شعراء المدرسة الكلاسيكية.. محمد مهدي الجواهري شاعر العرب الأكبر

هكذا سُمِي الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري؛ نظرًا لقيمته الهائلة على مستوى التجربة الإبداعية، والمواقف السياسية والعلاقات التي امتدت إلى الملوك والأمراء ورؤساء الدول العربية والأجنبية، فكان محمد مهدي الجواهري أحد أبرز علامات الثقافة العربية في القرن الـ20، وأحد أبرز شعراء المدرسة الكلاسيكية العربية.

وفي هذا المقال نصحبك في جولة سريعة في عالم محمد مهدي الجواهري بين أهم محطات حياته الشخصية والإبداعية، وعلاقاته بالشخصيات الكبرى بين الاحتفاء والتكريم والسجن والنفي في تجربة امتدت نحو قرن من الزمان.

المولد والنشأة

ولد محمد مهدي الجواهري يوم 26 يوليو عام 1899 في مدينة النجف العراقية لعائلة مثقفة ومتدينة، إذ كان أبوه أحد علماء المدينة، وهو ما جعله يحرص على أن يكون ابنه امتدادًا له في مجال الدعوة والعمل الديني، إضافة إلى عدد من الأدباء والمثقفين في العائلة التي كان لها مجلسًا أدبيًّا وعلميًّا مشهورًا في مدينة النجف، وهو ما ساعد محمد الجواهري على تعلم أصول اللغة العربية وعلوم الدين، فضلًا على اطلاعه على الأدب العربي والتاريخ الإسلامي في سن صغيرة.

كان والده يحرص على أن يرتدي الفتى محمد مهدي ملابس العلماء، فكان يظهر بالعمامة والعباءة وهو في العاشرة من عمره، كما درس على أيدي عدد من العلماء والأساتذة الكبار في مدينة النجف، والذين توقعوا له مستقبلًا كبيرًا؛ لما ظهر عليه من قدرة على الحفظ وقوة في التعبير وثقة كبيرة بالنفس.

حياة محمد مهدي الجواهري

تنقل محمد مهدي الجواهري في حياته الطويلة بين العراق وسوريا ولبنان والمغرب العربي، إضافة إلى محطة أوروبية مهمة وهي التشيك، حيث أقام في عاصمتها براغ سنوات طويلة، وكان هذا التنقل والترحال؛ بسبب مواقفه الاجتماعية والسياسية من الأحداث والقادة في العراق.

عمل محمد مهدي الجواهري في التدريس في بداية حياته، ثم اتجه إلى الصحافة، فأصدر عددًا من الصحف، مثل: صحيفة (الرأي العام) و (الانقلاب) وصحيفة (الفرات)، كما بدأ نشاطه الأدبي مبكرًا، إذ نشر ديوانه الأول عام 1923، وكان أحد المثقفين الكبار الذين ينادون بثورة في الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في العراق في بدايات القرن الـ20، وهو ما أدى إلى عدد من الصدامات مع رجال الدين وأصحاب الرأي ورجال السياسة كذلك على فترات متفرقة.

كذلك كان من أهم محطات حياة الجواهري عمله في القصر الملكي بعد تعيين (فيصل الأول) ملكًا على العراق، وهو ما أغضب منه عددًا من مثقفي وأدباء العراق الذين أعدوا ذلك خيانة، لكن الأمر لم يستمر طويلًا، فقد اختلف محمد مهدي الجواهري مع الملك فيصل الأول، وقدم استقالته، وهو ما أدى إلى التضييق عليه من قبل الحكومة العراقية، ودفعه إلى الانتقال إلى خارج العراق مدة من الزمن.

وكذلك كان موقف الجواهري من الانقلاب العسكري سببًا في دخوله إلى السجن، وإغلاق صحيفته التي أسماها (الانقلاب)، لكنه خرج بعد سقوط الحكومة، ما سمح له بالعودة إلى إعادة فتح الصحيفة، ولكنه غيَّر اسمها إلى (صحيفة الرأي العام)، لكنها أيضًا كانت سببًا للصدام مع الحكومات العراقية المتتابعة، ما أدى في النهاية إلى إغلاق الصحيفة وسفر محمد مهدي الجواهري إلى إيران قبل أن يعود إلى العراق مرة أخرى، إذ أصبح الجواهري عضوًا مؤسسًا للحزب الوطني عام 1946 قبل أن يستقيل في العام نفسه؛ نتيجة خلافات حادة مع أعضاء الحزب، وهو ما يوضح لك كم المعارك والصدامات في حياة الأديب والسياسي والثائر محمد مهدي الجواهري.

يُذكَر أن الأديب العراقي الكبير قد انتخب في مجلس النواب العراقي، لكنه قدم استقالته بعد أقل من عام؛ اعتراضًا على معاهدة (بورتسموث) بسبب مقتل أخيه جعفر في المظاهرات، فقد أعدَّ المعاهدة صلحًا على دم أخيه، ما دفعه إلى كتابة قصيدة يرثي فيها القتيل، ولكنه لم يتوقف عند ذلك، فكان كثير النشاط والمشاركة في الفعاليات داخل وخارج العراق، فشارك في مؤتمر أنصار السلام عام 1949 في بولندا، واختير عضوًا في مجلس السلم العالمي عام 1950.

وشهدت مرحلة الخمسينيات أحداثًا متتالية في حياة الجواهري، فقد طلب اللجوء إلى سوريا بعد صدامات بينه وبين الحكومة العراقية في عام 1956، وبعدها بعامين وبعد تحول العراق إلى جمهورية، عاد الجواهري ليصبح أول نقيب للصحفيين في الجمهورية، وأصبح مقربًا من الزعيم (عبد الكريم قاسم)، وأُطلِق عليه شاعر الجمهورية، لكنه وكالمعتاد بدأ يصطدم مرة أخرى مع النظام السياسي في أواخر الخمسينيات، فقد اضطر إلى السفر إلى أوروبا، وطلب اللجوء السياسي إلى دولة التشيك.

لم تخلُ أي مرحلة من حياة محمد مهدي الجواهري من الأحداث العنيفة، فتارة يحصد الألقاب وينال المناصب، ويصبح مقربًا من السلطات والحكومات، وتارة أخرى تنزع عنه الجنسية ويُنفَى أو يُسجَن ويغادر البلاد ويطلب اللجوء السياسي، حتى يقال إنه قضى نحو 30 عامًا في دولة التشيك على فترات متقطعة.

أما القبعة التي كان يرتديها دائمًا وكانت علامته المميزة، فهي تعود إلى إحدى مشاركاته في مؤتمر أدبي في روسيا، حيث ارتدى القبعة وشعر معها براحة كبيرة، فقرر أن تلازمه طوال حياته، فعرفت القبعة بمحمد مهدي الجواهري، وعُرِف الأديب الكبير بقبعته التي ارتداها حتى آخر حياته، بعد أن كان في بدايته يرتدي قبعة العلماء هناك في مدينة النجف العراقية.

أدب محمد مهدي الجواهري

مع أنَّ تجربة محمد مهدي الجواهري الأدبية مملوءة بالثورة على الأوضاع السياسية والتقاليد وتتصف بالشجاعة الكبيرة في التعبير عن آرائه وإبداء مواقفه، لكنها لم تكن كذلك على المستوى الفني إذا فُرِّغَت تجربته من هذه المواقف الشخصية، إذ لم يتأثر الأديب الكبير بالمدارس الأدبية العالمية والتحولات الفنية التي طرأت على الأدب العربي في القرن الـ20.

يُعدُّ محمد الجواهري أحد أبرز كتاب المدرسة الكلاسيكية العربية التي حافظ شعراؤها على الشكل العمودي التقليدي في حين كتب بعضهم نص التفعيلة، وكذلك ظهرت جزالة في النسيج الشعري، والعناية بالألفاظ ووحدة الموضوع، لكنه لم يكن صاحب خيال كبير أو جنوح إلى مشروع فني ذي ملامح محددة، وإنما كان شعره وسيلة للتعبير عن آرائه ومواقفه السياسية والاجتماعية والدينية، ومع ذلك فإن عدد من الأدباء والكُتاب والمؤرخين يعدون تجربة الجواهري على رأس قائمة التجارب الأدبية العراقية والعربية في القرن الـ20، حتى إنه لُقِّب (بشاعر العرب الأكبر).

وعلى مستوى الأيديولوجيات فقد ظهرت الاشتراكية بوضوح في كتابات وأعمال الجواهري التي حملت مواقفه المختلفة، في حين كانت تظهر الميول الإسلامية في أوقات الثورة والغضب، ومع ذلك فلم يكن أبدًا الشاعر محمد مهدي الجواهري ماركسيًا على الرغم من صداقته بكثير من المثقفين والأدباء الذين تبنوا الفكر الماركسي في ذلك الوقت، غير أنهم اتفقوا على الثورة الاجتماعية وكان كل منهم يعبر عن ذلك بوسيلته فكانت أشعار الجواهري.

أعمال محمد مهدي الجواهري

تعدَّدت أعمال الأديب العراقي الكبير بين كتابة الشعر والترجمات والكتب الأدبية والمقالات النقدية، لكنه لم يكن يهتم كثيرًا بنشر وطباعة أعماله بالشكل الذي يليق بتجربته الطويلة، ولعل أهم مؤلفاته ما يلي:

  • حلبة الموت
  • بين العاطفة والشعور
  • ديوان الجواهري
  • بريد الغواية
  • بريد العودة
  • الجواهري في العيون من أشعاره
  • خلجات
  • ذكرياتي
  • الجمهرة
  • جناية الروس والإنجليز في إيران

مقتطفات من أشعار محمد مهدي الجواهري

من قصيدة حنين

أحن إلى شبح يلمح  بعيني أطيافه تمرح

أرى الشمس تشرق من وجهه    وبين أثوابه تجنح

رضي السمات كأن الضمير    على وجهه ألقا يطفح

كأن العبير بأردانه  على كل خاطرة ينفح

كأن بريق المنى والهنا  بعينيه عن كوكب يقدح

 كأن غديرا فويق الجبين     عن ثقة في غد ينضح

 كأن الغضون على وجنتيه   يكن بها نغم مفرح

من قصيدة الغضب الخلاق

سبحان من ألف الضدين في خلدي     فرط الشجاعة في فرط من الجبن

لا أتقي خزرات الذئب ترصدني   و أتقي نظرات الأدعج الشدن

خبت بي الريح  في إيماض بارقة    تلغي مسافة بين العين والأذن

لم أدرها  زمنا تطوي مراحله    أم أنها عثرات العمر بالزمن

 والله ما بعدت دار وإن بعدت    ما أقرب الشوط من أهلي ومن سكني

***

من قصيدة في ذمة الله

في ذمة الله ما ألقى وما أجد    أهذه صخرة أم هذه كبد

قد يقتل الحزن من أحبابه بعدوا عنه     فكيف بمن أحبابه فقدوا

تجري على رسلها الدنيا ويتبعها    رأي بتعليل مجراها ومعتقد

أعيا الفلاسفة الأحرار جهلهم  ماذا يجني لهم في دفتيه غد

ليت الحياة وليت الموت مرحمة     فلا الشباب ابن عشرين  ولا لبد

ولا الفتاة بريعان الصبا قصفت   ولا العجوز على الكتفين تعتمد

وليت أن النسور استنزفت نصف    أعمارهن ولم يخصص بها أحد

***

من قصيدة وداع

(أنيت) نزلنا بوادي السباع    بواد يذيب حديد الصراع

يعير فيه الجبان الشجاع  (أنيت)   لقد حان يوم الوداع

إلي إلي  حبيبي  (أنيت)   إلي إلي بجيد وليت

 كأن عروقهما النافرات   خطوط من الكلم الساحرات

إلي بذاك الجبين الصليت    تخافق عن جانبيه الشعر

 يبث إلي أريج الزهر     سيعبق في خاطري ما حييت

ويذكرني صبوتي لو نسيت 

***

من قصيدة فلسطين

دلالا في ميادين الجهاد  و تيها بالجراح و بالضماد

ورشفا بالثغور من المواضي  وأخذا بالعناق من الجهاد

وعبا من نمير الخلد يجري   لمنزفة  دماؤهم صوادي

وتوطينا على جمر المنايا    وإخلادا إلى حر الجلاد

وإقداما وإن سرت السواري    بما يشجي وإن غدت الغوادي

وبذلا للنفيس من الضحايا  فأنفس منهم شرف البلاد

وفاة محمد مهدي الجواهري

توفي الأديب والشاعر والثائر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري يوم 27 يوليو عام 1997 في سوريا، ودُفِن في مقابر الغرباء بعد رحلة امتدت نحو 98 سنة، وكتب على مقبرته بناء على وصيته لابنته: (يرقد هنا محمد مهدي الجواهري بعيدًا عن دجلة الخير)، ليرحل الكاتب الكبير تاركًا خلفه تجربة ثرية وعمرًا من المواجهة وكثيرًا من الجدل والشعر الذي سيبقى حيًّا في ذاكرة الثقافة والأدب العربي.

وفي نهاية هذه الرحلة القصيرة في عالم الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري، نرجو أن نكون قدمنا لك المتعة والإضافة، ويسعدنا كثيرًا أن تشاركنا رأيك في التعليقات، ومشاركة المقال على مواقع التواصل لتعم الفائدة على الجميع.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة