تنبجس في عصرنا هيمنة الرقم لتبدو ضبابًا يغلف مؤطرات الوجود، فتتكور دياجير الاختزال في وعينا؛ لينصب الحساب طاغوتًا على عرش القيمة محولًا إيانا والعالم إلى بياناتٍ في مصفوفة تسلب الروحَ أبعادَها الأثيرية، إن هذا الطوفان الرقمي يهدد بتجفيف ينابيع المعنى مختزلًا الحب والجمال والقداسة في خانات جافة، ومحولًا القلب من عرش للنور إلى مجرد آلة حاسبة تلهث خلف سراب الكفاءة، لكن من أتون القلب الوطيد نفسه، ومن أدغال الوعي المشتاق إلى الحرية تنبلج دعوة للتحرر، ليست رفضًا للرقم بعدّه أداةً، بل بكسر وثنه الذي صار غاية.
إنها صرخة الروح لاستعادة مملكتها غير المقاسة التي فيها تتفتح أزاهير المشاعر وتلمع جواهر الإبداع وتشرق شموس اليقين الروحي بعيدًا عن أسوار العد، ويتطلب هذا التحرر يقظةً دائمة، وشآبيبَ من رحمة البصيرة تذيب جليد المقارنات الرقمية، وشراراتِ إيمان تضيء قيمة الحضور الكيفي في اللحظة، وتخط بالمداد الداخلي على ألواح الوجود الخفية لغة القلب والشعر والفن والطبيعة والصمت، والغاية هي الوصول إلى أفق شمولي يتصالح فيه الكم مع الكيف، حيث يعود الرقم خادمًا أمينًا للحياة وللعشق الأعظم، وتفيض ينابيع الحكمة مجددًا في أودية الفكر والمشاعر؛ لتعانق الروح الإنسانية ذاتها العلوية، وتنطق الكائنات كلها ببهاء الحقيقة المتكاملة التي يزيح فيها النور المتوازن كل ظلمات الاختزال والتصنيف.
يا له من طوفان جارف تندفع أمواجه في عصرنا هذا، طوفان الحساب وهيمنة الأرقام التي تتمدد أذرع أخطبوط خفي، لكنه محكم القبضة، تتغلغل بلا هوادة في كل شريان نابض من شرايين الحياة المعاصرة، وتحكم سيطرتها الخانقة لا على تصوراتنا وقيمنا فحسب، بل على جوهر إنسانيتنا المتألقة ذاتها في عمق الكيان.
لم يعد الرقم مجرد أداة طيعة للعد والقياس والتنظيم، بل لقد انبجس مثل سلطة مطلقة تفرض نفسها، مثل قانون صارم، مثل معيار أوحد لا ثاني له، تقاس به الأشياء وتثمن، وتقوم به النفوس وتصنف، وتُختزل به التجارب الإنسانية بكل ثرائها وعمقها إلى مجرد بيانات جافة.
وها نحن نجد أنفسنا غارقين في بحر لجي هائل من البيانات المتدفقة والإحصائيات المتكاثرة والمقاييس التي لا تنتهي، محاصرين في (مصفوفة رقمية) كونية تنسج خيوطها حول وعينا، وتملي علينا بصمت أو بصخب معاييرَ مصطنعةً للنجاح والفشل، للجمال والقبح، للقيمة و عدمها، تصنفنا وتقولبنا وتوجهنا دون أن نشعر.
لقد تحول العالم في نظر هذا المنطق الطاغي إلى دفتر محاسبة كبير ودقيق، وأصبح الوجود الإنساني نفسه معادلة رياضية معقدة نسعى بكل ما أوتينا من جهد إلى موازنة طرفيها وتحقيق نتائجها المرجوة، وغالبًا ما يكون ذلك على حساب ما هو أثمن وأبقى، على حساب كل ما لا يقبل الحساب، ولا يخضع إلى القياس من أسرار الروح وكنوز القلب وتجليات الجمال ونفحات الرحمة، ففي هذا الطوفان الرقمي الجارف، وفي عصر (البيانات الضخمة) التي تراقب أنفاسنا وتحصي خطواتنا، وفي ظل هيمنة الخوارزميات الذكية التي تشكل أذواقنا، وتوجه قراراتنا، وتتحكم بما نراه وما لا نراه، ترتفع من أعمق أقبية الروح صرخة مكتومة، حنينٌ دفين متأجج إلى فضاء التحرر من هذا القفص الحسابي الذهبي الذي يغرينا بوعود الكفاءة والضبط، بينما هو يسلبنا جوهر حريتنا وتلقائيتنا، وليست هذه الصرخة دعوة ساذجة إلى الجهل بعلوم الرياضيات، أو إلى إنكار فائدة الأرقام الجليلة في تنظيم شؤون الحياة المادية، وفهم قوانين الطبيعة المحكمة، فتلك بساطة لا تليق بعاقل يبصر نور العلم، لكنها دعوة أعمق وأكثر جذرية، دعوة إلى كسر الطاغوت المتربع على عرش العصر، دعوة إلى تحطيم الصنم الرقمي الذي نصّبناه بأيدينا إلهًا جديدًا على مذبح الحداثة السائلة والعقل الأداتي.
