«سر انتصار».. قصة قصيرة

سارت بخطوات متثاقلة تجاه الكرسي، وأسندت يديها على ظهره، ثم رفعت رأسها لتستأنف الشرح، غير أنه سرعان ما خانها صوتها، فخرج ضعيفًا لدرجة أننا لم نستطع سماعه، فما كان مني إلا أن وقفت في مكاني لأخفف العبء عن معلمتي «انتصار» وأكمل ما بدأت بشرحه في حصة اللغة العربية. كان ذلك لأنني اعتدتُ التحضير والفهم المسبق للمواضيع الدراسية، فلم أجد صعوبة في مقاسمة معلمتي دور الشارح في تلك اللحظة، كما أنني أُكنُّ لهذه المعلمة إعزازًا وإكبارًا عظيمين، فلم أرد أن تُضطر لمغادرة الفصل بسبب ضعف صوتها.

وما إن أنهيتُ الشرح، حتى رفعت معلمتي الطبشورة لتكتب على السبورة بخط كبير: «سمر ممتازة»، ولكم أن تتخيلوا كم كان مقدار فخري وفرحي بهذا التكريم كبيرًا، فعلى الرغم من أنها جاءت للعمل معلمة بديلة في الفصل الدراسي الأخير من مرحلتنا الثانوية، فإنها استطاعت في مدة وجيزة أن تترك أثرًا عميقًا في قلوبنا جميعًا، دون أي مقاومة منا.

لا يمكنني نسيان كيف نجحت معلمتنا «انتصار» في رفع معنوياتنا ونحن في أقصى حالات خيبة الأمل عقب استلامنا نتائج الثانوية للفصل الدراسي الأول، وخاصة أنا، فقد أصابني ما يُصيب بعض الطلبة المتفوقين من خوف في مواجهة هذا الامتحان المصيري ومن فقدان الثقة بالقدرة على تحصيل أعلى الدرجات؛ لذا حصلت على تقدير لم يرتقِ إلى مستوى طموحي، ما جعلني أشعر بتضاؤل فرصتي في الالتحاق بالجامعة الحكومية؛ إذ لم يكن في ذاك الوقت أيٌّ من الجامعات الخاصة في بلدنا.

بدأت معلمتنا «انتصار» في ذلك اليوم بالحديث عن الدور البارز للإرادة الإنسانية في مواجهة الصعاب وتجاوز إخفاقات الحياة. وفي محاولة منها لشحذ هممنا، شاركتنا قصتها الشخصية، إذْ فَرَضَ أهلها عليها الزواج في سن مبكرة، كما هي العادة في عائلتهم بتزويج بناتهم، ولكنها، بإصرار لا يتزعزع، قالت لهم: «أنا أريد شرطًا في عقد الزواج يضمن حقي في إكمال تعليمي العالي بعد الزواج».

وافق أهلها والزوج على ذاك الشرط، ظنًّا منهم أنها ستنسى الأمر؛ فهي لن تملك القدرة على التوفيق بين الدراسة وبين مسؤوليات البيت والأولاد. ولكن، لم تتراجع «انتصار» عن شرطها هذا حتى بعد إنجابها ابنها الأول، فتقدمت لامتحان الثانوية العامة، ونجحت بتفوق. وعندما أرادت التسجيل في الجامعة الأردنية، وجدت معارضة من زوجها، خوفًا من أن تشغلها الدراسة عن إنجاب المزيد من الأطفال، خاصة مع صعوبة التنقل اليومي من مكان سكنها في مدينة الزرقاء إلى مدينة عمّان، فما كان منها إلا أن وعدت بإنجاب المزيد من الأولاد. انتسبت معلمتي «انتصار» لكلية الآداب، تخصص اللغة العربية، لتتخرج بامتياز، وبعد ذلك حصلت على منحة لاستكمال دراستها في الماجستير حتى أنهت جميع متطلبات التخرج وبامتياز أيضًا.

نظرنا إليها بانبهار شديد، وسألناها كيف استطاعت تحقيق كل هذه الإنجازات على الرغم من مسؤولياتها العائلية، فأجابت بابتسامة واثقة:

- كان لدي هدف واضح لا أحيد عنه، وهو العمل في مجال تدريس اللغة العربية التي أحبها، وهذا ما ساعدني على التوفيق بين واجباتي العائلية وبين دراستي الجامعية، حتى أنني لم أكن لأُظهر تعبي لأي كائن كان، حتى لا يُقال لي: «اتركي الدراسة واعتني بشؤون بيتك وأولادك». وطبعًا، لا يمكنني نسيان دور حماتي في مساعدتي، فقد كنت أترك أطفالي تحت رعايتها في أثناء ذهابي إلى الجامعة.

ثم سكتت لحظة، لتقول بصوتها الجهوري الواضح النغمات، وبثقة عالية بالنفس:

- أحكي لكم سرًّا؟

استغربنا سؤالها هذا ولم نُجب، ولكنها أعادت كلامها:

- أحكي لكم سرًّا؟

أجبنا بـ"نعم" ونحن في حيرة من أمرنا، فقالت:

- أنا لا أشتري الخُبْز.

نظرنا إلى وجوه بعضنا البعض مستغربين قولها هذا، فسألناها:

- لماذا، هل أنتم لا تحبون الخُبْز؟

أجابت مبتسمة بتساؤل لطيف:

- هل يعقل أن يكون هناك بيت يشبع أهله دون أن يتناولوا الخُبْز؟

نظرنا إلى وجوه بعضنا مرة أخرى بحيرة أشد، ولم نَعِ جوابًا، ولكن معلمتنا «انتصار» سكتت قليلًا ونظرت إلينا بتمعن منتظرة جوابًا منا، ولما لم تسمع منا شيئًا، اقتربت منا قليلًا وخفضت من صوتها القوي، فأصبح في مستوى من يقول سرًّا، ولكن بلفظ سليم:

- أنا لا أشتري الخُبْز، أنا أعجن العجين ليلًا، وأخبزه فجرًا لعائلتي.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

رائعة صديقتي سمر
منورة المنصة
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.