منشأ النوم على الأرض
مما لا شك فيه أن الحياة على الأرض تتوقف تماماً على طاقة الشمس، ودون هذه الطاقة ما كانت الحياة أبداً، تبدأ بصور الحياة البسيطة التي تستطيع استخلاص الطاقة مباشرةً من الشمس، وتحويلها لصور أخرى يتم تداولها بين الكائنات الأكثر تطوراً، وتعتمد على النبات كمصدر للطاقة.
الأرض ذاتها تستقبل ضوء الشمس، وتستخدمه في إزهار الحياة على سطحها، وهي لا تتوقف عن السعي والحركة، وهذه الحركة حول نفسها خلقت النهار والظلام؛ أي خلقت الصحوة والنوم، فعندما يستقبل سطح الأرض الشمس تكون الأرض في حالة يقظة، وعندما تدور الأرض حول نفسها نصف دورة يبتعد هذا السطح عن مواجهة الشمس، ويصبح في حالة إظلام أو حالة نوم، وهكذا تتواتر حركة الأرض يومياً بين اليقظة والنوم، ولأن الإنسان ابن البيئة فقد تجاوب مع هذه الحركة منذ آلاف السنين، وقسم نشاطه إلى قسمين: أحدهما في النهار وفيه يصل لأعلى نشاطه، والثاني في الليل، وفيها يصل مرحلة السكون والتوقف عن النشاط الظاهر، وعبر الأجيال توارث الجسم نفس النظام المتواتر بين اليقظة والحركة من جهة والنوم والسكون من جهة أخرى.
وقد أكدت الخبرة الإنسانية أن التوازن بين فترات النوم واليقظة ضروري للصحة العضوية والنفسية للإنسان، وكسر هذا التوازن في أي اتجاه يؤثر سلباً على حياة الإنسان المادية والمعنوية.
ماذا يعني النوم؟
هل النوم هو صورة مصغرة من الموت على أساس أن كليهما هو توقف عن النشاط، بالقطع لا، النوم ليس أقرب للموت، بل هو أقرب للحياة، فالنوم لا يعني توقف النشاط، ولكنه يعني تغير نوعية النشاط على عكس الموت الذي يعني انتهاء أنشطة الكائن الحي المعروفة، النوم يعني فقط أن الجهاز العصبي غير نشط نسبيًا، والعضلات في حالة استرخاء، والعيون مغمضة محجبة عن تلقي الرسائل الضوئية، وبذا يكون كامل الوعي معلقاً، فلا سمعَ ولا رؤية ولا شم ولا إحساس؛ أي لا يتعامل الجسم مع المؤثرات الخارجية، ولكن هذا لا يعني توقف نشاط الجسم فلا زال القلب ينبض بالدم، ولا زالت الرئة تضخ الأوكسيجين للجسم، ولا زال الجسم جميعه في حالة عمل داخلي بعيداً عن الفعل أو الإزعاج المباشر للمؤثرات الخارجية.
النبات، هل ينام ويستيقظ؟
لأن النبات ليس له جهاز عصبي فهو لا ينام ويستيقظ بالمفهوم الإنساني الذي يتعلق بالوعي، ولكنه ينام ويستيقظ بمفهوم تبادل فترات، وطبيعة النشاط في الليل والنهار، وتختلف طبيعة نشاط النبات بين اليقظة والنوم، ففي يقظة النبات أثناء النهار يقوم النبات باستقبال الطاقة الضوئية، وكذا يستخلص الكربون المؤكسد من الجو أو ثاني أوكسيد الكربون من الجو، والماء من التربة، ويعمل جاهداً على تحويلها إلى مركبات كيميائية تكون مخزناً لهذه الطاقة، وهي السكريات وخاصة سكر الجلوكوز، كما تعيد إطلاق الأوكسجين في صورته الحرة.
كل النباتات تقوم بهذا العمل العظيم أثناء النهار، ولكنها لا تتوقف عن العمل أثناء الليل، هي فقط تتوقف عن عملية بناء السكريات، بل إن النباتات إذا استمر تعرضها للضوء أكثر من 17 ساعة في اليوم تبدأ عليها علامات التدهور.
في أثناء فترة النوم يقوم النبات بإعادة استهلاك جزء من السكر الذي أنتجه كي يقوم بأنشطة ممارسة لحياته، ويقوم أيضاً بتحويل السكر إلى جميع المكونات الأخرى التي يحتاجها عاجلاً أو آجلاً، فيقوم ببناء البروتينات، والدهون، والفيتامينات، وجميع المركبات الأخرى التي تحافظ على حياته واستمراريتها، إذن، فالنبات يقوم بعملية تنفس عادية طوال الليل أي إنه يتوقف عن إنتاج الأوكسجين بالليل، وينتج أيضاً ثاني أوكسيد الكربون مثل باقي الكائنات، نعم يمكننا مرافقة النبات بالنهار؛ لأنه بالنسبة لنا يعمل كمضخة لإنتاج الأوكسجين، ولكنه في الليل يتنافس معنا على هذا الأوكسجين فلا يجب النوم معه في حجرة مغلقة تجنبا لخطر الاختناق.
نوم الحيوانات
تنام جميع الحيوانات لفترات متفاوتة يومياً، وبعضها ينام موسمياً، وبعضها يكاد ظاهرياً لا ينام أبداً طبقاً، ولكنها جميعاً تحتاج للراحة، فالأغنام تنام خمس ساعات في اليوم، والزرافات أربع إلى خمس ساعات في اليوم، والخيول أربع ساعات في اليوم، والأفيال من ثلاث إلى أربع ساعات في اليوم، والغزلان ثلاث ساعات في اليوم، والطيور المهاجرة ساعة واحدة في اليوم، ويُعتقد أن الدلافين والضفادع الأمريكية لا تنام أبداً؛ لأنها لا تغلق عيونها، لكن في الحقيقة وجد أن للدلافين القدرة على وضع نصف أدمغتها فقط للنوم في المرة الواحدة مما يجعل الدماغ نصف نائم، وعندما قاس العلماء موجات دماغ الدلافين لاحظوا أن الأنماط تشبه الأدمغة التي كانت نائمة على الأقل في نصف الدماغ.
ضرورة النوم للإنسان
النوم هو أحد العوامل التي تساعد على بقاء الحياة مثل الطعام والماء، فدون نوم لا يمكن للعقل أن يحافظ على روتين عملياته الأساسية التي تتيح له الإدراك والتعلم وتخزين المعلومات في صورة ذكريات التعلم، مما قد يؤثر على قدرته على الاستجابة للمؤثرات الخارجية بالسرعة المعتادة أو التركيز وحسن اتخاذ القرار بناء على المعطيات المحيطة، فالتعب قد يضع المخ في صورة مشوشة مشتعلة وقد يتحول ذلك إلى صداع وأرق مما يبطل أبسط وظائف العقل وهو الإدراك الأولي للمؤثرات.
فالنوم مهم لعدد من وظائف الدماغ، بما في ذلك كيفية تواصل الخلايا العصبية مع بعضها البعض، بما يتيح استمرار عمل المخ حتى أثناء النوم، وتشير الأبحاث الحديثة أن النوم يساعد على إزالة المكونات الضارة التي تتراكم في المخ أثناء اليقظة، ولا شك أن ذلك يحتاج لمزيد من البحث، ولا شك أن للنوم أيضاً تأثيراً داعماً لأنواع الخلايا الأخرى في الجسم مثل خلايا القلب والرئتين من خلال إتاحة الظروف البيولوجية المناسبة للأيض الغذائي الذي يمد هذه الأعضاء بالمواد الخام اللازمة لإعادة بناء أنسجتها ودعم وظائفها ومقاومة الأمراض، فقد أظهرت الأبحاث أن قلة النوم المزمنة يمكن أن تؤدي لمزيد مخاطر الإصابات الصحية مثل ارتفاع ضغط الدم، وأمراض القلب والأوعية الدموية، ومرض السكر، والاكتئاب، والسمنة. وقد أظهرت بعض الدراسات أن الحرمان من النوم قد يدفع الناس للتجول بلا وعي في حالة من التعب الشديد مما يجبرهم على الاستسلام للنوم حتى أثناء القيادة وهو أمر حقاً خطير.
النوم إذن هو عملية ديناميكية معقدة تؤثر على أداء الجسم البشري بشكل أساسي وحاسم، ولا يمكن تجاهلها، ولكن يجب وضعها في إطار الفهم الصحيح والتعامل السليم.
والنوم هو أمر حيوي للصحة والمزاج والأداء المعرفي وإتقان العمل والحياة الاجتماعية نظرًا لأهمية النوم، ومن أهم العوامل التي تحدد المساهمة في النوم هو الحالة المزاجية، وهي عامل معقد يتكون من عناصر متداخلة بعضها وليد التربية والتعليم، وبعضها وليد اللحظة مثل: الإحساس بالتعب الشديد أو الإحساس بالرضا عن إنجازات اليوم، أما الإحساس بالتعب فهو يدفع لنوم لا إرادي، لكن الإحساس بالإنجاز يدفع لنوع من النوم الإرادي الممتزج بالشعور بالرضا.
ما الذي يحدد لحظة ومدة النوم؟
بالنسبة للأشخاص المهمومين والمفكرين فإن ما يحدد هذه اللحظة هو الحالة المزاجية إضافة للتعب، فإذا كان الشخص العادي ينام ثماني ساعات على الأقل فالعلماء والمفكرون ينامون ست ساعات على الأكثر، (فنيوتن وتشرشل وأديسون) كانوا ينامون بين ساعتين وأربع ساعات يومياً.
بالنسبة للشخص العادي فإن العادة أو التعب هو المتحكم الأول في تحديد ميعاد الذهاب إلى السرير والسباحة في عالم النوم، أما المفكرون وأصحاب العمل الفكري مثل الكتَّاب والباحثين والعلماء فإن الحالة المزاجية هي المتحكم الأول، وهذه الحالة هي أداة استشعار آلية تهيئ الإنسان لحالة النوم الصحية، والتي لا يتوقف فيها العقل عن العمل، بل تتغير الآلية، فالعقل يتحول للعمل في صورة غير واعية وحالة ما بين الحلم واليقظة، وكثير من العلماء قاموا بحل مسائل ومعضلات علمية أثناء النوم ويتذكرونها حال الاستيقاظ لذا بالنسبة للمفكر يجب أن تتسم الحالة المزاجية بالإحساس والإنجاز والنفاذ خلال الموضوعات ذات الأهمية، هذا بالإضافة إلى حالة من التعب الإيجابي أي إجهاد العقل فيما هو مفيد وهادف وليس تشتيته فيما هو تافه، في هذه الحالة يمكن أن تكفي كمية قليلة من النوم كي تعيد ترتيب العقل لأنه كان أصلاً في حالة شبه مرتبة قبل النوم، هذا بالإضافة إلى أن العقل الذي تعود التفكير يكون غالباً في صورة بنائية ووظيفية سليمة لذا قد لا يحتاج إلى أعمال الصيانة التي يقوم بها العقل العادي كي يصلح أخطاء العمليات الفكرية في عقل الشخص العادي.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.