المتابع للأعمال الثقافية والفنية هذه الأيام سيجد نفسه في حيرة من أمره، لا سيما إذا كان ناقدًا فنيًا أو متخصصًا في الثقافة والأدب، فقد انقلبت موازين الفن والثقافة والأدب رأسًا على عقب، ولم تعد توجد مقاييس أو قواعد للعمل الفني والثقافي.
سيجد هذا الناقد أو المشاهد العادي أعمالًا فنية ومسلسلات وأفلامًا وكتبًا ولوحاتٍ وشعرًا ونثرًا وأغنيات دون المستوى لا تمت بصلة للعمل الفني والإبداعي، لكنه في الوقت نفسه سيجدها منتشرة وتحقق نجاحًا جماهيريًا، ويكرم أصحابها، ويحصلون على جوائز، فيتعجب ويصبح في حيرة من أمره، وعندما يحاول أن يبدي رأيه في هذه الأعمال وينتقدها، ويحاول بحيادية تامة أن يفند أخطاءها يفاجأ بهجوم واسع على كلامه دون مناقشته، وسُيرد عليه بالكلمة المعهودة: إن الجمهور هو الحكم، وقد حققت هذه الأعمال مشاهدات بلغ عددها ملايين، والكل أبدى إعجابه بهذه الأعمال، فلا يستطيع أن يتكلم، وإن تكلم فإن صوته لن يصل إلا إلى قلة قليلة من الناس، ولن يكون له أي تأثير أمام الآلة الضخمة التي تروج إلى هذه الأعمال.
و(هنا مربط الفرس)، (هنا مربط الفرس)، فالأعمال الفنية والثقافية الآن تديرها شركات تجارية كبرى لا يهمها الأدب والثقافة بقدر ما يهمها المكسب السهل السريع، وهي لذلك السبب تنفذ عملية تسويق وترويج لهذه الأعمال، وتنفق مئات الآلاف على هذه العملية لضمان نجاح هذه الأعمال جماهيريًا لا فنيًا، فالمهم المشاهد والمشاهدات والانتشار، ومن أجل هذا فهي تشتري المشاهدات، وتشتري الإعجاب، وتشتري المشاركة لهذه الأعمال، بل تشتري التعليقات التي تشيد بهذه الأعمال أيضًا.
حدثني أحد المتخصصين في الميديا الرقمية عبر مواقع التواصل الاجتماعي أنه لكي تبث عملًا فنيًا أو ثقافيًا أو محتوًى من أي نوع، وتريد أن يصل إلى الناس، ويحقق مشاهدات عالية فإن كل عدد من المشاهدات له سعر، فإذا أردت أن يصل عملك إلى مليون مشاهد بين إعجاب ومشاركة عليك أن تدفع نحو المئة ألف جنيه للشركة المتخصصة في الترويج، فلهذه الشركات قاعدة ضخمة من الحسابات عبر مواقع التواصل والمنصات، وهو ما يعرف اليوم باسم اللجان الإلكترونية بأسماء مستعارة أو افتراضية، تؤدي مهمة المشاهدات والتعليقات والإعجاب، وتضمن لعملك الانتشار والنجاح، بل إن هذه الشركات أصبحت توظف بعض النقاد والصحفيين والشخصيات العامة للإشادة بأعمالها والدفاع عنها، لقد أصبح الأمر أشبه بفرض الأمر الواقع على الجمهور الذي أصبح في حيرة من أمره، ولم يعد له رأي في الحقيقة بعد أن صودر رأيه.
هذا النجاح في الحقيقة نجاح مزيف، مثل من يشتري شهادة الدكتوراه أو الماجستير بالمال، ويحصل على لقب دكتور، لكنه في الحقيقة ليس دكتورًا، ولم يعمل أي بحوث، وليس لديه أي علم في تخصص الشهادة التي يحملها، ويتفاخر بها، وقد يحصل هذا الدكتور بهذه الشهادة المزورة على منصب كبير، ويتصدر مسؤولية كبيرة في المجتمع بدلًا من الدكتور الحقيقي الذي درس، وتعلم، وعمل البحوث، وتوصل إلى نتائج تفيد المجال الذي يعمل فيه، فيخسر المجتمع الكفاءة الحقيقية، ويخسر بسبب عدم كفاءة هذا الدكتور المزيف، ويتحمل أخطاء هذا الدكتور المزيف، وما يسببه من أضرار للمجتمع، وبالمثل فإن الأعمال الفنية والثقافية التي تشتري شهادات النجاح بالمال تحجب الإبداع الحقيقي، وتضر بالمجتمع بسبب الاستسهال والسطحية وشراء الجمهور المؤيد بالمال، وعدم إعطاء مساحة للنقد والتقييم وعدم اتباع القواعد والأسس التي يبنى عليها العمل الفني والثقافي.
أحسنت حضرتك 👏👏👏
شكرا جزيلا لحضرتك 🍀🍀🍀🍀🍀
أحسنت حضرتك 👏👏👏
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.