سلسلة «ع البحر».. القصة الخامسة: «لكل ظالم نهاية»

ما أجمل اللحظات التي نقضيها على البحر، ونلقي فيه همومنا ونتخلص من أحزاننا، فقد ترهقنا الحياة بضغوطها ولكن صوت الأمواج ونسمة الهواء الخفيفة وقطرات البحر التي تحتضننا قادرة على أن تسمح من أجسادنا ما تشعر به من حزن، وننسى معها الضغوط التي نعانيها.

وقد تختلف الهموم وتتضارب المشاعر، ولكن تجمعنا السعادة التي نشعر بها ونحن على شاطئ البحر؛ فالبحر هو الصديق الأمين الوحيد الذي تستطيع أن تبوح له بكل ما يجيش في صدرك؛ لأنه لن يبوح بذلك لأحد.

اقرأ أيضًا: اقرأ أيضًا: سلسلة «ع البحر».. القصة الأولى: «سلامة ومنار»

القصة الخامسة: لكل ظلم نهاية

هذا سليم شاب في العشرين من عمره، ملامحه مصرية أصيلة؛ فهو أسمر كسمار النيل، وعيناه عسليتان، أما شعره الخفيف فهو أسود كسواد الليل، نراه جالسًا على شاطئ البحر وعيناه مليئتان بالدموع، ويشكو من الظلم الذي تعرض له منذ صغره؛ فقد توفيت والدته وهو في السابعة من عمره، أما والده فقد تركه لجدته "والدة الأم" ليتزوج من سيدة أخرى أحبها بعد وفاة زوجته بمدة بسيطة.

نشأ الولد دون أن يعرف حنان الأب ولا الأم؛ لأن جدته كانت سيدة كبيرة لا تقدر على رعاية طفل في سن سليم؛ لذا تركته لزوجة نجلها الوحيد عصام لتتولى رعايته مع أولادها.

اقرأ أيضًا: اقرأ أيضًا: سلسلة «ع البحر».. القصة الثانية: «ذكريات حبيبة»

بيت الخال

قضى سليم في منزل خاله 10 سنوات منذ أن كان في السابعة من عمره إلى أن التحق بالكلية، وكانت له سنين عجافًا. كان سليم يعاني من فرق المعاملة بينه وبين أبناء خاله سهام (4 سنوات) ومدحت (10 سنوات)؛ فكانت زوجة الخال تهتم كثيرًا بأولادها أكثر من اهتمامها بسليم الطفل الذي لم يجد الرعاية التي يحتاج إليها أي طفل في سنه، فكانت تعنِّفه على أقل الأشياء، ولا تسمح له بتناول الحلوى التي يشتريها الخال للأطفال إلا بعد أن يكتفي أولادها باحتياجاتهم، إضافة إلى أنها لم تكترث بما يحبه الطفل أو يكرهه سواء في الحلوى أو حتى في الطعام العادي، بل كانت تطهو ما يحبه أولادها وزوجها، وكانت تعنفه إذا رفض تناول الطعام، وتجبره على ذلك حتى لو كان يكرهه. 

كان سليم يلقى المعاملة نفسها من مدحت، بعكس سهام التي كانت تعطيه قطعة من الحلوى التي يشتريها لها والدها؛ لذلك كان يحبها ويداعبها ويلعب معها، لكن شقيقها كان يضربه كلما رآهما يلعبان معًا، أو وجد مع سليم أي لعبة تخص سهام، أو أي لعبة جديدة، ويخطفها منه، ليلعب بها أو يعطيها والدته التي كانت تقابل ذلك بتعنيف سليم وحرمانه من الطعام واللعب أيضًا.

طلبت "سالي" زوجة الخال من سليم أن يركز على البحث عن عمل في أي ورشة أو محل؛ لأنهم لا يستطيعون الإنفاق على 3 أطفال، وعليه الآن الإنفاق على نفسه. للأسف اضطر للرضوخ إلى أمر زوجة خاله؛ لأنه لم يجد من يشكو له؛ فقط توفيت جدته وانقطعت أخبار والده نهائيًّا بعد زواجه، فكانت سالي تتظاهر أمام الجدة بحسن رعايتها لسليم والاهتمام به، وفعلًا بعد مدة بسيطة وجد سليم عملًا في ورشة ميكانيكا.

كان الطفل يعاني كثيرًا من العمل والدراسة معًا نظرًا لصغر سنه وعدم وجود من يعينه على استذكار دروسه، فلم يكن لديه وقت للعب، بعكس أولاد خاله الذين كانوا يعيشون طفولتهم على نحو طبيعي جدًّا.

وعلى الرغم من قضاء سليم وقتًا طويلًا في العمل، لكنه كان يهتم بدروسه جدًّا، حتى إنه كان من المتفوقين؛ ما أثار غيرة وحقد زوجة الخال؛ لأن نجلها كان فاشلًا، وبمجرد فصل مدحت من الدراسة بسبب كثرة رسوبه وانقضاء جميع الفرص التي تتيح له دخول الامتحان لاجتياز الصف الثاني الإعدادي، طلبت سالي من سليم أن يركز في عمله فقط، وأن ينسى أمر الدراسة، لكنه أصر على استكمال دراسته، وحوَّل نفسه لنظام المنازل؛ لأنه كان يقضي معظم وقته في العمل؛ ما يعرقل انتظامه في المدرسة، فكان ينهي عمله ويحصل على قسط من الراحة ثم يبدأ رحلته الدراسية، أما مدحت فقد عمل بشهادة الابتدائية عاملًا في أحد المصانع.

اقرأ أيضًا: سلسلة «ع البحر».. القصة الثالثة: «يوم الوداع»

الاستقلال بذاته

بعد حصول سليم على الثانوية العامة بمجموع 97% اختار أن يلتحق بأي كلية في محافظة أخرى ليبتعد عن تسلط زوجة خاله وخنوع خاله وعجرفة ابن خاله، لكنه كان حزينًا لأنه سيفارق الفتاة التي أحبته وعطفت عليه، وكانت الشخص الوحيد الحنون عليه في بيت خاله؛ لذا اختار الالتحاق بكلية الآداب، وآثر أن يتخصص في المسرح، إضافة إلى أنه اختار أن يلتحق بجامعة الإسكندرية.

وبمجرد قبوله في الكلية توجه للإسكندرية بعد مواجهات عنيفة مع خاله؛ لأنه سيترك المنزل والعمل. وبدأ يبحث عن عمل في أي سينما أو مسرح، إلى أن وجد وظيفة موظف تذاكر في إحدى السينمات. وبعد الانتهاء من مشكلة البحث عن عمل كان يجب أن يجد شقة يقضي فيها الأربع سنوات مدة الجامعة. وقبل بداية الدراسة بأيام قليلة وجد سليم شقة بالاشتراك مع زملائه في الجامعة المغتربين مثله.

ظل سليم يعاني من ضغط العمل والمذاكرة طوال الثلاث سنوات الأولى من الجامعة؛ خاصة أنه كان يقبل العمل في السينما كومبارس في الأفلام ليحصل على أجر أعلى؛ فكان يتوجه سليم للكلية في الصباح ثم يتوجه إلى عمله في المساء إلى أن يبدأ العرض الأخير في تمام الواحدة صباحًا، ثم ينال قسطًا بسيطًا من الراحة ليراجع دروسه قبل التوجه إلى الجامعة في اليوم التالي.

وفي أثناء إجازة سليم الفاصلة بين السنتين الثالثة والرابعة تلقى سليم مكالمة من خاله عصام، وكان يبدو في صوته الحزن الشديد، طالبه الخال في المكالمة بضرورة التوجه للقاهرة لرؤية سالي زوجة الخال لأنها تحتضر وترغب في رؤية سليم لأمر ضروري.

بكى سليم وسارع على الفور لتلبية دعوة خاله. وبمجرد دخوله المنزل فرحت سهام كثيرًا، ولكن وجهها كان يبدو عليه الحزن، ولما سألها عن سبب حزنها ولماذا ترتدي ملابس سوداء؟ قالت له إن شقيقها مدحت توفي نتيجة حصوله على جرعة زائدة من المخدرات، وهذا الأمر أثر في صحة والدتها سالي، وأصابها بمرحلة متقدمة من السرطان الذي لم يستطع الأطباء السيطرة عليه لأنه انتشر في جميع أجزاء جسدها.

حزن سليم لحال بيت خاله وما أصاب أسرته. ربتت سالي على كتف سليم وقبَّلت رأسه وطلبت منه أن يسامحها، فهي مجرد بشر، فلماذا تتحمل هي وزوجها مسؤولية هذا الطفل الذي تركه والده وفكَّر في نفسه فقط، وأنها كانت تفكر في مصلحة نجليها.

بمجرد علمها من سليم بأنه سامحها لأن معاملتها له خلقت منه رجلًا يستطيع تحمل مسؤولية أسرة وأن يواجه أي صعاب بمنتهى السهولة، فاضت روح سالي إلى بارئها، وعانى عصام من حالة اكتئاب شديدة، ما جعل سليم يطلب منه أن يأتي معه إلى الإسكندرية ويقضي أيامًا معه في الشقة التي اشتراها بالتقسيط وأثثها. وبعد مرور شهرين طلب سليم من خاله الزواج من سهام فوافق الخال على الفور. وقد أصر سليم على أن يستمر عصام في البقاء معهما فهو خاله والعروس ابنته ولا ضرر من وجوده معهما حتى يجد من يرعاه.

بعد مرور عام من زواج سهام وسليم توفيت سهام؛ نتيجة حادث سيارة مروع أودى بحياتها قبل وصول الإسعاف التي ستوصلها إلى أقرب مستشفى لإنقاذ حياتها؛ ما أصاب الأب بالشلل لفقدانه جميع أفراد أسرته.

فالابن توفي بجرعة مخدرات زائدة عن الحد، والابنة توفيت في حادث شوَّه وجهها وجسدها، والزوجة توفيت ببطء؛ لأنها كانت تعاني مدة طويلة من المرض، ولم يستطع الأطباء إنقاذها. وقتها علم أن هذه هي نهاية الظلم الذي ظلمه عصام وسالي ومدحت لسليم.

أما الأب فقد فرَّت زوجته الثانية هاربة بأولاده الذين أنجبهم منها، بعد أن نقلت ملكية كل شيء كان يملكه الأب باسمها، وسحب أرصدته في البنوك، وعاد الأب دون أن يكون لديه أي أموال يعيش بها، وظل مدة يتجول في الشوارع يقتات من بقايا الناس، وبمرور الوقت من الذل والمهانة التي تعرض لها الأب قتل نفسه ومات منتحرًا.

اقرأ أيضًا: اقرأ أيضًا: سلسلة «ع البحر».. القصة الرابعة: «وادي الذكريات»

النهاية

عمر سليم الآن نحو 30 عامًا، وهو يعمل معيدًا في كلية الآداب قسم مسرح بجامعة الإسكندرية، إضافة إلى أدواره التي كان يؤديها على خشبة المسرح. تزوج سليم من زميلة له في المسرح، كانت جميلة ويتمناها الجميع، لكنها اختارت سليم لأنها علمت ما كان يعاني منه منذ صغره وكيف تحمل كل ذلك إلى أن وقف على رجليه وأصبح معيدًا في الكلية وممثلًا مسرحيًّا رائعًا، وهذا يعني أنه رجل يستطيع رعاية أسرته وأولاده.

أنجب سليم طفلتين هما سهام وذكرى، وكان يعاملهما أحسن معاملة، حتى إنهما كانتا شديدتي التعلق به، والآن زوجته حامل في الطفل الثالث، وقرر أن يسميه عصام على اسم خاله الذي توفي منذ مدة بسيطة في أحضانه.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة