فتحت السيميائية بشكل عام وسيميائية الأهواء بمنظورها الخاص أمام النقاد في مجالات متعددة آفاقاً جديدة لتناول الإنتاج الإنساني من زوايا نظر جديدة.
ولمَّا كان الأدب هو صورة للواقع بصورة متخيلة، ومرآةً للحياة بآلامها وآمالها، وما تمثله الأهواء البشرية من غرائز وعواطف وأفكار، الأمر الذي جعل من وجود الأهواء أمراً حتمياً طالما وُجد العنصر الإنساني في الأدب.
ويأتي هذا المقال النقدي ليتناول سيميائية الأهواء وهووية (نسبة إلى الهوى) الفضول وتمظهراتها الدلالية في رواية "رجال في الشمس" لغسان كنفاني، ليكون هذا المقال التجربة الأولى من نوعها في أعمال غسان كنفاني.
هووية الفضول كسيمة (علامة) هووية في الرواية
يأتي هوى الفضول في مقدمة الأهواء المصنفة داخل فئة الأهواء المتقاطعة، وهو كمنفذ الحرية الهووية إلا أنه يختلف عنها على أنه منفذ داخلي نفسي، بينما الحرية هي منفذ إنساني بصورة أكبر، كما أن الفضولية تتضاءل بحكم التجربة والحياة مع العمر.
فحين يولد الطفل يكون فضولياً تجاه كل شيء حتى يلبي حاجاته الفضولية حتى تتضاءل هووية الفضول مع تقدم العمر بعكس الحرية التي تتنامى مع الإنسان، وتصبح أكثر تجريدية وأهمية من كل شيء.
اقرأ أيضًا: رواية زنوبيا .. رواية تحيا بين أسوار مملكتها
وبغض النظر فإن الفضول يتضح أن تحليل مكوناته وبنياته جهته هي رغبة المعرفة، وموضوعه هو البحث عن الحقيقة، كما ويتضح بعد تحليل مكوناته وبنياته أن جهته هي رغبة المعرفة، وموضوعه هو البحث عن الحقيقة. [1]
ويمكن القول إن الفضول هو بوابة صغيرة للأهواء تطورها الحالة النفسية وأهواء الرغبة الملحة في طبيعة الإنسان، حيث يُخَلِّق هوى الفضول الأهواء، وما تفتأ أن تتنامى لتبعث في نفسه السعادة والارتياح في إشباع ذلك الفضول سواء أكان معرفياً أو غريزياً أو اجتماعياً.
فشخصية مروان في الرواية شخصية غير متسمة بالتجربة والخبرة، فهو شاب في مقتبل العمر يريد أن يجتاز الحياة بآماله وطموحاته، ولذا فإنه غامر بهوى الفضول، بالرغم من تعقيد شخصية مروان الذي يثير التساؤل، فبعد أن لطمه الرجل السمين على خده بعد برهة أحس بنوعٍ من السعادة.
إنها سعادة لا يدري سببها، وهو يشتعل فضولاً حول معرفة السبب، فعلى لسان السارد: "اجتاز الباب إلى الخارج فصفعت أنفه روائح التمر وسلال القش الكبيرة.. تراه ماذا سيفعل الآن؟ لم يكن يريد أن يسأل السؤال لنفسه قط، ولكنه ليس يدري لماذا كان يحس بنوع من الارتياح، ترى ما السبب في ذلك؟ " [2]
وتتطور الحالة الفضولية إذ إن الهووية الفضولية عادة ما تكون "عند الإنسان في رغبته بأن يعرف ما لدى الآخر من أمور وأشياء ومفاهيم" [3]، وهذا الفضول تجاه معرفة سبب السعادة التناقضية والارتياح في نفسية مروان، وهذا الانشغال الفضولي تجاه معرفة السبب تشعره بالارتياح أيضاً، "لقد أحب أن يشغل نفسه بالتقصي عن السبب، ثمة شعور يملأ جانباً من رأسه ويوحي له بالارتياح والسعادة، ولكنه لم يكن ليستطيع أن يفصله عن كل الأحداث المأساوية التي احتشدت في صدره..." [4]
فالفضول في نفسية مروان متخبط في مجموعة من التناقضات التي تتاخم انطباعه تجاه ما يعاني من الأحداث المأساوية، حيث نلمح أن حالة الفضول جاءت على شكل سؤال "ترى ما السبب في ذلك؟".
اقرأ أيضًا: الشرق والغرب في بواكير فكر العقاد... تحليل ونقد
وهذه الأسلوبية السردية على لسان السارد هي بؤرة الراوي لشخصية مروان، وهذه التساؤلات مصاحبة للحالة الفضولية، فالفضول في النفس البشرية يتشكل على شكل تساؤل حول الماهية، حيث تعمد الفرد إلى "البحث عن جواب يرضي الأمل والألم في الوقت نفسه". [5]
والفضول التناقضي في ذاته هو فضول يمكن تحليله، وتكهن دلالاته من خلال التشخيص النفسي للشخصية ذات البنى النفسية المتناقضة، فالشخصيات في الرواية ليست شخصيات مثالية أو خالية من الأهواء الإنسانية، فحالة الفضول تتنامى مع الإنسان من أول يوم في حياته.
فالمولود عندما يخرج إلى الحياة تنتابه حالة الذهول والفضول حول الأشكال والألوان والأوجه التي تبدأ في التوغل إلى ذاكرته، وتتسع دائرة الفضول لديه "من خلال اتساع رؤية الطفل البصرية ونمو الإدراك والابتكار المعرفي ونمو ثقافة الطفل بالإضافة إلى إشباع دافع الفضول لدى الأطفال عن البيئة المادية التي يعيش فيها". [6]
ولو تأملنا في عنصر التساؤل على لسان الشخصيات نجده حالة اندفاعية تدل على هوى الفضول، وليس هاماً أن يكون السؤال واضحاً بأداة
التساؤل، فربما توحي إليه الحقول اللغوية المختصة بالفضول، ولو تأملنا أيضاً أشكال الاستفهام نجدها في الرواية تمثل جزءاً من السردية والحوارية من خلال التكرارات، ويمكن النظر في تكرارات الأدوات الاستفهامية في الجدول الآتي:
الأداة |
التكرارات |
الهمزة |
126 |
لماذا - ماذا |
109 |
هل |
36 |
كيف |
22 |
ما |
20 |
من الاستفهامية |
14 |
أين |
7 |
متى |
3 |
أي |
2 |
مجموع الاستفهامات |
139 |
إن ثيمة الاستفهامية في معظمها نابعة من فضول سواء أكان فضولاً معرفياً أم استنكارياً أم تقريرياً دالاً على معرفة انطباع المخاطب.
فالاستفهامات في العادة تبحث عن الأجوبة والتي هي علاج الفضول الإنساني، وهذه الأجوبة يمكن أن تكون فعلية أو قولية أو انطباعية تبادلية من المجيب، إلا أنها بطبيعة الحال تعد هووية فطرية لدى الإنسان.
فالفضول حالة استهوائية لها شكلية تساؤلية يمكن أن تنغزل حولها مجموعة من الأهواء المتعددة والمتداخلة باللاشعور الإنساني.
كما نجد في السردية الحوارية في الرواية: "قال أسعد مقاطعاً بهدوء: اترك موضوع الشرف من ناحية، الأمور تمضي بشكل أفضل حين لا يقسم المرء بشرفه، التفت إليه أبو الخيزران وقال: والآن يا أسعد، أنت رجل ذكي ومجرّب.. ما رأيك؟
-رأيي بماذا؟
-بكل شيء؟
ابتسم أسعد ولاحظ أن أبا قيس ومروان ينتظران أن يسمعا قراره...". [7]
لو نظرنا إلى المقطع السابق نجد أن هووية الفضول هي هووية متعلقة بالشخصية تعلقاً طبيعياً، فأبو الخيزران يحمل هووية الفضول في معرفة رأي أسعد بكونه رجلاً ذكياً ومجرباً، بينما نجد أسعد يستهويه الفضول حول فضوله، "ماذا يقصد أبو الخيزران بسؤاله".
اقرأ أيضًا: ثلاثية غرناطة قراءة نقدية
وتدل الرابطة الفضولية تجاه ما يحدث من الحوار في المشهد الذي يوضح موقف أبي قيس ومروان اللذين يتبدى فيهما هووية الفضول في عبارة "ينتظران أن يسمعا قراره".
التمظهرات التوليدية الدلالية للفعل الهووي (الفعل هوى)
ومن خلال تتبع المد الاستهوائي في التحليل يظهر مركب الغيرة مقترنا بالكفاية الاستهوائية ممثلة في التطويع الانفعالي وسلطة الجسد والتجربة والصمت" [8]، وحين التأمل في التمظهرات المعجمية في علاقة الراقصة كوكب بأبي الخيزران.
فبالرغم من شخصية الراقصة كوكب التي قد كان لها وجه واحد لا يتبدل ولا يتغير ولا يتنامى في الرواية، إلا أننا نلحظ أن التمظهرات السياقية في النص، فعلى لسان أبي باقر: "يا سلام يا ملعون.. ولكن قل لنا كيف أحبّتك؟
الحاج رضا يقول إنها من فرط حبها لك تصرف نقودها عليه وتعطيك شيكات..." [9]، فالإشارات اللغوية ومعانيها على لسان أبي باقر جاءت مقترنة بالتمظهرات الدلالية والمعجمية للفتنة والغريزة والميول الشهوي والإعجاب والاستمالة والوله كأهواء متلاطمة؛ "ليخلص إلى الخطاطة الاستهوائية المقننة ممثلة في التكوين والتأهب والصوغ الاستهوائي والعاطفة والتقويم الأخلاقي". [10]
كما ونجد أن الترابط الدلالي في شخصيات الرواية من حيث توليد الدلالة للفعل الهووي تنطلق من خلال ثنائيات الرمز الفلسطيني في ذاته والتي توظف الثنائيات التناقضية بين الهوى والهروب.
حيث يتداخل الهوى بين دالّ الشخصية في الرواية في دوالّ الماضي والحاضر، والداخل والخارج، والنور والظلمة، والمعاناة والراحة، والحرية والتقييد، والاستعباد والانعتاق، والموت والحياة، والمرض والصحة، واليأس والتفاؤل، والتأصيل والتغريب... إلخ، وكلها إشارات دلالية تشير إلى حالة الأهواء ونقيضها.
ويمكن أن نستجلي التمظهرات الدلالية للفعل الهووي في أحداث المغامرة، فالمغامرة في مدلولاتها تحمل بعداً هوويّاً مباشراً بما تحمله من إشارة الفضول والرغبة واقتحام المخاطر، وهذا هو ما ظهر جلياً في الرواية، إن لم يكن هو المحور الأساس في الرواية، وهي مغامرة شخصية لقطع الصحراء للوصول إلى وجهتها وهي الكويت بطريقة خطرة تصحبها إلى الموت والضياع والاختناق، حيث تتجلى حالة المغامرة والمقامرة بالحياة على وصف السارد: "أتحسب أن أبا قيس لم يقامر بحياته.. وسوف يكون هو الخاسر..." [11].
فشخصية أبي قيس شخصية كبيرة تحمل تجاربها الخاصة، ولكنها تحمل هووية المغامرة للمجهول، وتحطيم المخاطر من أجل العيش والحياة والبحث عن الرزق، والواضح أن زوجته أم قيس تعرف أن حس المغامرة يستهوي أبا قيس ليخوض مغامرة يقامر بها في حياته، فعلى لسانها: "إنها مغامرة غير مأمونة العواقب" [12]، فأبو قيس يدرك المخاطرة والمغامرة التي يمكن أن تزهق حياته.
اقرأ أيضًا: تياترو الأزبكية | أوّل مسرح وطنيّ في تاريخ مصر
ولكن الهووية المُغامِرة ليست نابعة من حس مغامر فحسب، بل هي نابعة من أهواء أهم بكثير من المغامرة ذاتها، وهو البحث عن العيش الكريم، فعلى لسان أبي قيس: "سوف يكون بوسعنا أن نعلم قيساً وأن نشتري عرق زيتون أو عرقين، وربما نبني غرفة نسكنها وتكون لنا، أنا رجل عجوز قد أصل وقد لا أصل،...". [13]
ومن هنا يمكن القول إن حس المغامرة وهووية الإقدام على المخاطرة ليس حساً نابعاً من المغامرة، بل هو حس تواق للمخاطرة من أجل الحياة، وليس الموت، وهو ما يشير إلى صواب اعتقادنا بأن إحدى المتناقضات الثنائية تكون بعداً هووياً لدى النفس البشرية، فالموت يعكسه أهوائية الحياة، والحياة هي البعد الهووي الأساس لدى الفرد، وهي ما تحمل الإنسان إلى النجاة وهووية غريزة البقاء.
فالإنسان "كائن يحب ويهوى، لا ينفك عن حب للحياة التي تسري في كيانه، ولا ينجو من هوى يسكنه، ويهيمــن على مشــاغله واهتماماته، فالحــب قوة قاهرة، وسلطانه يطغى على ما عداه" [14]، وليس أكثر فطرية في الإنسان من حب الحياة والتعلق بالرمق الأخير فيها.
إن غريزة وهوويّة الحياة والتمسك بها تتجلى في حركة الاحتضار في الرواية والحركية العملية الصورية في موت الضحايا في الخزان واحتضارهم ومغالبتهم الأنفاس أثناء الاختناق في الخزان المظلم كلها إشارات واضحة للتمسك بالحياة، وأن الغريزية الهوائية للحياة تظهر من اللحظة الحرجة التي يهدد الخطر فيها الحياة، وتصبح الروح على هامش النفس.
فنزعة الجسد ومغالبة الأنفاس والتمسك بالروح تطغى على كل شعور استهوائي آخر، بالرغم من أن المشاريع العملية المستهدف إنجازها في الحياة نفسها تعد محركاً استهوائياً في لحظة الحركة للاحتضار من العاطفة تجاه الأبناء أو الأسرة أو الزوجة، أو البحث عن أهواء متجذرة في الشخصية، إلا أن الركن الاستهوائي الخاص والمركز في تلك الحالة ينصب على الحياة نفسها.
وبالرغم من أن العواطف الأخرى المتمثلة في مثل ذلك الموقف المأساوي في الحياة ومشاريعها العملية والنفسية لدى الشخصية "لا تتعارض مع المشاعر، بل قد تكون مجرى تصب فيه العواطف وتختبر الأهواء، وموطناً للرغبة في الانتقام، أو الغضب، أو الرضا، أو التحسر، أو الأسف.." [15].
ولهذا فإن رمزية الحياة تساوي رمزية الحب، والتعلق بآخر مداه الكينوني داخل النفس، وهذه الرمزية قد طغت على جانب الهوى في الرواية، بالرغم من أن النظرة إلى تلك الأهوائية محبطة للغاية، فعلى لسان أبي الخيزران: "لا أريد أن أتحرك قط.. لقد تعبت في حياتي أكثر من كافٍ! إي والله، أكثر من كافٍ.." [16].
إنها نظرة سوداوية تشاؤمية تنبئ بالحدث والنحس المصبوب على الشخصيات التي لاقت الحتف بصورة يائسة، فعلى لسان أم قيس لزوجها أبي قيس: "تموت؟ هيه.. من قال إن ذلك ليس أفضل من حياتك الآن؟". [17]
كما أن أبا قيس نفسه تأخذه حالة اليأس مخاطباً نفسه: "أنا رجل عجوز قد أصل وقد لا أصل.. أو تحسب إِذن أن حياتك هنا أفضل كثيراً من موتك؟" [18]، وعلى لسان أسعد كما نجد أن العلاقة بين هوى الحياة وهوى المغامرة مترابطة في الرواية.
فالسردية الروائية تشير إلى أن الحياة هي مغامرة بكل أبعادها الدلالية، فأبو قيس لم يزل يتحدث بالخبرة التي اكتسبها من حياة اليأس والإحباط، ومن لجوئه إلى خطوة جريئة تمثل مغامرة خطيرة في حياة، وهي التهرب إلى الكويت، وهذا التعليل على لسانه: "لقد صرفت حياتك مغامراً". [19]
اقرأ أيضًا: قراءة في أخبار شاعر الجاهلية قيس بن الخطيم وحياته
إن الحالة العاطفية تجاه ما يحدث من وجهة نظر ونفسية أبي الخيزران هي ما تمثل (اليقظة العاطفية) متمثلة بما يسمى (الخبرة الصادمة) ما بعد الصدمة مباشرة.
إنها فكرة من مجموعة أفكار تدور في عقله، تنبعث من مكانها حيث تتمثل اليقظة العاطفية بمشاعر الصدمة لتصبح الفكرة مجرّدة من المنطق "فكّر أن يصيح..."، وذلك أن رؤية الضحايا في الخزان ومشهد الموت ما زال عالقاً في ذهنه وأمام عينيه.
فأبو الخيزران يقوم بالاسترجاع اللاإرادي للحدث الصادم مع محاولة لربط جأشه والوصول إلى فكرة ما تخرجه من الورطة التي تمثل عنصراً مأزوماً في الحدث، وهذه المواجهة المطولة هي ما تؤدي إلى التمثل الانفعالي من خلال "هضم الخبرة الصادمة واستيعابها من خلال تنشيط ذاكرة القلق والخوف، بجانب استعادة الضبط والتحكم في استحضار المثيرات وصرفها عن الاعتياد عليها دون خوف أو قلق" [20] في نفسية أبي الخيزران.
ثم تتبدى حالة الاستعداد في نفسية أبي الخيزران بالمجهول، فالنهاية غامضة ومفتوحة لا تنبئننا عن تصرف أبي الخيزران أو شعوره الانفعالي المتزن تجاه ما يحدث، لكن المحور العاطفي والتجلي الانفعالي يتبدى على لسان أبي الخيزارن "لماذا لم يقرعوا جدران الخزان؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟" [21].
فالحالة الذهولية لمحور العاطفة يتمركز حول ذات أبي الخيزران النفسية والمتلاطمة ببحر من الذهول الممزوج بتأنيب الضمير الحاضر في النفس، فهو يتساءل بهووية الفضول الطاغية في الشعور، والتي لم يجد لها جواباً أبداً من الضحايا الذين لم يطرقوا الخزان، كما تمثل الحالة الشعورية العاطفية في الحقول التي تمثلها عبارات "حدق في العتمة، وسع حدقتيه، دار حول نفسه، خشي أن يقع، أسند رأسه فوق المقعد، بقي واقفاً متشنّجاً، رأسه على وشك أن ينفجر، صعد كل التعب، يشد شعره، الفكرة تشتعل في رأسه، لم يعد بوسعه أن يكبحها"..
كلها حقول وإشارات دلالية متداخلة ضمن المخطط النظامي للعاطفة في نفس أبي الخيزران الذي بدا وكأنه في حالة من التخبط العاطفي غير المتزن التي تشير إلى أهواء متداخلة معاً.
ومن خلال قراءتنا السيميائية لهووية الفضول ومدى ترابطها العلائقي الدلالي مع التمظهرات الدلالية للأهواء والفعل الهووي في رواية "رجال في الشمس" لدى غسان كنفاني يتبيّن أننا قد نجد الكاتب غسان كنفاني في تصوير عمق الإنسان الهووي في الشعور الفضولي بمنظوره الطبيعي والسوداوي الواقعي في ذاته ووجدانه وأهوائه عبر سيميائيات متعددة انسجمت معها الدلالات مع سيميائيتها المبطنة والظاهرة وإضفاء الطابع الدرامي التراجيدي والحركي في النص.
ففي رواية "رجال في الشمس" لغسان كنفاني قد استطاعت أن تصور آلام الإنسان الفلسطيني وأن تجعل من شخصياتها أنموذجاً رائعاً يمثل الأهواء بأبعادها الصادقة والموضوعية، حيث خضنا بين ثناياها نضال الإنسان الفلسطيني من أجل الوطن والعيش والغربة والتشرد والوحدة والألم، حيث كانت رواية "رجال في الشمس" مفعمة بالأهواء والتمظهرات الهووية الفضولية المبطنة والتي طوّعها السارد عبر الانفعالات الظاهرة في قالب فني وسرديٍّ جمالي.
إذ يمكن القول إن الرواية قد انفتحت على الذات الهووية الفضولية من خلال تمظهرات الأهواء الدلالية المتشعّبة في الرواية، كما وشكلت هوامش خارجة عن المألوف، فكانت البنى الخارجية والداخلية لشخوص الرواية متوازنة ما بين الأهواء الطبيعية وأهوائها المغالية التي تمظهرها الإشارات الفضولية .
كما كانت ردات الفعل والإيحاءات المنسوجة في الرواية تحمل حس المغامرة ذا الشق الفضولي للمجهول، وعبر شخوص الرواية الذين حملتهم الحاجة وفضولية المغامرة إلى المجهول للتهرب إلى الكويت حيث العمل والمال لتحسين ظروف العيش والخروج من بوتقة الفقر والعوز، وهذا التوجه الفعلي يعكس الهووية المتجهة إلى الغنى والثراء والعيش الكريم وتحقيق الآمال والطموحات المنهزمة.
لذا يمكن القول إن الرواية بطابعها الهووي الفضولي المتداخل والمحدود تمثّل من الناحية الاجتماعية صورة صادقة ومرآة عاكسة للإنسان الفلسطيني المناضل والباحث عن الرزق في تلك الفترة، وما يحمله الإنسان الفلسطيني من آمال وتطلعات وعواطف تجسّد ثقافته.
وقد اعتمدت الرواية على اللغة التكثيفية والأحداث المترابطة المأزومة لتشويق القارئ، فضلاً عما يمثله سياق الحدث الروائي لسيميائية الأهواء في رواية "رجال في الشمس"، وعلى مجموعة من الثنائيات كالحب والكره، والأمل واليأس، والحزن والفرح، كما قامت على توازي المسار الدلالي والمسار الاستهوائي.
الهوامش
· محمد الداهي، سيميائية السرد - بحث في الوجود السيميائي المتجانس، دار رواية للنشر والتوزيع، ط1، القاهرة - مصر، 2009م: ص15.
· غسان كنفاني، رجال في الشمس، منشورات الرمال للنشر والتوزيع، ط2، بيروت - لبنان، 2013م: ص37.
· هاني يحيى نصري، علم النفس دراسة الحواس الداخلية، دار القلم للطباعة والنشر، ط1، بيروت - لبنان، 2020م: ص139.
· غسان كنفاني، رجال في الشمس: ص37.
· منير الزامل، التحليل السيميائي للمسرح، دار مؤسسة رسلان للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، دمشق - سوريا، 2014م: ص66.
· أشرف سرج، التفكير الابتكاري لدى الأطفال ومدى تأثره بالألعاب الإلكترونية، المكتبة العصرية للنشر والتوزيع، ط1، بيروت - لبنان، 2009م: ص192.
· غسان كنفاني، رجال في الشمس: ص61.
· محمد الداهي، سيميائية السرد - بحث في الوجود السيميائي المتجانس: ص177.
· غسان كنفاني، رجال في الشمس: ص97 - 98.
· أحمد مداس، قراءات في النص ومناهج التأويل بواسطة، مركز الكتاب الأكاديمي للنشر، ط1، عمان–الأردن، 2018م: ص91.
· غسان كنفاني، رجال في الشمس: ص71.
· المصدر السابق: ص16.
· المصدر السابق: ص89.
· عبد الحق بلعابد، سيميائية الأهواء (الحب في حالاته القصوى)، مجلة الكوفة: مجلة فصلية محكمة، العدد (10)، جامعة الكوفة - العراق، 2016م: ص182.
· ينظر: رولان بارت، شذرات من خطاب العشق، ترجمة: إلهام حطيط وحبيب حطيط، (سلسلة إبداعات عالمية الصادر عن المجلس الوطني للفنون عدد 324)، ط1 – الكويت، 2001م: ص35.
· غسان كنفاني، رجال في الشمس: ص73.
· المصدر السابق: ص17.
· المصدر السابق: ص88.
· المصدر السابق: ص89.
· إبراهيم يونس، نمو ما بعد الصدمة، دار يسطرون للنشر والتوزيع، ط1، القاهرة - مصر، 2018م: ص169.
· غسان كنفاني، رجال في الشمس: ص109.
اقرأ أيضًا
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.