شبكة المياه التاريخية في المدينة المنورة.. العين الزرقاء والمناهل والخرزات

منذ قرون، مثَّلت المياه في المدينة المنورة عصب الحياة، وتجلّى ذلك في إنشاء «العين الزرقاء» التي أمدّت المدينة بماء نقي عبر شبكة من الدبول والمناهل المحكمة البنيان. هذا النظام الفريد لم يكن وسيلة لنقل الماء فحسب، بل مؤسسة خدمية ذات طابع اجتماعي وتنظيمي، لها أوقافها وسقاؤوها وشيوخها. في هذا المقال نغوص في تاريخ هذه العين العريقة، ونكشف خريطة توزيع المياه في المدينة القديمة، ووظائف كل منهل وخرزة وطرق إدارتها.

كان أهل المدينة المنورة يعتمدون في حصولهم على الماء النقي الصالح للشرب من العين الزرقاء التي أجراها معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه عام 51 هـ تقريبًا، على يد عامله بالمدينة المنورة مروان بن الحكم الذي كانت في عينيه زرقة؛ فلذا سُميِّت العين بالعين الزرقاء، وذلك من عين أو بئر تُسمى بالجعفرية في الجهة الجنوبية الغربية من مسجد قباء.

نظام قنوات العين الزرقاء.. الدبول العلوية والسفلية

على مرِّ التاريخ أضيف لهذه البئر آبار عدة في منطقة قباء شمال وغرب المسجد، وعلى مرِّ الزمان والتاريخ جرى إضافة ونظافة الآبار والدبول وإصلاحها، وإيصال الماء إلى المدينة المنورة، وخُصصت لذلك أوقاف تقوم على خدمة العين وخدامها، فبنوا للعين من قباء إلى المدينة المنورة دبلين:

أحدهما علوي يمد المدينة المنورة بالماء الصالح للشرب من العين الزرقاء والآبار التي أضيفت لها، وهذا الدبل الواصل إلى المدينة مُبلط ومحكم البنيان.

العين الزرقاء بالمدينة المنورة

أما الدبل الثاني، فهو دبل أسفل الدبل الأول ويسمى: دبل الفايض، حيث يصرف الماء المتدفق إليه من الدبل العلوي، ومن فائض العيون والمناهل في المدينة، ويجري ماء هذا الدبل إلى خارج المدينة المنورة نحو الجرف. حيث يتحد الدبلان، من منهل الزكي الذي يجتمع فيه الزائد من ماء المناهل والفائض أيضًا منها، ويسير نحو البركة لري البساتين.

شبكة المناهل وتوزيع الماء في أحياء المدينة المنورة

هذه المناهل التي كانت داخل المدينة المنورة مبنية بإحكام، وبعضها لها درج طويلة جدًا ينزل إليها السقاة بدرج واسعة، بحيث لا تضيق بأعدادهم الكبيرة صعودًا ونزولًا في أي وقت من الأوقات. ومُدَّت بها أيضًا كثير من الصنابير الكبيرة لمواجهة الأعداد الكبيرة من السقاة وغيرهم الذي يأتون لملء أوعيتهم. وقد وزعت هذه المناهل على أحياء المدينة المنورة وشوارعها بحيث تغطي احتياجات الأهالي والزائرين. وهذه المناهل هي:

المناهل لتوزيع المياه

  • منهل المناخة: بجانب مسجد أبي بكر الصديق رضي الله عنه قريبًا من مسجد المصلى (الغمامة) ويخدم المناخة والعنبرية والتاجورية وغيرها. كزقاق الطيار والأحوشة التي به ومن حوله.
  • منهل الساحة: ويخدم منطقة الساحة، والحماطة، وباب الكومة، والأحوشة الأخرى.
  • منهل باب السلام: وهذا المنهل قريب من المسجد النبوي الشريف، وحوش الزرندي والشوارع والأحياء القريبة منه.
  • منهل باب بصرى: يخدم منطقة السحيمي، وباب المجيدي.
  • منهل حارة الأغوات: ويخدم الحارة، وديار العشرة ومن حولها.
  • منهل درب الجنائز: ويخدم كل ما حول هذه المنطقة ومنطقة الحمام.
  • منهل الزكي: ويخدم منطقة باب الشامي وطريق سيد الشهداء.
  • منهل القلعة: وهذا المنهل في داخل القلعة لتلبية الاحتياجات هناك.
  • منهل الحريم: مخصص للنساء بجوار عين المناخة.

وهناك بئر كبيرة داخل محطة القطار (الأسطسيون) تمد أهل العنبرية بالماء بواسطة أنابيب مُدت إلى الأحياء هناك.

الخرزات وآداب السقاة نظام فريد لإدارة المياه

أما الخرزات الشهيرة التي كانت مساندة لهذه المناهل فمنها:

  • خرزات العنبرية على وادي أبي جيدة.
  • خرزات قباء.
  • خرزات باب بصرى بجانب العين.

ولهذه العيون والمناهل والخرزات آداب يتعارف بها السقاؤون، فإن لكل منهل أو عين أو خرزة شيخًا، ونائب شيخ، ونقيب العين، فهم المنسقون لتوزيع صنابير الماء، أو لجلب الماء من البئر، وينظمون أدوار السقاة حيث يأتي السقاء ويذكر اسم الجهة التي عادة ما يملأ منها، وذلك في أثناء نزوله من درج العين فبعضهم ينادي: (غربًا) أو: (وسطًا) أو: (زويًا) ليعرف المكان الذي يتجه إليه. ويقوم الشيخ أو أحد نوابه بفض المنازعات أو الإشكالات التي قد تحدث فيما بينهم.

سقيا الماء بالمدينة المنورة

في النهاية، لم تكن العين الزرقاء مشروعًا لتوفير المياه، بل كانت نظامًا حضاريًا متكاملاً، يظهر عبقرية الهندسة والتنظيم الاجتماعي في تاريخ المدينة المنورة. لقد مثَّلت هذه الشبكة من القنوات والمناهل عصب الحياة في المدينة لقرون، ورسمت ملامح نسيجها الاجتماعي. وعلى الرغم من أن هذا المعلم التراثي قد اندثر اليوم، فإن قصته تظل شاهدة على تاريخ غني من الإدارة الحكيمة للموارد، وتراث عمراني يستحق أن يُروى ويُحفظ في ذاكرة الأجيال.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.