في زقاق مظلم يعج بالضجيج واليأس، كان "يحيى" يركض حافي القدمين، يبحث في الزوايا عن لقمة تروي جوعه أو حضن يدفئ وحدته. كان الشارع عالمه، والناس المارة مجرد ظلال عابرة لا تعنيه. لكنه، ورغم صغر سنه، كان يحمل في عينيه بريقًا مختلفًا، بريقًا لم تطفئه قسوة الأيام.
وفي أحد الأيام، حين كان يتسكع بالقرب من سوق شعبي، وقفت أمامه "سعاد"، امرأة أربعينية بوجه هادئ وعينين تحملان حزنًا عميقًا.
لم تكن تعرفه، لكنه أثار فيها شعورًا لا تفسير له. كانت هي وزوجها "محمود" بلا أطفال، وقد ملأ هذا الفراغ قلبها بشوق لحب لم يُمنح فرصة للوجود.
قالت له بلطف: "تعالَ معي، لن تجد مكانًا لك في هذا البرد".
قادته إلى منزلها المتواضع، حيث استقبله محمود بحب أبوي دافئ. منذ تلك اللحظة، تغيرت حياة يحيى. عاش بينهما كابنهما الوحيد، لم يشعر يومًا أنه دخيل.
علَّماه القيم والأخلاق، وغرسا في قلبه الإيمان بأن العالم يمكن أن يصبح مكانًا أفضل بالمحبة.
كبر يحيى، وبدأ يظهر تفوقًا في دراسته. كان ينظر إلى كتبه كما لو أنها نوافذ تطل على حياة جديدة. درس بجد، متجاوزًا كل الصعوبات التي واجهته، حتى التحق بكلية الطب، متفوقًا عامًا بعد عام، ليصبح في النهاية طبيبًا ناجحًا.
لم يكن نجاحه مجرد تتويج لجهده الشخصي، بل كان بمنزلة رد جميل لسعاد ومحمود. ومع ذلك، لم تطل الحياة بهما كثيرًا.
رحل محمود أولًا، تاركًا فراغًا كبيرًا في حياته. شعر يحيى أن عليه أن يخلد ذكرى هذا الرجل الذي منحه الأمان والحب، فقرر تأسيس "دار محمود"، وهي دار لرعاية المسنين، تهدف إلى احتضان كل من تخلى عنه الزمن.
بعد سنوات، رحلت سعاد هي الأخرى. كان رحيلها موجعًا، لكنه كان يدرك أنها تركت له إرثًا معنويًا عظيمًا، إرثًا من الحب والتضحية.
لم يكتفِ يحيى بالحزن، بل عمل على تأسيس "دار سعاد"، دارًا للأيتام، لتكون ملاذًا للأطفال الذين مروا بما مر به يومًا.
لم تكن تلك المؤسسات مجرد مشروعات خيرية، بل كانت انعكاسًا لحب عميق حمله يحيى لسعاد ومحمود. حرص على تقديم الصدقات بانتظام على روحيهما، وخصص لكل نجاح يحققه أو خطوة يخطوها ذكرى تربطه بهما.
في كل زيارة كان يقوم بها إلى دار المسنين أو دار الأيتام، كان يشعر أن روحيهما حاضرتان.
في ضحكات الأطفال ودموع المسنين، كان يرى انعكاسًا لحب سعاد ومحمود، وللحياة التي منحاه إياها.
ظل يحيى يحمل اسميهما في قلبه، وكان يؤمن أنهما لم يرحلا حقًا. فقد عاشا بأعماله، وفي القلوب التي أنارتها عطاءاته. وهكذا، ظل ضوء حبهما ينير حياته، على الرغم من كل العتمة التي عرفها يومًا.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.