في يومٍ شتوي من أيام يناير عام 1937، وُلِد طفلٌ لم يكن أحدٌ يعلم أنه سيصبح أيقونة الكوميديا العربية، وملاذًا للقلوب المتعبة. في محافظة أسيوط، أبصر سمير يوسف غانم النور، كأنما جاء إلى العالم محمَّلًا برسالة خفيفة الظل، ليزرع الابتسامة حيثما حلَّ.
طفولة وصبا.. رحلة البحث عن الذات
نشأ سمير في بيتٍ بسيط، بين أبٍ ضابط شرطة صارم، وأمٍّ حنون، تحيطه كأي أم مصرية بعالم من الدفء والرعاية. على الرغْم من نشأته في بيئة محافظة، لكن خياله الجامح كان يهرب دائمًا إلى مناطق أخرى، حيث الكوميديا والمغامرات الصغيرة التي ابتدعها في طفولته.
التحق بكلية الشرطة تنفيذًا لرغبة والده، لكنه سرعان ما اكتشف أن الانضباط العسكري لا يتناسب مع روحه المرحة، فانتقل إلى كلية الزراعة بجامعة الإسكندرية، وهناك، التقى بقدرٍ غيَّر مجرى حياته.
ثلاثي أضواء المسرح.. ميلاد الأسطورة
في أروقة الجامعة، التقى جورج سيدهم والضيف أحمد، فتآلفت أرواحهم سريعًا، وكأنهم وُجدوا ليُكملوا بعضهم بعضًا. كوَّن الثلاثي فرقة "ثلاثي أضواء المسرح"، وكانت عروضهم كأنها نسمات خفيفة تهب على الجمهور، لتغيِّر وجه الكوميديا المصرية إلى الأبد.
لكن السعادة في الحياة لا تدوم طويلًا، فقد اختطف الموت الضيف أحمد مبكرًا، وانهار سمير وجورج تحت وطأة الصدمة. كانت لحظة فارقة في حياة سمير، فقد تذوَّق مرارة الفقد للمرة الأولى، لكن الحياة دفعته للمضي قدمًا.
سمير غانم منفردًا.. نجم لا يخبو
بعد حل الفرقة، انطلق سمير في طريقه منفردًا، لكنه لم يكن مجرد ممثل، بل كان حالة استثنائية، يصنع الضحك بحركة حاجب، أو بتغيير نبرة صوته. قدَّم عشرات المسرحيات، أشهرها "المتزوجون"، "أخويا هايص وأنا لايص"، و"دو ري مي فاصوليا"، التي تحولت إلى جزء من الذاكرة الجمعية للمصريين.
فوازير فطوطة فاكهة رمضان التي افتقدناها
حينما جاءته الفرصة لتقديم فوازير رمضان، لم يكن مجرد مذيع أو مؤدٍّ، بل أعاد تعريف الفوازير بروحه الساخرة وأدائه العبقري. كان السبب وراء ذلك المنتج الراحل سمير خفاجي، الذي رأى في سمير شخصية فريدة تنافس نيللي وشريهان، اللتين كانتا ملكتي الفوازير آنذاك. تعاون سمير مع المخرج فهمي عبد الحميد، ليقدِّم "فوازير فطوطة" عام 1982، التي حققت نجاحًا كاسحًا، وظلت جزءًا لا يُمحى من ذاكرة الأجيال.
لم أنسَ طفولتي، حينما كنت أجلس على الأرض، مشرئبة بعينيَّ نحو الشاشة، أترقب ظهور فطوطة بشغف وحرص، أردد المقدمة الموسيقية معه كأنه صديقي المقرب. كنت طفلة السبع سنوات، ذات الشعر المنكوش والضفائر المتشابكة، التي تنتظر الفوازير كأنها عيد خاص لا يكتمل رمضان إلا به.
قصة حب خُلِّدت في الذاكرة
دخلت دلال عبد العزيز حياته، ليس بصفتها حبيبة فقط، بل مصدر أمان. أحبته في صمت، وقررت أن تكسب قلبه على الرغْم من تردده. قالت جملتها الشهيرة: "هتجوزه يعني هتجوزه"، وحققت ما أرادت. لكنها لم تحظَ برد الفعل الرومانسي الذي تحلم به أي فتاة، فقد كان سمير مترددًا، وغير مستعد لخوض تجربة الزواج من جديد. وعلى الرغم من ذلك، لم تتخلَّ عنه، ولم تنسحب، بل تحملت ردود أفعاله السلبية بصبر شديد، مؤمنة أنه الرجل الذي يستحق الحب والتضحية.
كان سمير يمازحها دومًا قائلًا: "أنتِ جاية ورانا ورانا؟"، لكنها كانت تبتسم فقط؛ لأنها كانت تعرف أنه يحبها بطريقته الخاصة. لم يكن رجلًا يجيد التعبير عن مشاعره بالكلمات، لكن أفعاله كانت تقول كثيرًا عن حبه. وبعد سنواتٍ من الإلحاح، تزوَّجا، وعاشا معًا قصة حب لم تكن تقليدية، بل ممتلئة بالمواقف العفوية التي جعلت علاقتهما من أجمل قصص الحب في الوسط الفني.
قصة زواجي تشبه قصة دلال إلى حدٍّ ما، في تمسكها بحبيبها ورفضها فكرة أن تتركه في أي حال. هناك أرواح لا تعرف الاستسلام، ودلال كانت واحدة منهن، مثلما كنت أنا.
الوفاء حتى آخر لحظة.. جورج سيدهم وسمير غانم
لم تكن علاقته بجورج سيدهم مجرد شراكة فنية، بل كانت أخوَّة حقيقية. حينما أُصيب جورج بجلطة أثَّرت على قدرته في الحركة والكلام، لم يتركه سمير لحظة. كان يزوره باستمرار، يُمازحه، ويبث فيه الأمل، حتى اللحظة الأخيرة.
إنسانيته ومواقفه مع الزملاء
كان سمير معروفًا بمواقفه النبيلة مع زملائه، حيث كان دائم المساندة لأي فنان في أزمة، سواء بالمساعدة المادية أو المعنوية. وقف بجانب الفنان مظهر أبو النجا في محنته الصحية، وساعد عبد المنعم مدبولي في أزمته الأخيرة، ولم يتأخر يومًا عن تقديم الدعم لأي زميل يحتاج إليه.
وداعًا سمير.. يومٌ بكى فيه المصريون
في مايو 2021، خسرنا صوت الضحكة الأجمل، بعد صراع مع فيروس كورونا. رحل جسده، لكن ذكرياته بقيت، وابتسامته لم تفارق شاشات التلفاز، وكأنه ما زال بيننا. كانت دلال وسمير روحين في جسد واحد، لم يقبلا فكرة الفراق، فرحلا معًا على نحو درامي مؤثر، وكأنها أصرت أن تتبعه، ليكملا معًا قصة الحب التي لم تنتهِ حتى في الموت.
ظله في رمضان.. دنيا تكمل المسيرة
هذا العام، تطل ابنته دنيا بمسلسل "عايشة الدور"، وكأنها تحمل شعلة الأب، وتؤكد للجميع أن سمير غانم لم يرحل، بل يعيش في ضحكات جمهوره، وأرواح أحبته. لكنها لم تدخل عالم الفوازير، ربما لأن هذا العالم كان يحمل بصمة والدها التي لا يمكن تكرارها، أو ربما لأنها فضَّلت أن تشق طريقها بأسلوبها الخاص.
سمير غانم.. الضحكة التي لن تموت
قد تغيب الأجساد، لكن العظماء لا يرحلون. سيظل سمير غانم جزءًا من نسيج حياتنا، يزورنا في كل ضحكة صادقة، وفي كل لحظة نحتاج فيها إلى الفرح.
الله يرحمه
👍👍👍
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.