إنه تساؤل وجودي ملح ينبع من صميم القلق على المصير الإنساني: هل يمكن للإنسان، هذا الكائن المركب من طين ونفخة سماوية أن يستعيد سيادته المسلوبة على ذاته وعلى معناه الخاص في عالم يُصرّ بقوة وعناد على اختزاله وتصغيره وتحجيمه إلى مجرد رقم باهت في قاعدة بيانات عملاقة، إلى نقطة ضئيلة في شبكة خوارزمية مترامية الأطراف؟
هل هذا التحرر الروحي والفكري ممكن حقًا في وجه هذا التيار الجارف، أم هو مجرد حلم شاعري يراود النفوس المرهفة، وهروب رومانسي من لغة العصر الحتمية ومنطقه البارد الذي لا يرحم، أم أن الأمل كل الأمل يكمن في هذا التحدي نفسه، وفي هذا الرفض الواعي الهادئ لسطوة الرقم المطلقة، أم أن في هذا الثبات الروحي يكمن سر الحفاظ على ما تبقى من إنسانيتنا المتآكلة ومن كرامتنا الكونية؟
إننا نقف اليوم بلا شك أمام مفترق طرق حاسم في تاريخ الوعي البشري؛ فإما أن نستسلم كليًا دون مقاومة إلى منطق الآلة الحاسبة العمياء، ونقبل طائعين أو مكرهين بأن نصبح مجرد تروس صغيرة صماء في ماكينتها الإنتاجية والاستهلاكية العملاقة، ندور ونعمل ونُستهلك وفق برمجتها الدقيقة، أو أن نعلن بشجاعة وهدوء (عصيانًا) روحيًا وفكريًا على هذا الطغيان الناعم، ونبحث بجد وإخلاص عن لغة أخرى للوجود، عن معايير مختلفة للقيمة، عن فضاء أرحب للروح، فضاء يتسع إلى ثراء التجربة الإنسانية بكل تناقضاتها وألوانها وعمقها، ذلك الثراء الذي تضيق به خانات الأرقام، وتعجز عن احتوائه كل الخوارزميات مهما بلغت من ذكاء.
ولا يمكن لعاقل في خضم هذه الدعوة إلى التحرر أن ينكر فضل الرقم الأصيل وقوة منطقه المحكم وسحر دقته الظاهرة، لقد كان الرقم من انبجاس فجر الحضارة الإنسانية أداةَ الإنسان السحرية لفهم الكون المحيط به، وضبط إيقاعه المتغير، ومحاولة السيطرة علي، به رفع الإنسان صروح الأهرامات الشامخة، وشيّد المعابد المهيبة، وبه قاس دوراتِ الفلك المنتظمة وحركات النجوم الهادية، وبه نظَّم شؤون مجتمعاته المتنامية، وسنّ قوانينه التي تحكم علاقات أفرادها، لقد رأى فيثاغورس الحكيم في تناغم الأرقام ونسبها الذهبية سر الموسيقى الكونية التي تملأ الأثير، ورأى فيه العلماءُ والفلاسفة مفتاح فك شيفرة الوجود المادي وكشف أسرار الطبيعة وقوانينها الدقيقة، فالرقم لغة العلم الصارمة والدقيقة، هو الهيكل العظمي المتين الذي يعطي الواقع المادي شكله الظاهر وقوامه المنطقي الذي يمكن فهمه والتعامل معه، هو الأداة الفعالة التي مكّنتنا من بناء السدود العملاقة وإطلاق الأقمار الصناعية إلى فضاء الكون السحيق وتشخيص الأمراض المستعصية وصناعة الدواء.
هذا الوجه النير والبنّاء للرقم، وجه الأداة الخادمة للحياة والمعرفة، لا يمكن بحال من الأحوال تجاهله، أو الاستغناء عنه في عالمنا المعقد، لكن ككل قوة عظيمة تمنح الإنسان قدرة هائلة، يحمل الرقم في طياته الخفية بذور طغيانه المحتمل وإمكانية انحرافه عن مساره الصحيح، فحين يتجاوز الرقم دوره الأصيل في أن يكون أداة طيّعة في يد الوعي إلى أن يصبح الغاية المنشودة والهدف الأسمى، وحين يتحول من وسيلة محايدة للوصف والقياس إلى معيار مطلق للقيمة والحكم، وحين يُخلع عليه رداء القداسة ويُعبد كوثن جديد، حينئذ يبدأ الطغيان الرقمي في التسلل إلى حياتنا، ويحكم قبضته على أرواحنا، إنه يغرينا بجاذبية التبسيط المخل وبوهم السيطرة الكاملة، فيدفعنا إلى اختزال التعقيد المبهر غير المتناهي للحياة الإنسانية والكونية إلى مجرد متوسطات حسابية جافة ورسوم بيانية مضللة، إنه يعمم وينمط بلا رحمة، فيمحو تحت وطأة الإحصائيات العامة وقوانين الأعداد الكبيرة فرادة الأشخاص وتفرد التجارب وخصوصية اللحظات التي لا تقدر بثمن.
إنه يحول ببرودته القاسية ما هو مقدس وجوهري إلى مجرد سلعة تباع وتشترى في سوق الحياة، فيُسعِّر الفن الأصيل، ويقيم الحب النقي، ويحصي أنفاس الطبيعة الأم تمهيدًا إلى استغلالها ونهب خيراتها بلا حساب، فتصبح الغابات العذراء مجرد أمتار مكعبة من الخشب تنتظر قاطعها، وتصبح البحار الزرقاء العميقة مجرد براميل محتملة من النفط تنتظر منقّبها، ويصبح الإنسان نفسه ذلك الكائن المكرم الذي يحمل نفخة من روح الكون مجرد وحدة إنتاجية تقاس بعطائها المادي، أو وحدة استهلاكية تقاس بقدرتها الشرائية، أو رقمًا انتخابيًا في لعبة السياسة، أو مجرد بيانات تباع وتشترى في أسواق الخوارزميات.
