ربما كان الفيلسوف والشاعر والرسام اللبناني الكبير جبران خليل جبران هو أكثر الأسماء استثنائية بين كُتَّاب ومثقفي القرن الـ20 في مشهد الثقافة العربية؛ فهذا الأديب الذي عاش حياة قصيرة ومات عن عمر ناهز 48 عامًا، ترك أثرًا كبيرًا ليس فقط في العقول والقلوب، وإنما في أكبر المتاحف والمكتبات في أنحاء العالم، إذ كان جبران خليل جبران هو أكثر الشعراء مبيعًا على الإطلاق بعد الكاتب الإنجليزي ويليام شكسبير والشاعر الصيني لاو تزه.
وفي هذا المقال نصحبك في جولة سريعة في حياة جبران خليل جبران لنتعرف على أهم محطاته الشخصية والإبداعية مع وعد بكثير من المتعة والجمال والمعرفة في السطور التالية.
اقرأ أيضًا: شعراء المهجر.. والثورة على الكلاسيكية الشعرية
المولد والنشأة
وُلد جبران خليل ميخائيل سعد في قرية بشرى، إحدى قرى جبل لبنان، يوم 6 يناير عام 1883. وكان والده الذي يعمل راعيًا للماشية، كثير الديون مدمنًا على الكحول ولعب القمار، وهو ما جعل حياة الأسرة أكثر من صعبة، لا سيما بعد إلقاء القبض على رب الأسرة التي تشردت بين منازل الأقارب، في حين كانت أمه امرأة متزنة وقوية، لكنها لم تستطع أن تمنحه التعليم المنتظم سوى لتعلُّم اللغة العربية، إضافة إلى تعاليم الكتاب المقدس من كاهن القرية.
حاولت الأم تعويض ابنها جبران عن قسوة والده ومزاجيته الصعبة، فكانت دائمًا تحكي له القصص والحكايات، سواء من التراث الشعبي اللبناني أو من الإنجيل، كما حاولت الأم إصلاح حياة ابنها الصغير عن طريق السفر والهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما حدث فعلًا عام 1895 ليبدأ جبران خليل جبران مرحلة جديدة من حياته حيث يذهب إلى المدرسة ويتعلم الإنجليزية والرسم مع ظهور موهبته في الكتابة.
يُذكَر أن جبران خليل جبران قد عاد إلى بيروت وهو في سن الخامسة عشرة ليدرس في إحدى المدارس الإعدادية، ومنها إلى معهد التعليم العالي، وهو ما منحه كثيرًا من الزخم الإنساني والمعرفي، وتعرَّف في هذه المدة على أصدقاء جدد مثل الشاعر بشارة الخوري، لكن مشكلاته المتعددة مع والده دفعته للابتعاد والإقامة لدى أحد أقربائه قبل أن يعود إلى أمريكا مرة أخرى عام 1902
اقرأ أيضًا: محمد أحمد الظاهر شاعر الطفولة.
حياة جبران خليل جبران
مع أنَّ الأديب اللبناني الكبير جبران خليل جبران عاش حياة قصيرة إلى حد ما، لكنها كانت مملوءة بالأحداث والتفاعل والنشاط الكبير. فقد سافر جبران إلى فرنسا عام 1908 لدراسة الرسم وعاش هناك مدة عامين، ثم عاد إلى أمريكا لدراسة الأدب والفلسفة والتاريخ.
أصدر جبران عام 1900 مجلة المنارة في لبنان مع صديقه يوسف الحويك، وتعرف على كثير من المفكرين والمثقفين في لبنان وفرنسا وأمريكا. وتعددت مواهبه، فكان رسامًا موهوبًا، وكان فيلسوفًا وشاعرًا وقاصًّا وناقدًا.
استطاع جبران أن يؤسس الرابطة القلمية التي جمعت شعراء المهجر في أمريكا الشمالية عام 1920، وضمت عددًا من الأسماء الكبيرة في مشهد الكتابة العربية في ذلك الوقت، مثل ميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي ورشيد أيوب، وانضم إليهم بعد ذلك الشاعر المصري الكبير ومؤسس مدرسة أبولو أحمد زكي أبو شادي.
كانت العلاقات العاطفية لجبران خليل جبران جزءًا مهمًّا من تركيبته، ومثلت محطات عدة في حياته الإبداعية والشخصية، إذ كانت له علاقات منذ كان عمره 15 عامًا حينما أحب امرأة متزوجة، ثم تعلق بفتاة في لبنان، وتبعتها أرملة تكبره بأعوام عدة، ثم كانت له علاقة أخرى في فرنسا، وعلاقة في أمريكا.
لكن أشهر علاقاته وأغربها كانت علاقته بالكاتبة الشهيرة مي زيادة التي أحبها عن طريق المراسلة، وأصبحا مرتبطين بدرجة كبيرة عن طريق الرسائل، وهو ما أمسى مادة لكثير من الحكايات والكتب، وربما الدراسات التي ألقت الضوء على هذه العلاقة بين اثنين من الأدباء الكبار لم يلتقيا أبدًا وجهًا لوجه، وانتهت علاقتهما بوفاة جبران خليل جبران.
اقرأ أيضًا: في ذكرى رحيل عبد الكريم غلاب.. الثائر والفيلسوف وعميد الأدب المغربي
أدب جبران خليل جبران
كان الشاعر اللبناني الكبير جزءًا من النهضة الثقافية العربية التي شهدتها البلاد في بدايات القرن الـ20، لا سيما في الشعر النثري، إذ كان جبران متعدد الأساليب ويميل إلى النزعة الرومانسية التي كانت تمثل الجديد في الاتجاه إلى الوجدان والمتخيل والابتعاد عن الشكل الكلاسيكي والعقلاني في الشعر.
كذلك كان جبران يجنح إلى الرمزية ويستخدم الإيحاءات، إضافة إلى قدرته على استخدام الخيال والأسطورة والنزعة الإنسانية، وصناعة مزيج مدهش للتعبير عما يدور في النفس البشرية، وبذلك كانت تجربة جبران خليل جبران مؤثرة في الأجيال التالية من الشعراء وربما كُتَّاب القصة أيضًا.
ما يُحسَب أيضًا لجبران خليل جبران هو سعيه للثورة على النسق الشعري القديم عن طريق تغيير أطوال الأشطر داخل القصيدة وتقطيع السطر الشعري بطرق جديدة، كما كان أحد رواد المفارقة مع استخدامه للغة الحياة اليومية وابتعاده عن اللغة الجزلة والفخمة لتتسق اللغة مع الحالة الرومانسية والنفسية التي ينسجها في نصوصه الشعرية.
شهدت تجربة جبران خليل جبران أيضًا عددًا من المقالات الفلسفية التي كُتبت بالإنجليزية، إضافة إلى ترجمة أشعاره العربية إلى لغات عدة. ويُذكَر أن كتابه النبي قد تُرجم إلى أكثر من 100 لغة وتجاوزت مبيعاته أي شاعر أو كاتب عربي على الإطلاق، وعُرِف جبران بكونه ثالث أكثر الكُتَّاب مبيعًا على مستوى العالم بعد الكاتب الإنجليزي ويليام شكسبير والشاعر الصيني لاو تزه.
جبران الفنان التشكيلي
يُذكَر جبران خليل جبران أيضًا بكونه أحد الفنانين التشكيليين الكبار وأصحاب المواهب المدهشة، فقد تعلَّم في فرنسا ودرس عددًا من المدارس الفنية التشكيلية، وزار عدة معارض، وأنتج عددًا من الرسوم واللوحات، ورسم عددًا من أغلفة الكتب الشهيرة.
كان أول معرض لجبران خليل جبران في مارس 1898 في مدينة بوسطن، وتبعه عدد من المعارض بعد ذلك حتى تعرض لصدمة كبيرة عندما احترقت لوحاته الـ40 التي شارك بها في معرض فني عام 1904، لكنه عاد في العام التالي ونظم معرضًا آخر نال إعجاب الفنانين والنقاد.
أعمال جبران خليل جبران
يُذكَر أن جبران خليل جبران قد ترك إرثًا كبيرًا، وتميزت تجربته بالغزارة في الشعر باللغة العربية والكتب باللغة الإنجليزية، والمسرحيات والقصائد التي لم تُجمَع في ديوان واحد، إضافة إلى الرسوم واللوحات الفنية التي يوجد منها كثير من الأعمال في متحف جبران خليل جبران، مع عدد من المخطوطات الأصلية لكتاباته ورسومه هناك في قرية بشرى مسقط رأسه في لبنان.
في مجال الشعر:
- عرائس المروج عام 1906
- الأرواح المتمردة عام 1908
- الأجنحة المتكسرة عام 1912
- العواصف عام 1920
- من أشهر كتبه باللغة الإنجليزية
- النبي عام 1923
- المجنون عام 1918
- آلهة الأرض عام 1931
- حديقة النبي عام 1933
- يسوع ابن الإنسان عام 1928
- رمل وزبد عام 1916
في مجال المسرح:
- العازر وحبيبته صدرت بالإنجليزية عام 1973
- الأعمى صدرت بالإنجليزية عام 1981
- الرجل غير المنظور عام 1993
- بين الليل و الصباح عام 1993
- الوجوه الملونة عام 1993
- بدء الثورة عام 1993
- ملك البلاد وراعي الغنى عام 1993
في مجالات أخرى:
- دمعة وابتسامة رواية عام 1914
- ديوان جبران خليل جبران زعيم شعراء المهجر عام 2009
- الشعلة الزرقاء رسائل حب إلى مي زيادة عام 2004
أقوال مأثورة لجبران خليل جبران
- (ليست حقيقة الإنسان ما يظهره لك بل حقيقته هي ما لا يستطيع أن يظهره فلا تصغي إلى ما يقول بل إلى ما لا يقول)
- (المحبة لا تعطي إلا نفسها ولا تأخذ إلا من نفسها المحبة لا تملك شيئا ولا تريد من يملكها أحد لأن المحبة مكتفية بالمحبة)
- (الحق يحتاج إلى رجلين رجل ينطق به ورجل يفهمه)
- (في الزواج ولدتما معا و تظلان معا ولكن فليكن بين وجودكم معا فسحات تفصل بينكم حتى ترقص أرياح السماوات بينكم أحبا بعضكم بعضا ولكن لا تقيدوا المحبة بالقيود لتكن المحبة بحرا متموجا بين شواطئ نفوسكم)
مقتطفات من أشعار جبران خليل جبران
من قصيدة فوق الكلام العمل:
فوق الكلام العمل به نجاح الأمل
أيهما مفلح من قال أم من فعل
قبل الشروع اتئد ذاك أوان المهل
في الخير في السير عن روية لا عجل
وبعد أقدم بلا تردد أو خجل
فإن تصمم ولم تحجم فأنت البطل
من قصيدة يا سيف ما ألقى نجادك:
يا سيف ما ألقى نجادك وأطال في التراب اغتمادك
يا حصن أي مفاجئ بشديد صدمته أمادك
يا نجم قد أسهدت قوما كان أمنهم سهادك
أتبين عنا يا علي وكلنا يبكي بعادك
فإذا أفادك شغل نفسك بالعلا ماذا أفادك
لكن دعا داعي الحمى فأجبت متخذا عتادك
وببذل جهدك في الذي يرضيه سرت كما أرادك
حررت للعلم الحجى وبذلت في الأدب اجتهاده
من قصيدة أعطني الناي وغني:
أعطني الناي وغني وانسى ما قلت وقلت
إنما النطق هباء فأفادني ما فعلت
هل اتخذت الغاب مثلي منزلا دون القصور
فتتبعت السواقي وتسلقت الصخور
هل تحممت بعطر وتنشفت بنور
وشربت الفجر خمرا في كؤوس من أثير
هل جلست العصر مثلي بين جفنات العنب
والعناقيد تدلت كثريات الذهب
فهي للصادي عيون ولمن جاع الطعام
وهي شهد وهي عطر وهي لمن شاء المدام
هل فرشت العشب ليلا وتلحفت الفضاء
زاهدا فيما سيأتي ناسيا ما قد مضى
وسكوت الليل بحر موجه في مسمعك
وبصدر الليل قلب خافق في مضجعك
أعطني الناي وغني وانسى داء ودواء
إنما الناس سطور كتبت لكن بماء
ليت شعري أي نفع في اجتماع وزحام
وجدال وضجيج واحتجاج وخصام
كلها أنفاق خلد وخيوط العنكبوت
فالذي يحيا بعجز فهو في بطء يموت
وفاة جبران خليل جبران
بعد رحلة قصيرة مع الحياة توفي الشاعر الفيلسوف والرسام والناقد اللبناني الكبير جبران خليل جبران في مدينة نيويورك الأمريكية يوم 10 إبريل عام 1931 عن عمر ناهز 48 عامًا، بعد معاناته من مرض السل وتليف الكبد وحياة عاشها فقيرًا في بدايتها، لكنه تحول بعد ذلك إلى الثراء والشهرة الكبيرة.
توفي جبران خليل جبران وكانت أمنيته أن يدفن في لبنان، وهو ما تحقق عندما نُقِلت رفاته بعد موته بعام ليُدفَن في مسقط رأسه في قرية بشرى بجبل لبنان، وهو المكان الذي عرف بعد ذلك بمتحف جبران خليل جبران.
يُذكَر أن جبران قد كتب وصية لتنقش على قبره يقول فيها (أنا حي مثلك وأنا واقف الآن إلى جانبك فأغمض عينيك والتفت تراني أمامك).
وفي نهاية هذه الجولة السريعة في حياة الأديب الاستثنائي وأحد علامات النهضة العربية وزعيم أدباء المهجر جبران خليل جبران، نرجو أن نكون قدمنا لك المتعة بالإضافة، ويُسعدنا كثيرًا أن تُشاركنا رأيك في التعليقات ومشاركة المقال على مواقع التواصل لتعم الفائدة على الجميع.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.