«شبَّهوا الحياة».. خواطر وجدانية

شبَّهوا الدنيا وكأنها غلافٌ لكتاب، يقارنونه بكتبٍ خطُّوها من نسج خيالهم. شبَّهوها بطريقٍ يمتد، لا يُرى له أولٌ ولا آخر. شبَّهوها بنهرٍ لا يُوقفه سدٌّ، ولا يرويه منبع. بل شبَّهوها بكل صورةٍ خُلقَت في هذا العالم، وكأننا بطبعنا نميل إلى تفصيل المجمل، وتحليل التفاصيل، ومحاولة ترويض ما لا يُروَّض.

لكنهم فعلوا ذلك ظنًا منهم أن مجرَّد معرفة ماهيَّة الدنيا، كفيلٌ بأن يسهل علينا التعايش معها، وكأن الفهم هو مفتاح النجاة.

لكنَّ الدنيا، في نظري، كلما حاولتُ وصفها ازدادت غموضًا، وكلما اقتربت منها، ابتعدتُ عن إدراكها. بدايتها كنهايتها، لحظتها كسنتها، كهوفها ككنائسها، ومساكنها كمدافنها. تتحوَّل من ألوانٍ شتى إلى لونٍ باهت، لا ملامح له، لا طعم يُتذوَّق، ولا ظلَّ يُحتَذى.

هي فقط... دنيا، كلَّما حاولتُ أن أُلصق بها مصطلحًا، تملَّصت، وكلما أعطيتها تعريفًا، أصبحت أكثر هشاشةً وتهرُّبًا من الإدراك. فانية، تتآكل مع الوقت، وتنتهي بمجرد أن أُتمَّ وصفي لها، كأنَّها لا تحب أن تُفهم، بل تُعاش.

ولو كانت الدنيا كتابًا، لَعِشنا أعمارنا نبحث بين صفحاته عن تلك الجملة السحرية: الهدف من القصة. نُقلِّب الصفحات، نُحلِّل كل سطر، ونربط بين الأحداث، علَّنا نصل إلى خلاصة، إلى معنى.

لكنني، كلما قرأتُ أكثر، وغُصت في الأدب والروايات، أدركتُ أن الكتَّاب الكلاسيكيين، الكتَّاب الحقيقيين، لا يكتبون بحثًا عن هدف. إنهم يكتبون لأنهم يعيشون الحالة. لا توجد نهاية تبرر الرحلة، بل الرحلة هي الغاية. قصصهم ليست وسيلة لفهم العالم، بل هي العالم.

قصصهم تنبض بالحياة، وتبدو أكثر واقعية من الحياة ذاتها، لأنهم عاشوها كما هي، دون تصنُّع، ودون محاولة تبرير.

لا أظن أن للحياة هدفًا واحدًا واضحًا، ولا أقول ذلك تقليلًا من شأنها، بل على العكس، فإن عظمتها تكمن في هذا الغموض، في هذا التعدد، في هذا التناقض الذي لا يخضع لمنطقٍ صارم.
قيمة الحياة لم تكن يومًا في نهايتها، بل في تكوينها، في مفارقاتها، في لحظاتها العابرة التي لا تعود، في جمالها الخفي، وفي ألمها الذي يوقظنا.

الحياة قد تكون موسيقى... لكن ليست أي موسيقى. بل موسيقى بيتهوفن، أو ياني؛ لا تسير على نمطٍ واحد، ولا تُحبس في سلمٍ موسيقي ضيِّق. ترتفع، تنخفض، تصرخ، تهمس... كلما علا صوت الآلات، انكشف لنا اتجاه السيمفونية، ولامسنا عمق الشعور: صراخ، فرح، دهشة، فقدان، حب، حنين... وربما حياة.

قد تكون الموسيقى حياة، وقد تكون الكتب حياة، وقد تكون أنتَ، في لحظة صدق، حياة.
كل ما نلمسه ونفهمه ونشعر به، ما إن نمنحه لمسةً من المعنى، حتى ينبض بالحياة.

لذلك، لا تبحث عن تفسيرٍ نهائي، ولا تُنهك نفسك بالسؤال المتكرر عن الهدف. عشْ، فقط، وراقب المعنى وهو يتسلَّل إليك، خلسة.

«نحن لا نختار أن نولد، لكننا نُمنح فرصةً لأن نعيش... فلنحسن استخدامها».  ألبير كامو، الغريب

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة