شعراء المهجر.. إيليا أبو ماضي شاعر الجمال والفلسفة

من وسط الظروف الصعبة ومن قلب المحن والعقبات تفتحت زهور الموهبة الكبيرة والقدرة الفائقة على صناعة الجمال وصياغة الصور المدهشة لدى الشاعر اللبناني الكبير إيليا أبو ماضي الذي عانى الفقر فترك الدراسة دون أن يكمل تعليمه، ثم هاجر إلى مصر بحثًا عن الرزق وتحقيق الذات قبل أن يتعرض لمزيد من المضايقات من السلطات، ليهاجر مرة أخرى إلى الولايات المتحدة ويصبح أحد كُتَّاب المهجر وأحد صُنَّاع النهضة الشعرية والثقافية العربية في النصف الأول من القرن الـ20

.

وفي هذا المقال نصحبك في جولة سريعة في عالم شاعر الخمائل والفيلسوف اللبناني إيليا أبو ماضي؛ لنتعرف على أهم محطاته الشخصية والإبداعية في جولة لن تخلو من الدهشة والمعرفة والجمال في السطور التالية.

 

اقرأ أيضًا: شعراء المهجر.. والثورة على الكلاسيكية الشعرية

المولد والنشأة

وُلد إيليا عام 1898 في قرية المحيدثة، إحدى قرى شمال لبنان، في ظروف أسرية واجتماعية صعبة، إذ كان له خمسة إخوة، في حين كان والده رجلًا بسيطًا يمارس الزراعة أحيانًا وتربية دودة القز أحيانًا أخرى، ولم يكن الأب يملك القدرة على إعالة الأسرة كاملة، وهو ما جعل معظمهم يفتقر إلى التعليم والرعاية المناسبة، وبذلك لم يستطع إيليا أبو ماضي إكمال تعليمه فترك المدرسة وهو في العاشرة من عمره.

نظرًا للظروف الصعبة التي تمر بها الأسرة، فقد هاجر إيليا أبو ماضي عام 1900 إلى مصر وبالتحديد إلى مدينة الإسكندرية ليعمل مع عمه في تجارة السجائر طلبًا للرزق، وهو ما منحه الفرصة للقراءة وتعلُّم أصول اللغة العربية، حتى إنه قد انضم إلى كُتَّاب مسائي لتعويض ما فاته من تعليم واطلاع، ثم بدأت تتفتح موهبته الشعرية في كتابة القصائد والمقالات.

 

اقرأ أيضًا: جبران خليل جبران وكتابه "النبي"

حياة إيليا أبو ماضي

كان الفتى الصغير إيليا أبو ماضي صاحب عزيمة كبيرة ورغبة في بناء نفسه على الرغم من ظروفه الصعبة، فكان عصاميًّا معتزًا بذاته إضافة إلى ميوله الأدبية والشعرية التي وجدت حراكًا ثقافيًّا هائلًا في أثناء وجوده في مصر، فسمحت له الظروف بقراءة الكتب ومطالعة الصحف والمجلات والمشاركة أحيانًا في بعض الفعاليات الأدبية ورؤية الشعراء والمثقفين والنقاد؛ لذا فإن هجرته إلى مصر كانت محطة هائلة في حياته على مستوى بناء شخصيته أديبًا وفيلسوفًا، إضافة إلى الكثير من الخبرات الحياتية التي اكتسبها في ذلك الوقت؛ نتيجة عمله كاتبًا ومحررًا في صحيفة الزهور ما بين عامي 1904 و1911.

وبعد نحو 12 عامًا قضاها إيليا أبو ماضي في مصر ونتيجة لكثير من الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية أيضًا، كان عليه أن يسافر أو يهاجر مرة أخرى، وهذه المرة كانت قبلته الولايات المتحدة الأمريكية التي سافر إليها عام 1912 بعد كثير من المضايقات الأمنية في مصر، إضافة إلى رغبته الكبيرة في تحقيق ذاته وبناء مستقبل أفضل؛ لينضم الشاعر إيليا أبو ماضي لعدد من الشعراء والكُتَّاب والمثقفين العرب الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة في هذه الحقبة، ويصبح بعد ذلك جزءًا من حركة أدبية كبيرة سُمّيت (أدب المهجر)، وشاركت في نهضة عربية على مستوى الثقافة عامة والشعر خاصة.

في بداية حياته هناك في الولايات المتحدة، أقام إيليا أبو ماضي مع أخيه الأكبر مراد وعمل معه في التجارة حتى عام 1916 الذي قرر فيه إيليا أبو ماضي أن ينتقل إلى مدينة نيويورك، وهي المدة التي بدأ يتفرغ فيها للكتابة والأدب والعمل الصحفي والنقدي، فعمل هناك رئيس تحرير صحيفة "المجلة العربية"، ثم عمل في تحرير مجلة "مرآة الغرب" سنوات عدة، ثم كان الحدث الأكبر بتأسيسه للرابطة القلمية مع مجموعة من أدباء عرب يقيمون في أمريكا، على رأسهم جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة.

يُذكَر أيضًا أن إيليا أبو ماضي قد عاد إلى لبنان عام 1948 في زيارة، وكان الأديب الكبير الذي هاجر من بلاده طفلًا صغيرًا فقيرًا يبحث عن ذاته، وعاد إليها بعد نحو 48 عامًا كاتبًا تحتفي به الحكومة اللبنانية وتكرّمه الجمعيات، وتحرص الشخصيات الكبيرة على استقباله، فقد مُنِح وسام الأرز ووسام الاستحقاق، كما منحته الحكومة السورية وسام الاستحقاق الممتاز بعد ذلك بعام واحد.

 

اقرأ أيضًا: فلسفة الحب عند مي زيادة

أدب إيليا أبو ماضي

ربما كان أكثر ما يُميِّز شعر إيليا أبو ماضي تلك النزعة الفلسفية والتأملية التي ربما كونتها الغربة والبعد عن الوطن في شخصية الشاعر اللبناني الكبير، فكان الرجل دائمًا يكتب عما هو إنساني وما هو عادل، وبذلك كان شعر إيليا أبو ماضي قادرًا على تجاوز الزمان والمكان ليتفاعل مع الإنسان والقضايا الإنسانية.

كذلك كان التجديد في شعر إيليا أبو ماضي يقوم على الأسلوب غير المباشر واستخدام الطبيعة كأداة من أجل تشخيص الأفكار والمعاني، فقد كان المعنى والفكرة يمثلان عمق النص الشعري عند إيليا أبو ماضي. أضف إلى ذلك استخدام الرمز نظرًا لتأثره بعدد من القراءات الغربية، وهو ما جعله لا يلتزم أبدًا بنظام القصيدة العمودية السائد في ذلك الوقت.

كان إيليا أبو ماضي متفائلًا يحب الجمال والطبيعة، ويتخذ الحوار كوسيلة حميمية من أجل نقل أفكاره التي تغلب عليها الفلسفة والخيال التي تقل فيها المحسنات البديعية إلى حد ما، كما كان نصه يتميز بالوحدة العضوية حسب النمط والمضمون يمتزجان في بناء شعري سهل ومدهش في الوقت نفسه.

وكانت المدة التي قضاها إيليا أبو ماضي في مصر فرصة لتنمية موهبته بعد اكتشافها، إذ استطاع أن ينشر عددًا من قصائده في مجلات مصرية ولبنانية، حتى إنه نشر ديوانه الأول عام 1911 وهو لا يزال في الواحدة والعشرين من عمره بعنوان "تذكار الماضي"، وهو الديوان الذي ملأته المشاعر والأحاسيس والقصائد السياسية والغزلية، وظهرت به النزعة الوجدانية لدى إيليا أبو ماضي، إضافة إلى ميله الكبير إلى الخيال والطبيعة.

أما في الولايات المتحدة الأمريكية، فكان التطور الكبير للشاعر إيليا أبو ماضي من احتكاكه بالثقافة الغربية بجانب عدد من الأدباء العرب الذين كونوا مدرسة أدب المهجر، والذين استطاعوا -ومن بينهم إيليا أبو ماضي- تغيير وجه الشعرية العربية في النصف الأول من القرن الـ20. واستفاد إيليا أبو ماضي من وجوده بينهم، وعلى رأسهم جبران خليل جبران وأمين الريحاني وميخائيل نعيمة وغيرهم، كما أسَّس معهم الرابطة القلمية وأنشأ بدوره "مجلة السمير" التي كانت تُعنَى بنشر القصائد والمقالات وتعالج الموضوعات الأدبية والاجتماعية.

أعمال إيليا أبو ماضي

مرَّت موهبة إيليا أبو ماضي بعدد من المحطات، وبذلك كانت كتاباته ودواوينه في حد ذاتها محطات أدبية وشعرية من الشباب حتى مراحل النضج والفلسفة، وكان أهم أعماله ما يلي:

ديوان تذكار الماضي - عام 1911

كتب إيليا أبو ماضي هذا الديوان في الإسكندرية وأهداه إلى المصريين، وعبَّر فيه عن حبه وتعلقه بمصر وقضاياها وشعبها، وظهرت به عدد من القصائد التي تتحدث عن الظلم العثماني للبلاد.

ديوان إيليا أبو ماضي - عام 1918

جاء الديوان الثاني لإيليا أبو ماضي يحمل كثيرًا من الفلسفة والحب والقضايا الاجتماعية في إطار من الحلم والرومانسية، ووصف الطبيعة والثورة، وقد صدر هذا الديوان في مدينة نيويورك حيث كان يقيم إيليا أبو ماضي في ذلك الوقت.

ديوان الجداول - عام 1927

شهد هذا الديوان تطورًا كبيرًا في موهبة ورؤية الشاعر اللبناني الكبير إيليا أبو ماضي، وقدَّم الأديب اللبناني ميخائيل نعيمة الديوان الذي تناول عددًا من القصائد الإنسانية ذات التوازن الكبير والإيقاع الموسيقي العالي على مستوى البناء والمضمون، وقد صدر هذا الديوان أيضًا في نيويورك ولاقى نجاحًا كبيرًا في أمريكا.

ديوان الخمائل - عام 1940

يُعدُّ هذا الديوان أكثر دواوين إيليا أبو ماضي شهرة وانتشارًا في أمريكا وفي العالم العربي، وتمت إعادة طبعه أكثر من مرة في نيويورك، ثم ترجم إلى لغات عدة، وأعيدت طباعته مرات عدة في الدول العربية. اشتهرت كثير من قصائده وحفظها القُرَّاء في شتى أرجاء الوطن العربي، كما جرى تدريس بعض هذه القصائد في مناهج اللغة العربية في كثير من المدارس.

ديوان تبر وتراب - عام 1960

يُعدُّ آخر دواوين الشاعر اللبناني الكبير إيليا أبو ماضي، وتميَّز بعدد من القصائد الفلسفية والذاتية، لكنه لم يلقَ النجاح الذي حققه ديوانه السابق "الخمائل".

إيليا أبو ماضي في عيون النقاد

على الرغم من الاحتفاء الكبير الذي يحظى به الشاعر اللبناني إيليا أبو ماضي لدى الأدباء والقُرَّاء في كامل الوطن العربي، فإن بعض النُقَّاد أيضًا قد وجهوا له سهام النقد؛ ففي عام 1956، نشر الناقد والباحث الأردني روكس العزيزي مقالة يتهم فيها إيليا أبو ماضي بسرقة قصيدة بعنوان (الطين)، وأشار الباحث الأردني إلى أنها مستلهمة من قصيدة أخرى لشاعر أردني، ووصف إيليا أبو ماضي بأنه "لص ظريف" استطاع أن يترجم معاني القصيدة إلى اللغة الفصحى وينسبها إلى نفسه، وهو ما أثار غضب الشاعر اللبناني الكبير إيليا أبو ماضي، ورد عليه واصفًا إياه بأنه "كذاب عمان".