هذا هو وجه الرقم المظلم والمرعب حين يصبح طاغوتًا حقيقيًا يملي إرادته على الروح ويحاصرها في قفصه الحديدي، ويجفف بقسوته ينابيع المعنى الأصيل، ويطفئ شموس اليقين الداخلي، ويمكن النظر إلى الأرقام بهذا المنظور كأنها ظلال باهتة للمادة الكثيفة، كبصمات للآلة الصماء على صفحة الوجود الحي النابض، هي قادرة على أن تخبرنا بدقة عن الكم، وعن العدد والوزن والحجم والمسافة، لكنها تظل صامتة تمامًا وعاجزة كليًا أمام مملكة الكيف، أمام الجودة والمعنى والقيمة الجوهرية، تخبرنا بتفصيل عن الهيكل الخارجي، وعن القالب المادي، لكنها لا تستطيع أن تقول شيئا يذكر عن الروح التي تسكن هذا الهيكل، عن النور الذي يضيئه من الداخل.
عندها في قلب هذه المفارقة يطرح العقل المتسائل والمتحرر من عبودية المسلمات سؤاله الحارق والمؤرق: ما الحدود الحقيقية للمعرفة التي يمكن أن نصل إليها عبر لغة الأرقام وحدها مهما بلغت من دقة وتطور؟ وهل الاعتماد المفرط والمطلق عليها في عصرنا هذا يصيبنا بنوع من العمى الانتقائي المميت، فيجعلنا لا نرى ولا نقدر إلا ما هو قابل للقياس والعد والحساب، ونتجاهل عمدًا أو دون عمد كل ما عداه، كل ما هو كيفي وروحي وجمالي وأخلاقي، حتى لو كان هذا المتجاهل هو الأهم في ميزان الحقيقة، والأبقى في سجل الوجود؟ هل نحن نضحي بالعمق الإنساني من أجل الدقة الرقمية الظاهرية، ونستبدل بالحكمة القلبية المعلومة العقلية الباردة؟
إن الرقم قد يكون أداة رائعة في يد الحكمة، وقد يكون طاغوتًا مدمرًا حين يستبد ويتجاوز حدوده، وقد يبدو في بعض الأحيان حين نتأمل علاقتنا المعقدة به كطلسم غامض، يوهمنا بالفهم والسيطرة على الواقع، بينما هو في حقيقته يعمق الحجاب بيننا وبين جوهر الأشياء، ويبعدنا عن ينابيع المعرفة الأصيلة.
إن رحلة التحرر الحقيقية من طغيان الأرقام ومن سجن الخوارزميات لا تبدأ بثورة خارجية على الآلات أو الأنظمة، بل تبدأ أولًا، وقبل كل شيء في ساحات الوعي الداخلي، وفي تلك المناطق الشاسعة من حياتنا التي استعمرتها لغة الحساب الباردة، وفرضت عليها منطقها القاسي والجاف، وأولى هذه الساحات التي تحتاج إلى تحرير عاجل هي ساحة تقدير القيمة الذاتية للإنسان، لقد أتقن العصر الرقمي فن ربط قيمتنا نحن الكائنات البشرية الفريدة بسلسلة لا تنتهي من الأرقام الخارجية التي تلاحقنا من المهد إلى اللحد؛ فالعمر الزمني أصبح هو الذي يحدد مراحل حياتنا، ويملي علينا ما يجب أن ننجزه أو نمتلكه في كل مرحلة، متجاهلًا إيقاعات النمو والنضج الداخلية المختلفة، أما الوزن والطول ومقاييس الجسد المختلفة أصبحت هي التي تحتم معايير جمال مصطنعة وقاسية، تسبب كثيرًا من الألم والقلق لكثيرين، وغدا الراتب والدخل والممتلكات المادية هي التي تحدد بصرامة مكانتنا الاجتماعية، وتعرف نجاحنا المزعوم في الحياة، بل وصل الأمر إلى أن عدد المتابعين والإعجابات والتعليقات عبر منصات التواصل الافتراضي أصبح لدى البعض مقياسًا معتَمَدًا للشعبية والتأثير والقيمة الإنسانية!
التحرر الحقيقي يعني رفض هذه المعادلة السامة والمدمرة رفضًا قاطعًا، وإعلان عصيان داخلي على هذا المنطق المختل، والتأكيد بكل قوة على أن قيمة الإنسان الحقيقية والجوهرية تكمن في كنهه غير المادي، وفي وعيه المتفتح، وفي قدرته الفطرية على الحب والرحمة والإبداع والتجاوز، وفي ذلك اللب النوراني الخالد الذي يسكن أعماقه، والذي لا يمكن لأي آلة حاسبة مهما بلغت من تعقيد، ولا لأي خوارزمية مهما بدت ذكية أن تحيط به، أو تدرك عمقه، أو تقيم قيمته الحقيقية، لكن من أين تأتي هذه القيمة الجوهرية إن لم تكن مستمدة من الخارج، وهي أيضًا غير قابلة للقياس الموضوعي؟ هل هي مجرد شعور ذاتي نقنع به أنفسنا، أم هي حقًا انعكاس حقيقةٍ متعالية تسكننا، وبصمة إلهية لا تُمحى في طينتنا البشرية؟ ويعود السؤال الفلسفي الأزلي ليلح علينا، ويدعونا إلى مزيد من الغوص والتأمل في طبيعة وجودنا ومعناه، وفي الساحة الثانية التي استباحتها الأرقام، وهي ساحة الزمن.
لقد حولنا الزمن، هذا السر الكوني العظيم الذي ينساب كنهر غامض إلى مجرد عداد رقمي دقيق يلاحقنا كظلنا في كل لحظة؛ ساعاتٍ ودقائقَ وثوانٍ تسيطر بصرامة على إيقاع حياتنا اليومية، تحدد مواعيد عملنا وراحتنا، تقسم نهارنا إلى وحدات متساوية، وتشعرنا دائمًا بالقلق، وبأننا متأخرون عن اللحاق بشيء ما، وبأن الزمن يجري أسرع مما يجب.
إن التحرر من هذه الرقمية الزمنية الطاغية لا يعني بالضرورة إهمال المواعيد المهمة، أو العيش في فوضى عارمة، بل يعني أولًا، وقبل كل شيء استعادة الإحساس بالزمن الكيفي، بزمن الروح الداخلي، بما يسمى أحيانًا (الآن الأبدي) الذي تحدث عنه المتصوفة والفلاسفة عبر العصور، وهو ليس إلغاء للماضي والمستقبل، بل هو إدراك عميق لكثافة اللحظة الحاضرة وقيمتها المطلقة، إنه إدراك أن لحظة واحدة من الحضور الكامل والوعي المتيقظ قد تكون أثمن وأغنى من سنوات طويلة من الغياب والشرود واللهاث وراء سراب المستقبل، إنه دعوة للعودة إلى تناغم أكبر مع الإيقاعات الطبيعية للكون، إيقاعات شروق الشمس وغروبها، وتعاقب الليل والنهار، وتغير الفصول، وإلى زمن الروح الداخلي الذي لا يقاس بالكم والعدد، بل يقاس بالكثافة والعمق والشعور بالامتلاء والاتصال.
وعلى هذا هل الزمن الخطي الصارم الذي يقيسه دولاب الساعة الميكانيكي أو الرقمي هو الحقيقة الوحيدة والمطلقة للزمن، أم هو مجرد بناء عقلي مفيد، واتفاق اجتماعي ضروري لتنظيم الحياة المشتركة، لكنه ليس كل الحقيقة؟ إن العزلة الواعية بضغط الساعة وضجيج الوقت المتسارع، ولو لأوقات قصيرة في التأمل أو في الطبيعة قد تكشف لنا أبعادًا أخرى للزمن لم نكن ندركها، أبعادًا أكثر رحابة ومرونة وعمقًا.
أما الساحة الثالثة للتحرر هي ساحة علاقتنا بالطبيعة، لقد حول المنطق الرقمي والاقتصادي المهيمن الطبيعة الأم التي كانت تعد في الحضارات القديمة كائنًا حيًا مقدسًا، ومصدرًا للحكمة والإلهام إلى مجرد (موارد طبيعية) صماء تقدر وتثمن بقيمتها الاقتصادية، وبقدرتها على تلبية حاجاتنا الاستهلاكية المتزايدة، فأصبحت الغابة تقاس بعدد أمتارها المكعبة من الأخشاب القابلة للاستغلال، والنهر يقاس بكمية مياهه الصالحة للري أو لتوليد الكهرباء، والجبل يقاس بما في باطنه من معادن نفيسة تنتظر من يستخرجها ويحولها إلى أرقام في حسابات الأرباح والخسائر.
التحرر الحقيقي يعني استعادة النظرة الشاعرية والروحية إلى الطبيعة، ورؤيتها من جديد كتابًا كونيًا مفتوحًا تتجلى فيه آيات الجمال والحكمة الإلهية كمرآة صافية تعكس جمال الخالق وعظمته وإبداعه المتجدد، كمعلم صامت وبليغ يلقننا دروس التوازن الدقيق والانسجام الرائع والتسليم الهادئ لقوانين الوجود الأزلية، إنه دعوة إلى التخلي عن لغة الأرقام في وصف روعة غروب الشمس، أو في تأمل تفتح زهرة برية، أو في الشعور بلمسة النسيم العليل على وجوهنا، والعودةِ إلى لغة الدهشة الفطرية، ولغة التأمل العميق، ولغة الشعور بالوحدة المقدسة مع كل مظاهر الطبيعة، إنه ثورة هادئة على منطق الاستغلال والجشع الذي يبرره الحساب الرقمي البارد، وعودة واعية إلى منطق الاحترام والتعايش والمسؤولية تجاه هذه الأرض التي تحتضننا وتغذينا.
إن هذه التحررات في ساحات القيمة والزمن والطبيعة تتطلب جهدًا واعيًا ومستمرًا؛ لتحطيم الأصنام الرقمية التي نصبناها داخلنا قبل أن نواجه تجلياتها في العالم الخارجي، إنها أشبه بفعلِ كسر عدادات العمر والمال والشهرة التي تُكبل أرواحنا، وبفعلِ إذابة عقارب الساعة القاسية في محيط اللحظة الحاضرة الأبدي، وبفعلِ محو علامات الأسعار البخسة عن وجه الوجود الجميل والبهي.
حين نُسكت قليلًا ولو للحظات ذلك الضجيجَ المستمر للآلة الحاسبة في عقولنا، ونرهف السمع بكل كياننا لما هو أبعد وأعمق من لغة الأرقام الجافة والمجردة نكتشف في تلك المملكة الشاسعة والغامضة ما لا يقاس، وما يستعصي على العد والحساب والتحليل، إننا ندخل مملكة الكيف لا الكم، مملكة الجوهر الخفي لا الشكل الظاهر القابل للقياس، تسكن هذه المملكة الأثيرية كل المشاعر الإنسانية العميقة والمعقدة التي تشكل جوهر تجربتنا نحن البشر؛ ففيها يسري الحب الحقيقي الذي لا يمكن قياس عمقه بالمقاييس، ولا وزن صدقه بالموازين، وتفيض ينابيع الرحمة التي تتجاوز كل حسابات المصلحة الشخصية وتكسر كل حدود الأنانية، وينمو التعاطف الصادق الذي يجعلنا نشعر بآلام الآخرين كأنها آلامنا، ويسكن الحزن النبيل الذي لا يدعو إلى اليأس، بل يعمق البصيرة ويطهر القلب، وينبجس الفرح الخالص الذي يلامس شغاف الروح، ويحلق بها في فضاءات البهجة الصافية.
كل هذه تجارب جوهرية وأساسية تشكل ألوان طيف إنسانيتنا، لكنها بطبيعتها السائلة والمتغيرة والعميقة تستعصي على أي محاولة للقياس الكمي أو التصنيف الرقمي الدقيق، وتسكن هذه المملكةَ أيضًا كل تجارب الجمال الأصيل والإبداع الخلاق؛ تلك اللحظة الفريدة التي نقف فيها مبهورين ومأخوذين أمام لوحة فنية تخاطب أرواحنا، أو أمام مقطوعة موسيقية تأخذنا في رحلة إلى عوالم أخرى، أو أمام مشهد طبيعي ساحر يعيدنا إلى حالة الدهشة الأولى، تلك اللحظات الثمينة التي يتوقف فيها العقل عن التحليل والتصنيف، وتتحد فيها الروح بالجمال المتجلي اتحادًا مباشرًا وصامتًا وعميقًا، إنها لحظات لا تقاس قيمتها أبدًا بسعر اللوحة الفنية أو بشهرة الموسيقار الموهوب، بل بعمق الأثر الذي تتركه في النفس، بذلك الرنين الذي تحدثه في أوتار القلب، بتلك البصيرة التي تشرق في سماء الوعي، وكذلك هو فعل الإبداع نفسه، تلك الشرارة الغامضة التي تولد فكرةً جديدة، أو تفجر قصيدة ملهمة، أو تنسج لحنًا شجيًا، هي عملية عضوية حية وغامضة، تتدفق كنبع خفي، تتجاوز حدود المنطق الحسابي الصارم، وتنبع من تفاعل أعمق وأكثر خصوبة بين الوعي وعدم الوعي، بين الإرادة والإلهام.
ويسكن هذه المملكة غيرَ المقاسة أيضًا الوعي بأسرارها كلها، وبتلك البصيرة التي تشرق في سماء الوعي، وهذا هو فعل الإبداع نفسه، تلك الشرارة الغامضة التي تولد فكرة جديدة، أو تفجر قصيدة ملهمة، أو تنسج لحنًا شجيًا، هي عملية عضوية حية وغامضة، تتدفق كنبع خفي، تتجاوز حدود المنطق الحسابي الصارم وتنبع من تفاعل أعمق وأكثر خصوبة بين الوعي وعدم الوعي، بين الإرادة والإلهام، ويسكن هذه المملكة غيرَ المقاسة أيضًا الوعيُ بكل أسرارها، وهذا الوعي هو اللغز الأعظم الذي لا يزال يحير الفلاسفة والعلماء، وهو الحقيقة التي تقر بأننا ندرك ونشعر ونفكر ونتأمل في وجودنا نفسه.
لكن كيف يمكن قياس هذا الوعي الذي هو أساس كل قياس؟ كيف يمكن اختزال تجربة (الأنا) الواعية بذاتها وبالعالم في معادلة رياضية مجردة، أو في خوارزمية عصبية معقدة؟ كل محاولات القياس والنمذجة الرقمية للوعي تظل تدور حول الظاهرة الخارجية دون أن تلامس جوهرها الداخلي الفريد والمستعصي.
وكذلك هي التجربة الروحية أو الدينية في عمقها، تلك اللحظات المتفلتة من قبضة الزمان والمكان، لحظات الاتصال المباشر بالمقدس، والشعور بالوحدة العميقة مع الكون أو مع الخالق، والإحساس بحضور إلهي متعال يغمر الكيان بالسكينة أو بالرهبة، كلها تجارب إنسانية جوهرية تقع تمامًا خارج نطاق الشبكة الرقمية وخارج حدود القياس العلمي المادي، ولا يمكن فهم حقيقتها، أو التحقق من صحتها بأدوات العد والحساب وحدها، وفي قلب الإقرار بوجود هذه المملكة الشاسعة لما لا يقاس، يعود العقل النقدي الفاحص ليطرح أسئلته المشروعة والضرورية: هل هذه المملكة غير المقاسة بكل ما فيها من مشاعر وجماليات وتجارب روحية هي مجرد عالم ذاتي محض من المشاعر والانطباعات الشخصية التي لا يمكن تعميمها، أو التحقق منها، أم أنها تشير حقًا إلى بعد موضوعي آخر للواقع، بُعدٍ كيفي وجوهري لا يقل حقيقة وأهمية عن البعد الكمي الذي يقيسه العلم بأدواته الرقمية؟ وإذا كانت تلك المملكة كذلك، وإذا كان للكيف وجود حقيقي ومستقل، فكيف يمكننا معرفة هذا البعد الخفي أو الإبحار في محيطاته الشاسعة دون الاستعانة بخرائط الأرقام التي تبدو أكثر وضوحًا، وهي أدوات موثوق بها؟ هل نكتفي بالاعتماد على الحدس والقلب والبصيرة والإلهام فقط؟ وما مدى مصداقية هذه الأدوات التي تبدو (ذاتية) ومتقلبة؟ كيف نتجنب الوقوع في شباك الوهم والخرافة والتفكير المرتبط بالرغبة إذا تخلينا عن صرامة المنهج الرقمي ومنطقه الواضح؟
إن الدعوة إلى التحرر من طغيان الأرقام لا تقدم إجابات سهلة أو وصفات جاهزة، بل هي بالأحرى تفتح الباب واسعًا أمام استكشاف سبل أخرى للمعرفة، سبل تحترم التعقيد، وتقدر الكيف، وتعطي مساحة للحدس والبصيرة، سبل تتطلب شجاعة الثقة بالبوصلة الداخلية، ورهافة الاستماع إلى (لغة القلب) الصامتة، وقدرة الرؤية (بعين الروح) النافذة، مع البقاء في حالة حوار نقدي بناء ومستمر مع العقل المنطقي وأدواته الضرورية، إنه البحث المضني والجميل عن توازن جديد وديناميكي بين مملكة الكم ومملكة الكيف، بين العقل والقلب، بين العلم والحكمة.
وإذا كانت لغة الأرقام هي لغة الكم والدقة الظاهرية والتحليل المجرد، فما هي لغة الكيف التي تزدهر وتثمر حين نتحرر ولو نسبيًا من هيمنة لغة الأرقام المطلقة، ونفسح المجال لتجليات الوجود الأخرى؟ إنها ليست لغة واحدة، بل هي لغات متعددة، أكثر دفئًا وحياة وثراء وقدرة على ملامسة تعقيدات الروح البشرية، ونقل تجاربها العميقة، وتأتي في مقدمة هذه اللغات لغة السرد والحكاية والقصة، فالقصص سواء كانت تاريخية واقعية، أم أسطورية خيالية، أم شخصية حميمة تحمل في طياتها المتشابكة حكمة ومعنًى وقيمًا إنسانية لا يمكن أبدًا تلخيصها في إحصائية مملة، أو في رسم بياني جاف، إنها تجسد التجارب الإنسانية في سياقاتها الحية والنابضة، وتسمح لنا بالغوص في أعماق الشخصيات وفهم دوافعها وصراعاتها، وتتيح لنا فرصة التعاطف العميق والفهم الوجداني الذي يتجاوز حدود التجريد الرقمي البارد، ثم تأتي بعد ذلك لغة الشعر والمجاز والاستعارة والرمز، هذه اللغة الفريدة لا تهدف إلى الوصف الدقيق والمباشر للعالم الخارجي كما يفعل العلم الرقمي، بل تهدف إلى الإيحاء والإشارة وخلق أصداءٍ ورنينٍ في أعماق النفس، إنها تستخدم الكلمات ليس بعدها أدواتٍ للتحديد والحصر، بل بعدّها جسرًا للعبور إلى ما وراء الكلمات نفسها، للتعبير عن تلك المشاعر الدقيقة والأفكار العميقة والتجارب الروحية التي تستعصي على اللغة العادية المباشرة، فضلًا عن لغة الأرقام الصماء، فالشاعر الحقيقي لا يحصي عدد بتلات الوردة أو يصف تركيبها الكيميائي، بل يغوص في عبيرها المنسكب وجمالها المتفتح ومعناها الرمزي الذي يربطها بالحب والحياة والفناء.
وتوجد أيضًا لغة الفنون البصرية والسمعية الأخرى؛ كالرسم الذي يخاطب العين والروح، والنحت الذي يجسد المعنى في الحجر، والموسيقى التي تنساب إلى القلب بلا استئذان، والرقص الذي يعبر عن إيقاع الحياة بالجسد، كل هذه الفنون الأصيلة تتواصل معنا مباشرة على مستوى الحواس والعاطفة والروح، متجاوزةً بذلك حواجز اللغة المنطوقة وعجز اللغة الرقمية، فلوحة واحدة قد تثير فينا في لحظةِ تأمل مشاعرَ وأحاسيسَ لا يمكن وصفها بمليون كلمة، ومقطوعةٌ موسيقية صادقة قد تأخذنا في رحلة داخلية عميقة إلى عوالم لم نكن نحلم بها، ورحلةٌ لا تستطيع أي معادلة رياضية أن ترسم مسارها أو تقدر قيمتها، إنها لغة التجربة الجمالية المباشرة، لغة الذوق الرفيع والوجد الصادق.
وأخيرًا توجد لغة الصمت العميق ولغة الطبيعة البليغة، فالصمت حين نحسن الإنصات إليه، ونفسح له المجال في ضجيج حياتنا يصبح أبلغ من كل كلام، فهو يكشف لنا حقائق لم نكن نسمعها وسط الثرثرة الداخلية والخارجية، والطبيعة حين نتأملها بعين القلب المتفتح لا بعين المستغل الجشع، تحدثنا بلغة الجمال الأزلي والتناغم الدقيق والتجلي الإلهي المستمر في كل ورقة شجر، وكل قطرة ماء، وكل ذرة تراب.
هذه اللغات الكيفية المتنوعة هي التي تغذي الروح وتنعشها، وتثري الوجدان وترهفه، وتعيد للإنسان بعده الإنساني الشامل الذي كاد أن يفقده في عصر الحسابات والخوارزميات، لكن مع الإقرار بأهمية هذه اللغات الكيفية وقدرتها على إثراء حياتنا، يظل التحدي قائمًا وملحًا: كيف نضمن فهمًا مشتركًا أو حوارًا بناءً ومثمرًا عبر هذه اللغات التي قد تبدو أحيانًا ذاتية وغامضة ومتفلتة من ضوابط المنطق الصارم؟ هل يمكن للحدس والبصيرة والحكمة -وهي من أهم أدوات المعرفة الكيفية- أن تصبح أساسًا موثوقًا به ومستقرًا لبناء حياة فردية متزنة وحياة جماعية منسجمة؟ كيف نربي في أنفسنا وفي الأجيال القادمة القدرة ليس فقط على التحليل الرقمي، بل أيضًا على (القراءة الكيفية) للعالم حولنا، والقدرة على التعبير الصادق والعميق بلغة تتجاوز حدود الرقم وتلامس شغاف القلوب؟ إنها في الحقيقة دعوة ملحة إلى توسيع مفهومنا الضيق للذكاء والمعرفة؛ ليشمل ذلك الطيف الواسع من القدرات الإنسانية التي تقع أبعد بكثير من مجرد القدرة على الحساب والتحليل المنطقي، وليشمل الذكاء العاطفي والروحي والجمالي والإبداعي.
إن الدعوة إلى التحرر من طغيان الأرقام كما أشرنا ليست بحال من الأحوال دعوة عبثية إلى حرق دفاتر الحسابات، أو تحطيم أجهزة الكمبيوتر، أو العودة إلى حياة بدائية تفتقر إلى التنظيم والدقة، فنحن نعيش شئنا أم أبينا في عالم معقد ومتشابك يعتمد اعتمادًا أساسيًا وجوهريًا على الأرقام ولغتها ومنطقها في تسيير شؤونه الأساسية من اقتصاد وعلم وتكنولوجيا وصحة وتعليم، فكيف إذن نجسد هذا التحرر المنشود في واقع حياتنا اليومية المزدحمة بالأرقام والمقاييس؟
وفي هذا تكمن المفارقة الجميلة والتحدي الحقيقي: إن التحرر الجوهري ليس تغييرًا خارجيًا في طبيعة الأدوات التي نستخدمها بقدر ما هو تحول داخلي في منظور رؤيتنا الأشياء، وفي سلم القيم الذي نحكم به على أنفسنا وعلى العالم، إنه تغيير في الوعي أولًا وقبل كل شيء، ويبدأ هذا الأمر بتنمية الحضور الواعي واليقظ في اللحظة الراهنة، بتذوق (الآن) بكل ما يحمله من تجارب حسية وشعورية وفكرية، وبمقاومة الإغراء الدائم بقياس قيمة هذه اللحظة الحاضرة بما ستفضي إليه في المستقبل من نتائج رقمية (كمعدل أو راتب أو ربح)، أو بما ورثته من الماضي من ذكريات أو إخفاقات.
إنه الانغماس الواعي في التجربة ذاتها، سواء كانت تجربة بسيطة كشرب كوب من الشاي بهدوء وتركيز، أو عميقة كحوار صادق ومتدفق مع صديق حميم، أو ممتعة كقراءة كتاب ملهم، ويهم أيضًا في هذا السياق تقدير العملية نفسها أكثر من النتيجة النهائية؛ أي الاستمتاع برحلة التعلم ذاتها بغض النظر عن الدرجات التي سنحصل عليها، والاستمتاع بعملية الإبداع نفسها بغض النظر عن مدى الشهرة أو الاعتراف الذي قد يجلبه العمل الفني، والاستمتاع بفعل العمل نفسه والشعور بالإنجاز الداخلي بغض النظر عن الأرقام النهائية للإنتاجية أو الربح.
ويتضمن هذا التحرر الداخلي أيضًا جهدًا واعيًا لمقاومة الداء العضال الكامن في المقارنة الاجتماعية المبنية أساسًا على المقاييس الرقمية الزائفة، والكف الواعي والمستمر عن مقارنة دخلنا المادي بداخل الآخرين، أو مظهرنا الخارجي بمظهرهم، أو عدد إنجازاتنا الظاهرية بإنجازاتهم، أو درجة سعادتنا المزعومة بسعادة الآخرين المعلنة عبر منصات الوهم الرقمي.
إن كل فرد منا هو رحلة كونية فريدة ومتفردة، وكل مقارنة رقمية بين هذه الرحلات تبسيط مخل وجائر يشوه الحقيقة، ويغذي مشاعر النقص أو الغرور، وبدلًا من الاستسلام إلى سلطة هذه المقارنات الرقمية المدمرة، يمكننا تنمية القدرة على الحكم الكيفي والحدسي على الأمور، والاعتماد أكثر على الخبرة المتراكمة، وعلى الحدس الصادق، وعلى القيم الداخلية الراسخة في اتخاذ قراراتنا المهمة، وتقييم المواقف والأشخاص بدلًا من الاعتماد الكلي والمطلق على الإحصائيات الجافة، أو على آراء الخبراء التي غالبًا ما تكون هي نفسها مبنية على الأرقام والمقاييس الكمية، بالكاد كما أسلفنا، يظل جانب كبير من الواقع العملي يتطلب منا التعامل مع الأرقام بجدية ومسؤولية: كدفع الفواتير الشهرية، والالتزام بالمواعيد الضرورية في العمل أو الدراسة، واستخدام منجزات العلم المبني على القياس الدقيق في الطب والهندسة وغيرها، فالتحرر المنشود لا يعني أبدًا الدعوة إلى الفوضى، أو عدم المبالاة، أو الهروب من مسؤوليات الحياة العملية، بل يعني ببساطة وعمق وضع الأرقام في مكانها الصحيح والطبيعي بعدها أدوات مفيدة وخادمة للحياة وللقيم الإنسانية العليا، لا بعدّها أسيادًا مستبدين يتحكمون بنا، ويوجهون مسارنا ويحددون قيمتنا.
إنه أشبه بما يسمى في التراث الروحي (الجهاد الأكبر)، ليس ضد عدو خارجي، بل ضد الذات المتعلقة والمقولبة رقميًا، ضد الإغراء الدائم والمستمر باختزال أنفسنا الثرية واختزال العالم المعقد إلى مجرد حسابات ومعادلات بسيطة، إنه تمرين روحي وفكري يومي ومستمر، يتطلب يقظة دائمة ومراجعة مستمرة لسلم أولوياتنا وقيمنا الحقيقية، وللكيفية التي ندرك بها أنفسنا والعالم.
إن الغاية القصوى والهدف الأسمى من رحلة التحرر الطويلة والشاقة من سطوة الأرقام وهيمنتها المتزايدة على وعينا وحياتنا ليست أبدًا إلغاء الرقم أو نفيه من مملكة الوجود، فهذا عبث ومحال، بل الهدف الجوهري هو خلع هذا الرقم عن عرش الألوهية الزائفة التي نُصّب عليها في عصرنا هذا، وإعادته إلى حجمه الطبيعي في أن يكون أداة نافعة، لكنها محدودة.
إن الهدف هو الوصول إلى رؤية الواقع والحقيقة رؤية أكثر شمولية وتوازنًا وتكاملًا، رؤيةً تقدر الكم والكيف معًا، وتفهم علاقتهما الجدلية، وتدرك بعمق أن الحقيقة أغنى وأوسع وأكثر تعقيدًا وجمالًا من أن تحصر يومًا في معادلة رياضية مهما بدت دقيقة، أو في رسم بياني مهما بدا واضحًا.
إنه السعي الدؤوب نحو تحقيق إنسان متكامل، إنسان يمتلك القدرة على استخدام عقله المنطقي وقدرته الفائقة على الحساب والقياس والتحليل، لكنه في الوقت نفسه لا ينسى أن يصغي إلى نداء قلبه، ويحلق بخياله ويستلهم من حدسه، ويتذوق جمال الوجود الذي لا يقاس، ولا يقدر بثمن.
نريد أن نصل إلى عالم تستخدم فيه الأرقام والخوارزميات لخدمة الحياة الإنسانية والعدالة الاجتماعية والرحمة بين البشر، لا لتعزيز الجشع الرأسمالي والاستغلال البشع والتصنيف الظالم بين الناس، نريد أن نعيد القيمة الحقيقية للمعاني والقيم الروحية والجماليات الفنية والأخلاقيات الإنسانية التي تجعل الحياة جديرة بأن تعاش ويحتفى بها، نريد أن نحرر أنفسنا من عبودية المقاييس الخارجية الزائفة لنكتشف بأنفسنا ثراء مملكتنا الداخلية غيرَ المحدود.
وفي ختام هذا المطاف الطويل من التأمل، يبقى السؤال الوجودي الكبير يتردد كصدى مقلق في فضاء العصر الرقمي المتسارع: هل ستنجح الإنسانية في نهاية المطاف في الحفاظ على روحها وشاعريتها وحكمتها وقيمها في مواجهة هذا الطوفان الخوارزمي المتزايد الذي يهدد بتنميط كل شيء؟ هل نستطيع نحن البشر أن نروض الآلة الذكية التي صنعناها لتخدم الإنسان وقيمه العليا، بدل أن نصبح خدامًا أذلاء لمنطقها الحسابي البارد غير الإنساني؟
إن السعي إلى التحرر من طغيان الأرقام ليس مجرد ترف فلسفي أو حنين رومانسي إلى الماضي، بل قد يكون هو الشرط الأساس لبقائنا كائنات إنسانية حقيقية وكاملة في المستقبل المنظور، إنها دعوة مفتوحة ومستمرة لكل فرد إلى استعادة بوصلته الداخلية المفقودة، وإلى الإبحار بشجاعة وثقة نحو أفق أرحب، يتسع فيه الوجود ليشمل ما هو أبعد وأعمق وأجمل من حدود العد والقياس الضيقة.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.