اللوحات الفنية ليست تجربة بصرية ولكنها لقاء روحي وفلسفي، تقدم لنا تلك اللوحات الفنية فرصة للتواصل مع الزمن، الأفكار، والمشاعر التي قد تبدو بعيدة عنا ولكنها قريبة جدًّا في جوهرها.
تظل اللوحات الفنية شاهدًا حيًّا على تطور الروح الإنسانية، ووسيلة للتواصل مع المجهول في داخلنا وفي كل ما يحيط بنا، هي حوار غير منطوق بين الفنان ومتذوقي الفنون، فتبدو في ظاهرها بسيطة ولكنها تحمل في جوهرها عوالم معقدة من المشاعر والتجارب الإنسانية.
وتتجاوز اللوحة الفنية الحواجز الثقافية واللغوية، وتبرز كونها وسيلة تعبير عالمية، وتتجاوز كونها صورة لشخص ما أو تجسيدًا لمشهد ما لتصبح دراسة فلسفية عميقة للحياة، عندما تنظر إلى اللوحة أنت لا تنظر إلى عمل فني.. أنت تدخل في حوار إنساني مشترك مع قصة تنتظر أن تُحكى وأن تُفهم.
ويسعدني أن أكون للقارئ الكريم وسيلة لتحقيق ذلك بواسطة سلسلة مقالات "فلسفة اللوحة" نخطو بها معًا في عوالم مختلفة من اللوحات الفنية، ونتأمل في فلسفتها، ونغوص في جمالها وأسرارها... أنا حقًّا يُسعدني ذلك.
لوحة الكل باطل 1892
في سن التاسعة عشرة رسم الفنان الأمريكي "تشارلز ألان جليبرت" هذه اللوحة التي نُشرت بعد عشر سنوات في مجلة "life magazine"، اسم اللوحة بالإنجليزية هو "all is vanity" وقد استوحي "تشارلز" الاسم من عبارة إنجيلية، حيث يتحدث بها الملك سليمان وهو يتفكر في تفاهات العالم:
"باطل الأباطيل.. الكل باطل – سفر الجامعة 1:2 الكتاب المقدس".
امرأة أنيقة من العصر الفيكتوري تحدق لنفسها بزهو وإعجاب أمام مرآتها وطاولة الزينة في غرفة نومها... وأيضًا لو ابتعدنا قليلًا بأعيننا عنها سوف نرى جمجمة بشرية تحدق بنا.
تطغى على اللوحة الألوان المظلمة، ولا نتيجة لضوء إلا على الجمجمة، والشمعة المحترق لهيبها بجانبها رمزية على الحياة التي تحترق يومًا بعد يوم، يقابلها حقيقة حتمية هي الموت المتمثل في الجمجمة البشرية.
هل يريد أن يصور مشهدًا جدليًّا بين الحياة والموت؟
ولكن لماذا احتلت رمزية الموت الشكل الأكبر في اللوحة، أما الحياة فمجرد شمعة هامشية تأخذ حيزًا ضئيلًا في مساحة اللوحة؟!
هل يريد جذب الانتباه إلى فكرة الموت لأننا ننشغل بالحياة عنها؟
ولكن المرأة هنا لا تلقي بالًا للشمعة؛ إنها مسحورة بجمالها أمام المرآة وطاولة الزينة. والمرأة عادة ترمز في الفن إلى الغرور، وتحديقها في المرآة لشخصها يوحي بذلك.
هنا لا تلقي المرأة بالًا بالحياة أو الموت، هي لا ترى إلا جمالها المنعكس في مرآتها، ذلك الجمال الذي يمنحها القوة وكأنها محور الوجود الذي يدور كل شيء حوله.. ذلك الشعور الذي يتسلل بخفة إلى الأعماق لينتشي به العقل، ويفقد بصيرتهُ بالوعي الحقيقي للحياة والإدراك العميق للموت.
فالحياة هي رحلة قصيرة، والموت محطة لا مفر منها، والغرور هو ذلك الحجاب الذي يمنعنا عن الشعور بجمال الحياة وزوالها في آن واحد. وعند زوال هذا الحجاب سيرى الإنسان بوعي أن تذكر الموت ضروري للشعور بالحياة، للانتباه بأن لحظاتنا محدودة، سنرى الوجود بوضوح: كل لحظة هي حياة، وكل علاقة هي نعمة، وكل تجربة هي درس.
من وجهة نظري المتواضعة أعتقد أن الفنان "تشارلز جيلبرت" لم يعطِ أي مساحة للحياة في اللوحة، ولم يعطِ أي مساحة للموت أيضًا. لقد رسم كل مظاهر الحياة داخل الجمجمة كالشمعة المحترقة، وطاولة الزينة وكل ما عليها من عطور.
كل تفاصيل الحياة صغيرة، وتتجمع مع بعضها بعضًا في صورة كلية.. هي الموت.
ويبقى السؤال هنا:
هل ترى المرأة في اللوحة تلك التفاصيل الدقيقة وتلاحظها؟
تأملات
لوحة "الكل باطل" أشبه بمرآة تعكس أعمق مخاوفنا وهواجسنا، وتدعونا لمواجهة حقيقة الحياة دون أقنعة، هي درس للتأمل، وأن ننظر للحياة ونحيا كل تفاصيلها التي هي في نهاية المطاف رحلة إلى الزوال، والوعي بفناء الإنسان وحتمية الموت يجعلنا أحرارًا، نعيش بكل صدق، ونواجه الموت بكل شجاعة.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.