(القدر هو ما تقدِّره لنفسك في أعمالك وأقوالك وأفكارك وأمنياتك وشهواتك في هذه الحياة وفي حيوات سابقة).
هذه الكلمات كانت آخر ما قاله الأديب والروائي والفيلسوف اللبناني الكبير ميخائيل نعيمة من شذرات أدبية كان يمليها على ابنة شقيقه في أيامه الأخيرة، ذلك المبدع الكبير الذي كان إحدى علامات الثقافة العربية في القرن الـ20 وأحد أبرز أدباء المهجر الذي كتب بالإنجليزية والروسية بجانب الكتابة بالعربية، وترك تراثًا هائلًا من الأدب والفلسفة والروحانيات، وعاش حياته دون أن يتزوج ليطلق عليه لقب "ناسك الشخروب".
وفي هذا المقال نصحبك في جولة سريعة في عالم ميخائيل نعيمة لنتعرف على أهم محطات حياته الشخصية والإبداعية في جولة لن تخلو أبدًا من المعرفة والدهشة في السطور التالية.
اقرأ أيضًا: شعراء المهجر.. إيليا أبو ماضي شاعر الجمال والفلسفة
المولد والنشأة
وُلد ميخائيل نعيمة في قرية بسكنتا في جبل صنين في لبنان في أكتوبر عام 1889، ووجد صعوبة كبيرة في إنهاء دراسته الابتدائية قبل أن يواصل تعليمه في المدرسة الروسية الأرثوذكسية في مدينة الناصرة، هناك في فلسطين، وهي المدة التي شهدت اجتهادًا كبيرًا من ميخائيل نعيمة لإكمال دراسته والابتعاد عن العلاقات العاطفية التي تسببت في كثير من المشكلات للطلاب الآخرين.
انتقل ميخائيل نعيمة بعد ذلك إلى مدينة بولتافا الروسية لإكمال تعليمه، حيث عاش هناك مدة خمس سنوات منذ عام 1906 حتى عام 1911، لينتقل بعدها إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليلتحق بجامعة واشنطن ويحصل على شهادتين إحداهما في الحقوق والأخرى في الآداب.
حياة ميخائيل نعيمة
تكونت شخصية ميخائيل نعيمة في المدة التي قضاها في روسيا، فاستطاع إتقان اللغة الروسية ما أتاح له فرصة التعمق في الأدب الروسي، إضافة إلى تفوقه الدراسي وتدوين مذكراته باللغة الروسية، والتعرُّف على ثقافة تلك المنطقة التي مال إليها كثيرًا، حتى إنه عاش قصة حب هناك في روسيا مع امرأة متزوجة قبل أن تنتهي العلاقة بالفشل.
ومن المعروف عن ميخائيل نعيمة أنه عاش دون زواج وأُطلق عليه لقب "ناسك الشخروب"، لكن الأديب الكبير كانت له مغامرات متفرقة مع نساء متزوجات في روسيا وفي أمريكا وفي لبنان، مع أنّه كان دائمًا ما يرفض فكرة الزواج والارتباط والإنجاب ويتحدث عن الحياة الروحية.
كانت أمريكا هي المحطة الأكبر والأهم في حياة ميخائيل نعيمة، حيث تعلم اللغة الإنجليزية ودرس الأدب والحقوق وكتب المقالات، وعاصر اندلاع الحرب العالمية الأولى، حيث كان يعمل في السفارة الروسية، وهي الوظيفة التي منحته الفرصة للإنفاق على أهله في تلك الظروف الصعبة.
كان ميخائيل نعيمة قد ارتبط بجمعيات صوفية وروحية وأصبح معلمًا ماسونيًا مدة، لكنه بدأ يغادر هذه الجماعات؛ نظرًا لعدم انسجامه معها، إذ كان دائمًا يفكر بعمق كبير ويرى في الآخرين سطحية شديدة، وهو ما كان يدفعه دائمًا إلى التأمل والسكوت.
عاد نعيمة مرة أخرى إلى لبنان عام 1932 بعد أن عاش نحو 20 عامًا في أمريكا، وقوبل بحفاوة كبيرة ولم يمتهن أي مهنة أخرى في لبنان سوى الأدب والكتابة، إضافة إلى اتجاهه إلى الخلوة والتفكير والتأمل، وهي المدة التي شهدت عددًا من أعماله الأدبية المهمة، ولم يغادر الرجل لبنان منذ عودته إليها إلا في أوقات ومناسبات قليلة جدًّا من أجل المشاركة في فعالية أو مؤتمر أو من أجل إلقاء محاضرة.
وعلى الرغم من إقامة عدد من حفلات التكريم لميخائيل نعيمة خارج وداخل لبنان ومنحه الدكتوراه الفخرية من جامعة واشنطن، إضافة إلى جائزة جواد بولس التي حصل عليها قبل وفاته، فإنه قد اتجه إلى الاعتزال والابتعاد عن الصخب والتفرغ للكتابة والبحث عن إجابات للعدد من الأسئلة الوجودية التي كانت تشغله طوال عمره حتى وفاته.
اقرأ أيضًا: شعراء المهجر.. والثورة على الكلاسيكية الشعرية
أدب ميخائيل نعيمة
لم يكن ميخائيل نعيمة مجرد شاعر أو قاص أو ناقد، وإنما كان كيانًا هائلًا يجمع كل هؤلاء في إطار من الفلسفة والرؤى المادية والروحية والطاقة الكبيرة التي ظهرت في شعره وقصصه ومسرحياته وكتبه ومقالاته باللغات العربية والإنجليزية والروسية، وهو ما جعله يحتل مكانة خاصة في الثقافة العربية في القرن الـ20.
كذلك كان ميخائيل نعيمة أحد رواد مدرسة المهجر فرع "الرابطة القلمية" التي أنشأها صديقه جبران خليل جبران عام 1920 في الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت تضم معه عبد المسيح حداد ونسيب عريضة وإيليا أبو ماضي، وهي الرابطة التي كانت تهتم بنشر الأعمال المهمة للمبدعين والكتاب أصحاب المواهب الكبيرة، بالإضافة إلى ترجمة المؤلفات ومنح الجوائز.
كان ميخائيل نعيمة يعتمد على اللغة السهلة والبسيطة ويستخدم المفردات المتداولة، إذ كان وضوح العبارة والابتعاد عن كل ما هو مبهم ومستغلق هو طريقه من أجل الاهتمام بالفكرة وطرح الفلسفة والاعتماد على الحوار كأسلوب رئيس بتقديم الحجج المنطقية.
كذلك كان الشائع عند ميخائيل نعيمة هو استخدام التكرار لتعميق المعنى، مع الحرص الشديد على الابتعاد عن التكلف والاهتمام بالنزعة الإنسانية والقومية، ولم يكن الأمر يخلو أحيانًا من استعمال الرمز أو الإغراق العاطفي.
كان ميخائيل نعيمة يتمتع بمرونة كبيرة في نصوصه القصصية والنثرية والشعرية، فكان ينتقل من الكتابة بالقافية والشعر العمودي إلى الشعر الحر والشعر النثري، وعلى الرغم من هذا التنوع فيمكننا أن نضع ميخائيل نعيمة في قائمة الكتاب الرومانسيين الذين اتجهوا إلى العاطفة والخيال والوجدان أكثر مما شغلهم التقليد والجمود العقلي.
يمكنك عند قراءة أدب ميخائيل نعيمة أن تتلمس مشكلات الطبقات الدنيا والكادحين والمهمشين والعمال والغرباء، إضافة إلى دعوته أن يكون الأديب رسولًا يحمل الهموم ويصارع من أجل رفع شأن المجتمع، وهي نزعة فلسفية اكتسبها عن طريق التحامه بالأدب الروسي والثقافة الروسية، وازدادت عمقًا لديه؛ بسبب الأهوال التي رآها في الحرب العالمية والظروف الصعبة التي مر بها وأسرته.
ومع ذلك، فإن أدب ميخائيل نعيمة يجنح دائمًا إلى الأمل والبشرى والتفاؤل والجمال والحب، إضافة إلى ابتعاده تمامًا عن أي تعصب ديني أو مذهبي نظرًا لما عاش ورآه بنفسه من مشكلات في لبنان بين المسيحيين والدروز وبين المسلمين.
كانت تجربة ميخائيل نعيمة في كتابة "سبعون" من أهم التجارب العربية في كتابة السيرة الذاتية على الإطلاق التي أصبحت بعد ذلك علامة كبيرة في هذا الاتجاه، إضافة إلى اجتهاده الكبير في مجال النقد ووضعه عددًا من الرؤى والأصول النقدية التي تجلت في كتابه "الغربال" الذي يُعدُّ أيضًا أحد الكتب المهمة في الثقافة العربية في القرن الـ20.
اقرأ أيضًا: جبران خليل جبران وكتابه "النبي"
أعمال ميخائيل نعيمة
بدأ الأديب الكبير ميخائيل نعيمة طريقه الإبداعي من كتابة المقالات، وأتبعه بالشعر والقصة والمسرحية والمقالات النقدية والسيرة الذاتية والأعمال النثرية، حتى أُطلِق عليه لقب "الأديب الموسوعي"، كما حصل على جائزة رئيس الجمهورية اللبنانية في التميز الأدبي عام 1961، ولعلَّ أشهر أعماله المنشورة ما يلي:
همس الجنون مجموعة شعرية عام 1945
- لقاء رواية عام 1948
- كتاب مرداد رواية عام 1948
- مذكرات الأرقش رواية عام 1949
- اليوم الأخير رواية عام 1963
- يا بني آدم رواية عام 1969
- الغربال كتاب نقدي عام 1923
- جبران خليل جبران عام 1934
- زاد المعاد مجموعة مقالات عام 1936
- البيادر مجموعة مقالات عام 1945
- الأوثان مجموعة مقالات عام 1946
- كرم على درب مجموعة شذرات وحكم عام 1946
- صوت العالم مجموعة مقالات عام 1948
- النور والديجور مجموعة مقالات عام 1950
- في مهب الريح مجموعة مقالات عام 1953
- دروب مجموعة مقالات عام 1954
- أبعد من موسكو ومن واشنطن مجموعة مقالات عام 1957
- سبعون حكاية عمر سيرة ذاتية في ثلاثة أجزاء عام 1960
- في الغربال الجديد مقالات نقدية عام 1971
- نجوى الغروب عام 1973
- أحاديث مع الصحافة عام 1973
- من وحي المسيح عام 1974
مقتبسات ميخائيل نعيمة
- (نحن السجل الكامل لكل ما ينطبع على صفحة حياتنا من مؤثرات ونحن نصدر ما في السجل لكننا قلما نذكر ونفهم ما نصه وإن ذكرنا وفهمنا فاليسير اليسير) من كتاب سبعون.
- (ليس الذوق في أن تلبس ثيابا في منتهى الجودة من حيث قماشها وتفصيلها وانسجام ألوانها بل الذوق أن تكون كل دقيقة من حياتك في غاية الجودة من حيث ما تعمل فيها وما تفكر ومن حيث انسجامها مع من حولك من الناس والأشياء والأحداث ) من كتاب دروب.
- (همج هم الذين يتباغضون ويتناحرون باسم الدين فهؤلاء وإن وسع قولهم جميع ما في كتب الفلسفة والدين وقلوبهم فراغ من الله الذي هو الجمال المطلق والمحبة المتناهية والعدل الذي لا يوصف والنظام الذي لا يدرك) من كتاب دروب.
- (إن مهنة الناقد هي الغربلة لكنها ليست غربلة الناس بل غربلة ما يدونه قسم من الناس من أفكار وشعور وميول وما يدونه الناس من الأفكار والشعور والميول هو ما تعودنا أن ندعوه أدبًا، فمهنة الناقد إذن هي غربلة الآثار الأدبية لا غربلة أصحابها) من كتاب الغربال.
- (من سيئات الحرب أنها تجلس البطولة الزائفة على عرش البطولة الحقة فتدعو الذي يقهر أخاه الإنسان بطلًا وتبالغ في تمجيده وتكريمه الذي قهر نفسه بحسن معاملة أخيه الإنسان تدعوه جبانًا) من كتاب مذكرات الأرقش.
وفاة ميخائيل نعيمة
كان الأديب والفيلسوف والمفكر اللبناني الكبير ميخائيل نعيمة قد انعزل عن العالم وتفرغ للكتابة والتفكير في عدد من الأسئلة الفلسفية والوجودية التي شغلته طوال عمره حتى وافته المنية يوم 29 فبراير عام 1988 عن عمر ناهز 99 عامًا، ليرحل أحد رموز الثقافة العربية وأحد قادة النهضة الفكرية في القرن الـ20، ويترك خلفه إرثًا كبيرًا من الأدب والفلسفة والجمال.
وفي نهاية هذه الجولة السريعة في عالم الأديب اللبناني الكبير ميخائيل نعيمة، نرجو أن نكون قدمنا لك المتعة والإضافة، ويُسعدنا كثيرًا أن تُشاركنا رأيك في التعليقات، ومشاركة المقال على مواقع التواصل لتعم الفائدة على الجميع.
احسنتم
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.