسه يروق.

التفت الحاكم وقال: إن ما قمت به يا حطاب، أمر لا تستوعبه الألباب! 

رد: سيدي الحاكم استودعت لديه صندوقي، وفيه دراهمي ونقودي، ألف دينار، وعند طلبي رد الأمانة، كانت منه الخيانة، فأنكرني وجحدني في وضح النهار. 

فطلب الحاكم من الحطاب إثباتًا، فأحضرت صباح حراس الشيخ الاثنين، فكانوا نعم الشاهدين، أقرَّ الشيخ بالخيانة فاستوعد برد الأمانة. 

ذهب ابنه على الفور، وأحضر الصندوق بدنانيره.

فسلَّمه إلى الحطاب، وطلب منه السماح، فتبسمت صباح! 

فتصافحوا وتعافوا، وإلى ديارهم عادوا. 

بعد أن استعاد الأمانة من شيخ القبيلة اشترى الضياع وشيد القلاع، فسعد وأسعد وأنفق وتصدق، وخلَّّف الأولاد وذاع صيته في البلاد.

مرت السنون فأضحى طوق الحطاب كهلًا، ابيض شعره وتقوس ظهره، أحس بانقضاء عمره ودنو أجله. 

ذات مساء تبادل الحديث مع صباح، وأخبرها بما يجول بخاطره، وأنه اشتاق إلى زيارة قبر أبيه وأمه في مسقط رأسه. 

طلبت صباح مرافقته مع بعض الأولاد .

قال: الطريق طويل وشاق، ويزداد صعوبة بوجود الرفاق، لذلك سأذهب بمفردي وتبقين مع الأولاد تنتظرين عودتي.

عزم على السفر فأعدت صباح خيل ركوبه وزاده. 

في الصباح أخذ فأسه ومنجله وخلع نعله وتجرد من ثيابه، عدا سترة تستره بين ركبتيه والسرة، فكان شبه عاري الجسد حافي القدمين.

ذُهلت صباح لحالته التي رأته عليها، فقالت: ما هذا الذي أنت عليه؟!

قال: أليس هذا حالي الذي رأيتِني عليه أول مرة يا صباح؟ أحب أن أعود بالحالة التي بها أتيت، بمنجلي والفأس والحبل.

ودَّعته صباح بحضور الأولاد وبعض الأسياد.

فسلك الطريق التي منها آتى، ينتعل الحفاء وينام في العراء.

بعد عدة أيام وفي المساء ساقته الأقدار إلى الكهف نفسه الذي بات فيه ليلته الأولى بعد مغادرته مسقط رأسه، دخل وفي إحدى زواياه انزوى، فتذكر ما دار في هذا الكهف وما جرى، حلَّ الظلام فوضع رأسه كي ينام، فلمح على الشفق ظلًّا على باب الكهف استقام، استل فأسه والمنجل واستعد للقتال، فبادر المارد بالكلام: لا تسألني يا طوق من أكون ولا تطيل الكلام، فأنت تعرف أني صاحب العقد الكهرمان، لقد استعدته بعد أن أضعته، أنا التاجر الذي اشتراه فأعدته إلى موضعه بعد أن منحتك ثمنه كي تنعم به.

أخبرني يا طوق ما الذي أعادك بعد طول غيابك؟ 

- انتابني شوق لزيارة قبر أبي وأمي ومسقط رأسي. 

- الكوخ منصوب عامر بسكانه، والكنز مدفون في مكانه، وطُمر القبران بالأعشاب والأشجار، واندثرت عنهما الآثار.

اختفى المارد وبقي طوق في الكهف، بات ليله بفارغ الصبر منتظرًا صباحه. 

أطل على التلال والهضاب والشعاب، فاستعاد ذكريات شبابه، أحس بأوراق الأشجار تحييه وجداول الماء تناديه، وصخور البازلت الصماء الملساء مبتسمة، تروغ التربة تحت قدميه مرحبة، وكلما اقترب من الكوخ زادت سعادته.

أشعر أني وُلدت من جديد، ها قد وصلت باب الكوخ قبل المغيب، ها هو قائم القوائم بعد أن هددته وتركته خرابًا!

من هذا الرجل الذي خرج من الكوخ؟ كم هو شبيه بأبي! 

 كأنه أبي لا غيره ولا سواه، من أمامه ومن قفاه! 

- هلمَّ، وطأت أهلًا ونزلت سهلًا! هات أعطني؛ الفأس والمنجل والحبل، افتقدت هذه الأدوات من زمان، أحتاج إليها في جُل الأحيان، تفضل بالدخول!

حاورت ذاتي: الكوخ كما هو، كل شيء في موضعه وكأني لم أهدمه، حتى مكان الكنز. 

يا فنون: لدينا ضيف يا زوجتي، اجلبي له حليب الضأن. لبَّت الطلب وقالت: تفضل يا مسعود، أعط الضيف اللبن. 

يا للعجب إنها شبيهه بأمي شبهًا تامًّا. 

هل هذا يعقل؟ تتشابه الأسماء والأجسام؟ 

حتى الأسماء اسم أبي واسم أمي، ماذا يحدث؟!

هل بُعث من في القبور؟ أم أني انتقلت إلى الدار الآخرة؟

هل هما أبي وأمي؟

سوف أبوح لهما باسمي! لا لا سأبقى أتحرى ما يدور حتى ينكشف المستور.

أضافاه ثلاثة أيام داخل الكوخ دون أن يسمحا له بالخروج، بعدها سألاه عن اسمه ووجهته وسبب قدومه؟

حكى لهما قصته وأخفى عليهما اسمه وقصة عقد الكهرمان. ثم وجَّه لهما السؤال: من قام ببناء الكوخ بعد أن هدمته؟

قالا: تهنا السبيل بعد فرارنا من ظلم وقع علينا من ظالم أخذ حلالنا ونهب أموالنا وقتل أبناءنا، فنجونا بأنفسنا ولمحنا هذا الكوخ من بعيد، فأتيناه فوجدناه كما تراه الآن، فيه كل الأثاث وأبريق الماء وأدوات الطبخ، وفيه بعض الزاد والغذاء، فظننا أصحابه في المرعى أو خرجوا لأمرٍ ما، فانتظرنا قدومهم كي نحل ضيوفًا عليهم، حلَّ المساء فلم يأتِ أحد، فأكلنا بعض الطعام وبتنا فيه نيامًا، خرجنا من الكوخ في الصباح وحوله طفنا وإلى الضياع القريبة ذهبنا علَّنا نأنس بأحد، فعثرنا على قبرين حديثين، اعتقدنا أنهما أصحاب الكوخ، ولكن سألنا عمَّن قام بدفنهما؟

فغلب علينا الظن أنه حدث لهم ظلم مثل الذي حدث لنا فدفنوا قتلاهم وفرَّ الباقون، فخطر لنا سؤال آخر: إذا كان الأمر كذلك فأين هم المعتدون الظالمون؟

فتجاهلنا الأمر وعدنا نحو الكوخ، وقبل وصولنا شاهدنا نمرًا أتى من فج الوادي حاملًا في فمه غزالًا، خشيناه واختفينا خلف شجرة وراقبناه، فوصل باب الكوخ وحط الغزال وعاد من حيث أتى، فوصلنا ووجدنا الغزال ما زال ينبض بالحياة، فذبحناه وسلخناه وعلى النار أنضجناه، فكان غداءنا وعشاءنا، فاستمر على هذا المنوال، في كل يومين يأتينا بغزال، فطاب مقامنا في هذا المكان وفيه أنجبنا ابننا هذا، يجمع الحطب ويذهب بها إلى مفترق الطرق فيبيعه للمارة.

همست في سري: وهذا الابن يشبهني أيضا في سن الشباب، ويحمل صفاتي، ويمتهن مهنتي حطاب، بقي أن اعرف اسمه؟

ما اسمك يا بني؟

- اسمي طوق.

تسمَّر مكانه، فاتحًا فمه، وتدلى لسانه، وتجمدت عروقه، وتوقفت عيناه عن الدوران.

نادوه: يا غريب يا غريب لم يسمع ولم يجب، رشوه بالماء، وهزوه بالأيدي، بعد جهد جهيد صحا.

سألوه: ماذا حلَّ بك؟

- تذكرت أبي وأمي. 

نظر إلى الابن، وطلب منه أن يصحبه إلى قبر أبيه وأمه.

فأوصله إلى المكان، فأزاح الأعشاب والأشجار وأعاد ترتيب الأحجار، ثم استلقى على ظهره بين القبرين بعد أن ابتهل إلى المولى بالدعاء، فوضع يده اليمنى على قبر أبيه واليسرى على قبر أمه، وأغمض عينيه. 

انتظر الابن قيامه فطال انتظاره، فناداه: حان وقت العودة ودنت الشمس على المغيب، فلم يجب، اقترب ووخز قدمه بعود حطب فوجد جسده قد تصلب، رفع رأسه وجسَّ أنفاسه ونبضه فوجده قد فارق الحياة.

 تركه وعاد مسرعًا إلى أبويه، فحضرا وحملوه إلى الكوخ وغسلوه وكفنوه وإلى جوار أمه وأبيه دفنوه. 

رحمة الله تغشَّاه، هكذا سنة الحياة...

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

شكرا لمنصة جوك على نشر قصتي شكرا ✋🌹
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة