صناعة التفاهة الرقمية واستهلاكها.. أموال تُجنى وأخرى تُنفق

تتيح مواقع التواصل الاجتماعي لروادها فسحة للترفيه والهروب من شقاء الأيام وبلاء الأسقام؛ إنها تبرز كأنها مخدر يرسل الفرد إلى عالم آخر يشعره بالراحة.

غير أن الغلو في الترفيه أدخلنا في متاهة التفاهة المبالغ فيها كثيرًا، وسهَّل للتافهين صناعة محتويات انحطت بالذوق العام إلى أسفل السافلين، حينها أصبحنا لا نفرق بين الهزل والجد، لا بل أصبحت التفاهة صناعة تدرُّ أموالًا طائلة على منتجيها، وتنافس المنتجات الاستهلاكية الضرورية المعروضة في الأسواق الرقمية.

اقرأ أيضًا: سيطرة التفاهة والتافهين على المجتمع

التفاهة والتافهون.. المعنى والدلالة

يشير معنى كلمة التفاهة في معاجم اللغة العربية إلى القِلَّة والخِسَّة والأمر الحقير اليسير الذي لا قيمة له. والتَّافه هو الرجل قليل العقل الذي لا قيمة لأعماله، ومن ذلك الرويبضة: التافه الذي ينطق في أمر العامة.

بروز ظاهرة التفاهة الرقمية عبر مواقع التواصل الاجتماعي سببه تصدر التافهين من رموز وشخصيات يغذونها باستخدام حساباتهم ذات الصيت العالي، يصلون إليهم عبر خوارزميات الذكاء الاصطناعي والإنترنت، والهدف هو إسباغ التفاهة على كل شيء، وتكمن خطورة ذلك في كون هذه المهمة سهلة وممكنة التحقق بسلاسة.

اقرأ أيضًا: تدهور الوسط الإلكتروني وسيطرة منظومة التفاهة

التفاهة تجارة لا تبور

يستخدم صناع المحتوى التافه مواقع التواصل الاجتماعي لعرض سلعتهم، فهي بمنزلة أسواق ربحية تنمِّي أرصدتهم المالية، وتجعلهم يحققون النجاح الباهر وفقًا لمعيار المال، وهو معيار ينشده كل إنسان.

إن تجارة التفاهة قائمة على مزيج تسويقي أساسه "البهرجة والابتذال والمبالغة في التفاصيل"؛ فكثير من منتجي التفاهة يسعون إلى تخليد سلعتهم بأي سلوك من السلوكيات: إما بفجاجته أو سطحيته أو قبحه، والأمثلة كثيرة.

يكفي الأمر أن يَظْهَر التافه الرقمي في ثياب بالية يرقص في غرفة نومه رقصة الشامبانزي مدة دقيقة أو أقل من ذلك بقليل، فترى أعداد المشاركات والمشاهدات والإعجابات تتزايد بلمح البصر؛ وتفاعلات برموز الفرح والغضب، وقلوب حمراء وأصابع زرقاء، هي في الحقيقة الغائبة عن إدراك ملايين المستخدمين أموال تضخ في أرصدة صناع التفاهة.

اقرأ أيضًا: الثراء وجمع الأموال من التفاهة.. هل هي سمة المجتمع؟

شركات تصنع التفاهة وتتاجر بها

لا تقتصر صناعة التفاهة الرقمية على الشخصيات والأفراد، بل إن شركات عالمية تهتم على نحو فاضح بإنتاج تفاهات. على سبيل المثال: تشجع "تيك توك" المستخدمين على إنتاج محتوى سريع وسهل الهضم، يركز في الغالب على الترفيه السطحي، الرقص والتنكيت. تساعد الخوارزميات تيك توك على إبراز المحتوى التافه الذي يجذب الجمهور بأعداد غفيرة عن طريق آليات "التحديات والميمات" التي تجذب ملايين المشاهدات والمشاركات، ما يُغرق المنصة بمحتوى غير مفيدٍ لكنه يحقق عائدات مالية معتبرة جدًا.

تناسب سياسة تيك توك خيار كثير من الشركات الاقتصادية الأخرى، عبر تمرير إعلاناتها بين التفاهة والتفاهة، وتعمل مع المؤثرين على الترويج لمبيعاتها باستخدام مقاطع فيديو تفتقر إلى العمق والجدية، لكنها تصل إلى جمهور واسع، وعلى هذا تحقق مبيعات مباشرة. ليست تيك توك وحدها، بل نجد شركات الأزياء، ومستحضرات التجميل، وشركات المنتجات الاستهلاكية، والألعاب الإلكترونية، وشركات الأفلام والمسلسلات.

اقرأ أيضًا: صناعة التفاهة.. مشاهير السوشيال ميديا ومرض الشهرة وربح المال

مستهلكون مُسرفون جدًّا

يبذل ملايين من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي أموالًا كثيرة لمتابعة مقاطع فيديو تافهة، وكثير منهم يدفع مقابل اشتراكات دورية. على سبيل المثال يتهافت ملايين من رواد تيك توك في الجزائر على مشاهدة فيديوهات فتى يدعى "رِيفْكا" يلعب بالوَحْل.

وآخرون يتنافسون فيما بينهم لإظهار أكبر قدر ممكن من الإعجابات للتحديات التي يقوم بها "بوجمعة الدَّهزاوي" كل ليلة في تيك توك، يتسامر مع فتيات أصابهن الأرق. أو مباريات "شوشَعْ" الذي يصيب الكرة إلا مرة واحدة خلال خمسين محاولة بطريقة طريفة، ينبري إليها الآلاف من مناصريه الرقميين إعجابًا ومشاركة. أغلب الظن أن كل هؤلاء وآخرون ينفقون أموالًا كثيرة لتعبئة شرائح هواتفهم الذكية بالإنترنت لمشاهدة آخر ترهات ريفكا وبوجمعة وشوشع... 

في الولايات المتحدة الأمريكية مثلًا، قضى الأمريكيون خلال سنة 2022، في المتوسط 34 ساعة في مشاهدة "برامج الواقع" -هي برامج ترفيهية- محققة إيرادات قدرت بـ 12,6 مليار دولار. أما في العالم فقد قضى أشخاص ما متوسطه 28 ساعة في مشاهدة ذات البرامج، أي بإيرادات قدرت بـ 30 مليار دولار. وفي العالم العربي يقضي الفرد في المتوسط ساعتين يوميًا في مشاهدة المحتوى التافه على الإنترنت.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة