إذا الشعب يومًا أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر
بهذه الكلمات دخل الشاعر التونسي الكبير أبو القاسم الشابي إلى قلوب الناس في كل مكان في العالم العربي وخارجه، بهذا الصدق وهذه الحساسية والبساطة العبقرية استطاع أبو القاسم الشابي أن يضع اسمه بين أهم وأكبر شعراء العربية في العصر الحديث مع أنَّ تجربته الشعرية لم تتخطَ بضع سنوات، إذ توفي الشاب وهو لم يكمل الـ ٢٥ من عمره، وكأنه حلم جميل مر بسرعة وترك أثره طويلًا.
وفي هذا المقال نصحبك في جولة سريعة في عالم الشاعر التونسي الكبير أبو القاسم الشابي بين أهم محطات حياته الشخصية والإبداعية في سطور لن تخلو أبدًا من الدهشة والجمال والمعرفة.
اقرأ أيضًا: شعراء المدرسة الكلاسيكية.. حافظ إبراهيم شاعر النيل
المولد والنشأة
ولد أبو القاسم محمد الشابي يوم 24 فبراير عام 1909 في أحضان قرية الشابة بمحافظة توزر عاصمة الواحات الجنوبية في تونس الخضراء، وكان أبوه رجلًا متدينًا ومثقفًا، ويعمل قاضيًا شرعيًّا بعد تخرجه في الأزهر بمصر، وكان أبوه دائم الترحال بين المحافظات والمدن التونسية، وكان أبو القاسم الشابي مصاحبًا لوالده، وهو ما أثر كثيرًا على شخصيته التي كانت تميل إلى الأمكنة الطبيعية والجمال والزخم والمشاهد المليئة بالتفاصيل.
درس أبو القاسم الشابي في الكتاب وتعلم القرآن والقراءة والكتابة في مدينة قابس في جنوب تونس، وظهرت عليه علامات النبوغ في سن صغيرة، إذ استطاع حفظ القرآن وهو لم يكمل التاسعة من عمره، إضافة إلى علوم الدين والحديث والمعلومات التي كان يتلقاها على يد والده حتى التحق عام 1920 بالمدرسة الثانوية في جامع الزيتونة وكان عمره 12 عامًا.
كان الفتى الصغير أبو القاسم الشابي يذهب إلى المكتبات بجانب دراسته في جامعة الزيتونة، إذ كان متعلقًا بمكتبة الصادقية ومكتبة الخلدونية في العاصمة التونسية، وهو ما منحه الفرصة للتعرف على الآداب المختلفة، ولا سيما الشعر عن طريق الترجمات لكبار شعراء أوروبا والمدارس الأدبية والصراعات الثقافية في ذلك الوقت، حتى حصل على شهادته الثانوية عام 1927، ليلتحق بعدها بمدرسة الحقوق ويتخرج فيها عام 1930.
اقرأ أيضًا: شعراء المدرسة الكلاسيكية.. محمود سامي البارودي شاعر السيف والقلم
حياة أبو القاسم الشابي
هذه الحياة القصيرة التي عاشها أبو القاسم الشابي كان القاسم المشترك فيها منذ نعومة أظفاره حتى موته، هو ذلك المرض الغريب الذي أصابه وعانى منه طوال حياته، وانتقل بسببه من طبيب إلى آخر، ومن مكان إلى آخر؛ من أجل الاستشفاء والتحسن، فكان المرض هو ظله الذي لا يغادره أبدًا، إذ شُخِّص بأنه عيب خلقي في القلب يؤدي إلى ضعف تدفق الدم من الأذين الأيمن إلى الأذين الأيسر، مع ملاحظة الإمكانات الطبية الضعيفة في ذلك العصر التي لم يكن بها حلول كثيرة تُعين الفتى أو تمنحه الأمل ولو قليلًا.
كان أبو القاسم الشابي يرتكز على اللغة العربية في علومه وثقافاته، لكنه لم يكتفِ بذلك، وبدأ الاطلاع على الثقافات المختلفة مثل الأدب الأمريكي والأدب الأوروبي، بل وبدأ يدفع في ذلك الاتجاه، فكان يقدم المحاضرات ويكتب المقالات مناديًا بالتحرر الفني والتطور الأدبي والسعي لإنتاج نص جديد، وكان دائم الحضور في المنتديات والنوادي الأدبية بين كبار الشعراء والأدباء التونسيين.
حمل أبو القاسم الشابي شعلة التجديد، وطرح أفكاره الثورية في الأدب والاجتماع؛ ما أثار كثيرًا من رجال الثقافة والسياسة ضد أبو القاسم الشابي، حتى إن بعض المحافظين في تونس نادوا بمقاطعة أبو القاسم الشابي، وهو ما دفعه إلى مزيد من الكتابة وكأنها وسيلته للمقاومة، لكن حالته النفسية قد ازدادت سوءًا؛ بسبب مرضه من ناحية، ووفاة محبوبته من ناحية أخرى، ثم كانت وفاة والده أشد وطأة وتأثيرًا.
كانت حالة أبو القاسم الشابي الصحية تسوء يومًا بعد يوم، فإضافة إلى مرضه كان إهماله للنصائح الطبية عاملًا مساعدًا، كذلك زواجه الذي حذره منه الأطباء، كما كان مضطرًا دائمًا للسفر بين المدن التونسية نوعًا من أنواع العلاج، أضف على ذلك الأيام الطويلة التي كان يضطر أن يقضيها في المنزل تحت الرعاية والتمريض، وهو ما يتناقض مع طبيعة الشاب الشاعر الباحث عن الحرية والثائر على الأوضاع الجامدة.
اقرأ أيضًا: محمد أحمد الظاهر شاعر الطفولة
أدب أبو القاسم الشابي
يُعدُّ أبو القاسم الشابي أحد شعراء العربية الكبار، لكنه لم يحظَ بمكانته الكبيرة في حياته، وإنما بدأ الجميع يشعرون بقيمته الأدبية والفنية بعد موته، فاحتفوا به وكتبوا الدراسات عنه، وأقاموا المهرجانات والفعاليات الثقافية باسمه، وكلما مرت الأعوام زاد احتفاء العرب بشاعرهم الكبير أبو القاسم الشابي.
يمكن وضع أبو القاسم الشابي بين كتاب المدرسة الكلاسيكية العربية، ويمكن أيضًا الإشارة إليه بكونه أحد كتاب المدرسة الرومانسية، إذ تضمنت كتاباته ملامح الكتابة الكلاسيكية مثل وحدة النص وجزالة المفردات والموضوعات التي تشتمل على المفاخرة والنبيذ والتأبين والرثاء، وتضمنت أشعاره أيضًا موضوعات الظل والحلم، وهو ما يستدعي مشهد الرومانسية الأوروبية وشعرائها الكبار مثل رامبو، لكن الشاعر التونسي الكبير كان يميل إلى العقل أكثر من ميله إلى الخيال؛ لذا فإن معظم النُقاد العرب يضعون أبو القاسم الشابي في قائمة شعراء الإحياء والبعث التي تمثل الكلاسيكية العربية بشعرائها الكبار، مثل البارودي وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم ومعروف الرصافي وغيرهم.
من ناحية أخرى فقد تأثر أبو القاسم الشابي كثيرًا بشعراء المهجر، واستخدم كثيرًا من مفرداتهم التي كانوا يستخدمونها طبيعيًّا، بكونهم جزءًا من الثقافة المسيحية مثل إيليا أبو ما ضي، فكثيرًا ما تظهر مفردات مثل الهيكل والترانيم والأجراس والرهبان والقديس، وهو تأثير كبير ناتج عن إعجاب كبير لهؤلاء الشعراء من جانب أبو القاسم الشابي.
ظهرت أيضًا في كتابات أبو القاسم الشابي كثيرًا من أفكاره الثورية التي كانت تلتصق تمامًا بالسياق الاجتماعي في شمال إفريقيا في ذلك الوقت، حيث الحركات الوطنية والرغبة في الحرية والتحرر من الثقافة الأجنبية، وهو ما ظهر في محاضرات أبو القاسم الشابي قبل أن يظهر في أشعاره؛ لذا يمكن عدُّ أبو القاسم الشابي صوت تونس في الثلاثينيات، وهو ما منحه الزخم الكبير في أن يكون أحد أكثر شعراء تونس قراءة عبر التاريخ.
أعمال أبو القاسم الشابي
للأسف الشديد لم يستطع أبو القاسم الشابي أن ينشر أشعاره في ديوان واحد في حياته القصيرة مع أنه حاول كثيرًا جمع قصائده في ديوان، لكن مرضه كان عائقًا في بلوغه هذا الحلم مع أنه كتب أكثر من 150 قصيدة، إضافة إلى المقالات والبحوث والمحاضرات التي قام بها، ويعدُّ ديوانه الوحيد الذي جمعت فيه أعماله كاملة هو حصيلة نشاط كبير لشقيقه محمد الأمين الذي استطاع نشر الديوان عام 1955 في القاهرة وبعد موت صاحبه بأكثر من 20 عامًا تحت عنوان (أغاني الحياة).
أما في حياته، فقد نشر أبو القاسم الشابي عددًا من القصائد المتفرقة لا سيما في مجلة أبوللو التي كانت تمثل جماعة أبولو الأدبية، لكنها كانت تنشر لجميع المدارس الشعرية المختلفة، ومن أبرز قصائده ومقالاته التي نُشِرت ما يلي:
قصيدة يا حب عام 1924
قصيدة تونس الجميلة عام 1925
قصائد.. الحرب / شكوى/ اليتيم / أغنية الرعد عام 1926
قصائد.. الشعر / نهر الحب / من أمس إلى اليوم / تألق الحقيقة عام 1927
محاضرة ومقال نقدي بعنوان (الخيال الشعري عند العرب) عام 1929
قصائد.. في قلبي الكثير/ إلى الله / يا ابن أمي / عام 1929
قصيدة النبي المجهول عام 1930
قصيدة صلوات في معبد الحب عام 1931
قصائد.. أغنياتي / تحت الفروع /الأغنية من بروميثيوس عام 1933
قصائد.. الاعتراف / قلب الشاعر / إلى طغاة العالم عام 1934
ديوان أغاني الحياة عام 1955
مقتطفات من أشعار أبو القاسم الشابي
أتفنى ابتسامات تلك الجفون ويخبو توهج تلك الخدود؟
وتذوي وريدات تلك الشفاه وتهوى إلى الترب تلك النهود
وينهد ذاك القوام الرشيق وينحل صدر بديع وجيد
وتربد تلك الوجوه الصباح وفتنة ذاك الجمال الفريد
ويغبر فرع كجنح الظلام أنيق الغدائر جعد مديد
ويصبح في ظلمات القبور هباء حقيرا وتربا زهيد
***
أراك فتحلو لدي الحياة ويملأ نفسي صباح الأمل
وتنمو بصدري ورود عذاب وتحنو على قلبي المشتعل
ويفتنني فيك فيض الحياة وذاك الشباب الوديع الثمل
ويفتنني سحر تلك الشفاه ترفرف من حولهن القبل
فأعبد فيك جمال السماء ورقة ورد الربيع الخضل
وطهر الثلوج وسحر المروج موشحة بشعاع الطفل
**
إن الحياة صراع فيها الضعيف يداس
ما فاز في ماضغيها إلا شديد المراس
للحب فيها شجون فكن فتى الاحتراس
الكون كون شقاء الكون كون التباس
الكون كون اختلاق وضجة واختلاس
سيان عندي فيه السرور والابتئاس
**
إذا الشعب يومًا أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر
ومن لم يعانقه شوق الحياة تبخر في جوها واندثر
فويل لمن لم تشقه الحياة من صفعة العدم المنتصر
كذلك قالت لي الكائنات وحدثني روحها المستتر
ودمدمت الريح بين الفجاج وفوق الجبال وتحت الشجر
إذا ما طمحت إلى غاية ركبت المنى ونسيت الحذر
ولم أتجنب وعور الشعاب ولا كبة اللهب المستعر
ومن لا يحب صعود الجبال يعيش أبد الدهر بين الحفر
وفاة أبو القاسم الشابي
توفي شاعر الخضراء أبو القاسم الشابي يوم 9 أكتوبر عام 1934، ونُقِل جثمانه إلى محافظة توزر حيث مسقط رأسه، لكنه نقل في عام 1946 إلى ضريح آخر أعد خصيصًا له من باب التكريم، ليرحل الشاب الذي عاش في سنواته المعدودة عمرًا من الوعي والإبداع والتأثير، وترك إرثًا كبيرًا من الجمال والاختلاف جعله أحد شعراء العربية الكبار.
وفي نهاية هذه الجولة السريعة في عالم الشاعر التونسي الكبير أبو القاسم الشابي نرجو أن نكون قدمنا لك المتعة والإضافة، ويسعدنا كثيرًا أن تُشاركنا رأيك في التعليقات، ومشاركة المقال على مواقع التواصل لتعم الفائدة على الجميع.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.