لا بد من أمل في إقامة جسر وصل باليوم التالي بعدما يقارب اليوم الذي قبله على الانسحاب، تاركًا لنا فرصة استكمال لحظاته الأخيرة؛ لنباشر تلك الثواني الأولى ونحن بين أحضان نجوم مشعة وقمر ساطع، وليأخذنا إلى عالم عجيب يعمه سكون رهيب في بعض الأحيان.
أو قد تزمجر به أصداء صاخبة تعبيرًا عن بهجة ظرف أو سخط أنين أو حالة تدمر أحيانًا أخرى؛ لهذا هو زمن لا تتساوى به المشاعر والأحاسيس، هو الليل حينما يوحي لنا هواجس مخيفة أحيانًا أو أحلامًا سعيدة نتمناها أن تدوم أكثر، لتسكن خلسة ما بين ظلال غسق مارق وبزوغ شفق باسق إذ يرقد نائمون ويستفيق آخرون.
مثل هذا الشعور ومثل هذه الحالات النفسية المتباينة لا يفارقانا إلا نادرًا، ولا يبرحان حتى يبلغا مرادهما منا، كالإحساس بعدم الارتياح دون سبب في بعض الأحيان ما يجعلني أتربص لبعض الأجوبة المارة بذهني كلما سنحت لي الفرص بذلك لكي أرصدها، وبذلك قد أتمكن من تحصيل ولو جزء منها لعلي أقابل عن كل تساؤلاتي إجابات مقنعة، لأجد لي مخرجًا غير محرج، وعلى هذا أحقق بعضًا منها على أرض الواقع، فتجدني عفويًا أتباهى بما حصلت عليه من أهداف مادية كانت أم معنوية، وأصبحت أتمتع بلحظات زمنية أخصصها للتأمل كلما أردت الانفراد بنفسي فقط، لكي أتمكن من تعظيمها وجعلها تحس وكأنها أميرتي المبجلة، لهذا أتحاشى أن يصدر مني أي تصرف طائش فتغضب أو أن أنساق وراء مراكب أحلامي تلك التي لا شطآن لها ولا مراسيَ.
لهذا أيضًا كان علي أن أعترف في الأخير بما كنت أخشاه، فقد كانت مشكلتي مع نفسي العليلة تدفعني لكي أكون أكثر كرمًا اتجاهها، وأن أتعامل معها بكل حرص وصبر، وذلك لما تحملته مذ أن صارت تحمل اسمي؛ لذلك لا يقتصر الحال على إدراك حل لمعضلتها المزمنة وكفى، بل إنه كان من الواجب علي أن أبادر في محاولة إقناعها بوجوب ما يجعلها أكثر هدوء وروية لاستقبال كل ما سيحمله لها الآتي من الأيام، وهي تتأمل إشراقة شمس الخلاص عليها لترتاح أو في الأقل لتستريح قليلًا من أزماتها المتكررة التي تجعلني أتكبد خسارة بعض لحظات من عمري كلما ثارت علي، لمجرد أنها صادفت ما يذكرها بأشياء حساسة عاشتها بالماضي.
صرت أبحث في دواخلي لعلي أهتدي لسبيل أو حل يسكّن من روعها من حين لآخر؛ لهذا طرقت بعض أبواب التاريخ، لكن لم يجبني أحد، وتساءلت عن المصير وعن خفاياه، فلم أقتنع بما ذهب إليه تفكيري، وتأملت طويلًا في فواصل حياتي.
فما وجدت لي مرتعًا مريحًا، وقصدت آمالي تلك التي كنت أتحفظ من البوح بها، فتبددت كسحب الصيف، وبحثت عن أسراري الدفينة، ففوجئت بأنها لم تعد ملكي وحدي، فتهيأت لكي أواجه الآخر فما كان بيدي حيلة إلا أن أنافق أناي بكل جرأة واستبسال، لأخفي ضعفي...
لقد تغير حالي وتآكلت أفكاري وتنافست أفعالي لتوقع بي أمام نفسي، أما أقوالي فأضحت لا تذكر، لكي أكتشف فجأة أنني أصبحت كذاك النصب الذي نقشت عليه أسماء الشهداء وسط حديقة قلما تزار، رغم وجود نافورة تتدفق ومياهها لا تنضب، يحوم على جنباتها من حين لآخر الوافدون من الطيور العطشى وروحي هناك مصلّبة عليه كما المسيح.
لكني بعدما حسبتني صرت سيدًا بدرجات أعلى مما كنت عليه جاء يوم واستفقت من حلمي بغتة، فلم أجد نفسي بجانبي، بل إنها أوصدت في وجهي كل منافذ التواصل معي، حتى لا أرجوها لكي تعود إلي، بعدما تركتُها وحيدة لتصارع تجاهلي لها وكأنها لا تمت لي بصلة، ولأني لم أهتم بوجودها البتة حينها، فرت مني معاقبة إياي لجسارة جرأتي ولكبريائي العفوي، فاحتمت بقلعة كرامتها النادرة بكل ثَبات وتأفف، غاضبة مني وكأنها لا تريد رؤيتي من جديد.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.