كذلك، فقد كان الدكتور طه حسين يمارس هوايته المفضلة في نقد الجميع، ومنهم الشاعر اللبناني الكبير إيليا أبو ماضي الذي وصفه طه حسين بأنه يعجز عن توصيف الأفكار، إضافة إلى أنه ركيك وضعيف على مستوى اللغة.

وعلى مستوى الكتابة عن إيليا أبو ماضي، فقد كان هناك عدد من المؤلفات والكتب حول تجربته وأشعاره، ومنها على سبيل المثال: كتاب عبد المجيد الحر (إيليا أبو ماضي باعث الأمل)، وكتاب سالم المعوش (إيليا أبو ماضي بين الشرق والغرب)، وكتاب محمود سلطان (إيليا أبو ماضي بين الرومانسية والواقعية).

مقتطفات من أشعار إيليا أبو ماضي

ألا أيها الباكي فديتك باكيا     علاما وفيما تستحث المآقيا

رويدك ما أرضى لك الحزن خلة    وهيهات أن أرضاك بالحزن راضيا

يعنفني من كنت أدعوه صاحبا    فما انفك حتى بت أدعوه لأحيا

دعوت لربي أن دعاني لائم    ولم أعصه  أن لا يجيب دعائيا

لقد أرخص العذال عندي قولهم    إذا همت العينان أرخصت غاليا

 

أيها الشاكي وما بك داء     كيف تغدو إذا غدوت عليلا

إن شر الجناة في الأرض نفس    تتوقى قبل الرحيل الرحيلا

وترى الشوك في الورود وتعمى    أن ترى فوقها الندى إكليلا

هو عبء على الحياة ثقيل     من يظن الحياة عبئا ثقيلا

والذي نفسه بغير جمال    لا يرى في الوجود شيئا جميلا

ليس أشقى ممن  يرى العيش مرا   ويظن اللذات فيه فضولا

أحكم الناس في الحياة أناس   عللوها فأحسنوا التعليلا

فتمتع بالصبح ما دمت فيه     لا تخف أن يزول حتى يزولا

 

ولقد علقت من الحسان مليحة   تحكي الهلال بحاجب وجبين

كلفت بها نفسي ودون وصولها   وصل المنون وثم ليث عرين

حسناء أضحى كل حسن دونها ولذاك  عشاق المحاسن دوني

قد روعت حتى لتخشى بردها  من أن يبوح بسرها المكنون

وتري بها أنفاسها ويخيفها   عند اللقاء تنهد المحزون

هجرت فكل دقيقة من هجرها   عندي تعد بأشهر وسنين

وفاة إيليا أبو ماضي

توفي الشاعر والفيلسوف اللبناني الكبير إيليا أبو ماضي يوم 23 نوفمبر عام 1957؛ نتيجة إصابته بسكتة قلبية، ليرحل شاعر الجمال والخمائل بعد أن ترك إرثًا كبيرًا من الأدب والكفاح وشارك في صناعة نهضة ثقافية وأدبية، ومهَّد طريقًا يمشي به كثير المثقفين والأدباء والكُتَّاب

وفي نهاية جولتنا في عالم إيليا أبو ماضي، نرجو أن نكون قدمنا لك المتعة والإضافة، ويُسعدنا كثيرًا أن تُشاركنا رأيك في التعليقات، ومُشاركة المقال على مواقع التواصل الاجتماعي لتعم الفائدة على الجميع.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة