يحكى أن النابغة الذبياني -والعهدة على الرواة وذمتهم، وهؤلاء ذمتهم واسعة كاتساع المسافة بيننا وبين عهد النابغة الذبياني-جلس يومًا تحت قبة من أدم (جلد) في عكاظ، وكان يومها هو الحكم الذي سيقرر من أشعر العرب.
يومها كان المتنافسون ثلاثةً من أشهر شعراء العرب قبل الإسلام، حسان بن ثابت والأعشى والخنساء.
ودار بين الجميع حوار وتسابق بالأشعار مذهل التفاصيل ومشوق الكلمات،لكن لما أنشدت الخنساء قصيدتها (قذى بعينك أم بالعين عوار)
إلى أن قالت:
وإن صخرًا لتأتمُّ الهداة به *** كأنه علم في رأسه نار
وإن صخرًا لكافينا وسيدنا *** وإن صخرًا إذا نشتو لنحار
عندها حكم لها النابغة بأنها أشعر العرب.
لسنا هنا في معرض الفصل بين ثلاثتهم، ولسنا في معرض الحديث عن الشعر، فذاك باب لو فُتِح لكان صعبًا إقفاله.
لكن التطرق إلى ذكر الخنساء وعلاقتها بأخيها صخر، يدفعنا إلى التساؤل، لماذا كانت تحبه بكل هذا العمق؟ لماذا رثته تلكالسنين كلها؟ ما سر تلك العلاقة الفريدة بين الخنساء وأخيها؟
بالعودة إلى الرواة الذين لا غنى عنهم، وعند دراسة تلكم الأيام لأنهم المصدر الوحيد للخبر، فلم يكن العرب حينها يدوّنون، بل كانوا يحفظون ويتناقلون فقط.
يقول الرواة إن والد صخر والخنساء مات، وترك لهما ميراثًا محترمًا من تجارة وإبل، لكن عادات العرب وأعرافها حينها كانت تمنع الخنساء من الحصول على أي نصيب من ذلك الميراث، فالمرأة لا ترث عند العرب في الجاهلية.
لكن صخرًا كان شهمًا جوادًا محبًا لأخته، فجمع كل الميراث وقسَّمه بينه وبين أخته مناصفة، له النصف ولها النصف، وهو ما كان بدعة جديدة في ذلك الزمان.
ولا تقف القصة على ذلك، فلا يزال في جعبة صخر شهامة.
كانت الخنساء متزوجة من ابن خالها، أو ابن عم لها -اختلف الرواة في تحديده-، وكان هذا الأخير سكيرًا ومنحرفًا، فصرف كل مال الخنساء في انحرافه حتى أفناه.
فلما لم يعد للخنساء مال، ذهبت إلى أخيها صخر تشكو إليه حالها، وما تلقى من ضيق العيش، فما كان من صخر إلا أن جمع كل ما لديه من ثروة، وقسّمها إلى نصفين، ودفع النصف إليها.
لكن زوج الخنساء يستمر على حاله، ويتلف ما جمعته من أخيها، وتعود هي إلى الأخ الذي لا يتركها، ويعيد تقسيم ما لديه من مال معها للمرة الثالثةضاربًا بذلك مثلًا لا يتكرر في الأخوة والتكافل وشد عضد الأخت بأخيها.
ولأن ما فعله صخر يعد ضربًا من الجنون في أعراف تلك الأيام، فإن الخنساء قدمت له مقابلًا مجنونًا هي الأخرى.
فقد خلدته بين أبياتها، وجعلت ذكره ينشد إلى يوم الناس هذا.
نعم، فقد خلد شعر الخنساء صخرًا، وجعله كأنه علم في رأسه نار، وأصبح رثاء المرأة الخالدة (الخنساء) أخاها صخرًا قصة تاريخية تتناقلها الأجيال، فلولا شعر الخنساء لما عرف صخر أصلًا، حتى لو كان أجود الناس وأشهمهم، لكن الشعر يخلِّد ذكر الناس كما يثبت ذلك التاريخ.
روعة
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.