ماذا لو كنت ممن يعشقون القراءة واقتناء الكتب وكونت لديك مكتبة في بيتك على مدار سنين عمرك المديد، تكون لك بمنزلة الواحة الخضراء في بيداء الحياة، تستعين بها على توازنك النفسي وعبور منغصات الحياة ولو للحظات؟ ثم فجأة تضطرك ظروف ما قهرية أو طوعية للتخلص من هذه المكتبة ببيعها أو إهدائها إلى إحدى الجهات أو المؤسسات العلمية، لا سيما إذا كنت من أرباب القلم والكتابة وتخشى عليها من الضياع أو من عدم وجود من يقدرها ويحافظ عليها؟
اقرأ أيضًا: في ذكرى رحيله.. الشاعر خالد نصرة صوت فلسطين ووجع الأمة العربية
مكتبة الأديب الكبير يحيى حقي
تواردت على رأسي كل هذه الخواطر والأسئلة وأنا أستمع على موقع يوتيوب الشهير لتسجيل صوتي لإحدى حلقات البرنامج الإذاعي القديم (زيارة لمكتبة فلان) الذي كانت تقدمه الإذاعية الكبيرة (نادية صالح) عبر إذاعة (البرنامج العام) في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. كان هذا البرنامج يُعدُّ من أمتع البرامج الثقافية في الإذاعة المصرية ومن كنوزها الرائعة، فكان يزور أسبوعيًّا إحدى مكتبات كُتَّابنا وأدبائنا الكبار في منازلهم للتعرف عليها، والاطلاع على ما تحويه هذه المكتبات من كنوز المعرفة ونوادر الكتب التي كوَّنت ثقافتهم ومعرفتهم وأثرت وجدانهم وإبداعهم الذي أمتعونا به.
وكان ضيف هذه الحلقة التي استمعت إليها هو الأديب الكبير (يحيى حقي)، هذا الرجل الذي يُعدُّ أيقونة من أيقونات الأدب العربي والمصري بإبداعه المتميز وحضوره الإنساني. فلو أنك استمعت إليه أو شاهدته أول مرة لا تملك إلا أن تحبه وتشعر معه بألفة لفرط تواضعه وأدبه الجم؛ فهو شخص هين لين ذو صوت حنون، يشعرك صوته وهو الحكاء العظيم بفرط طيبته وإنسانيته، كأنه أحد الآباء الكبار أو أحد أبناء البلد الطيبين.
تشعر في نبرة صوته بأجواء الحارة المصرية، أو كأنك تشاهد مُتَوضَّأ -مكان الوضوء- جامع السيدة زينب، فهو صاحب (كناسة الدكان) و(من باب العشم). وعلى الرغم من أصوله التركية وأرستقراطيته البادية، فإنه يجمع بين دماثة الخلق وروح ابن البلد، صاحب الدعابة المصرية والنكتة الحاضرة، فهو مشبع بالروح المصرية.
وهذا ما انعكس في كتاباته وأعماله الإبداعية، فظهرت هذه الروح في أعماله التي اتسمت بالطابع الشعبي، ولعل أشهرها روايتا (قنديل أم هاشم) و(البوسطجي) وغيرها من الأعمال، وهو إلى ذلك صاحب لغة ساحرة في كتاباته، مزج فيها بعبقرية بين الفصحى والعامية المصرية باقتدار لتظهر هذه اللغة روح وجوهر الشخصية المصرية وسمتها المائزة.
وأعود إلى البرنامج الذي كانت حلقته فريدة من نوعها مثل صاحبها، فقد بدأت الإذاعية الكبيرة (نادية صالح) الحلقة بمفاجأة كبيرة قائلة إنها تجلس الآن بين أطلال مكتبة ليس بها أي كتب، فرفوفها جميعًا خاوية؛ وذلك بسبب أن صاحبها الأديب الكبير (يحيى حقي) تبرع بها كاملة وهو حي إلى جامعة المنيا. ولم يتبقَّ له منها إلا أطلال مكتبة خاوية على عروشها.
ثم بدأت الإذاعية الكبيرة في الحوار مع الأديب الكبير للتحدث عما كانت تحويه المكتبة من أمهات الكتب والمخطوطات، وبدأ الرجل يتحدث بنبرة شجن حاول أن يخفف من وقعها بمداعباته التي يغلفها شجن خاص، واصفًا المكتبة بوضعها الحالي وصفًا بليغًا ومؤلمًا قائلًا: "أنتِ تزورين الآن المكتبة التي كانت، وهي تبدو الآن مثل واحد أهتم فاتح بُقه وبيقولك شوفي، خلعوا كل ضروسي"، في إشارة إلى ما كانت تحويه المكتبة من كتب.
ثم يمضي الأديب الكبير في وصف محتويات مكتبته من أقسام وعناوين للكتب، ذاكرًا أن الجزء الذي يقع على يمين مكتبته كان مخصصًا لتاريخ مصر الحديث، معللًا اهتمامه بهذا التاريخ بأنه لا يستطيع أن يبدأ الكتابة "إلا إذا شعرت بمصريتي وبتاريخي وما أنا؟".
وذكر أن تاريخ مصر الحديث يبدأ منذ بدء الحملة الفرنسية على مصر، ثم أشار إلى بعض هذه الكتب التاريخية لمؤرخين كبار أمثال أحمد تيمور، وعبد الرحمن الجبرتي، وأحمد شفيق، وغربال، وعبد الرحمن الرافعي، وغيرهم.
ثم يصف قسمًا آخر من أقسام المكتبة التي كانت وهو قسم القواميس ومراجع اللغة، ثم دولابًا آخر لدواوين الشعر، ذاكرًا أنه يحب للكاتب أن يكون على صلة وثيقة بالشعر الذي هو فن العرب الأول، مؤكدًا أنه أحب من الشعراء ابن الرومي والشريف الرضي وأبو العلاء المعري، وأنه احتفظ فقط من هذا القسم بكتاب "شرح ديوان المتنبي" لإبراهيم اليازجي. وأشار إلى بيت لأبي العلاء المعري يعجبه:
الفِكرُ حَبلٌ مَتى يُمسَك عَلى طَرفٍ
مِنهُ يُنَط بِالثُرَيّا ذَلِكَ الطَرَفُ
وَالعَقلُ كَالبَحرِ ما غيضَت غَوارِبُهُ
شَيئاً وَمِنهُ بَنو الأَيّامِ تَغتَرِفُ
ثم يشير إلى آخر جزء من المكتبة، وهو الذي كان يضم مجموعة كبيرة من كتب مشروع "الألف كتاب" المترجم، الذي كانت تتبناه المؤسسات الثقافية في الدولة، داعيًا إلى إحياء هذا المشروع الكبير مرة أخرى لما له من أهمية كبرى في ترجمة الفكر الإنساني.
ثم تحدث الكاتب الكبير عن مفارقة عجيبة، وهي أن مكتبته لا تحوي أي عمل من أعماله الإبداعية التي بلغت 17 كتابًا، رافضًا في تواضع أن تكون لها أهمية، ذاكرًا في مرارة أن كلهم -يقصد القراء والنقاد والمهتمين- لا يذكرون له سوى رواية (قنديل أم هاشم)، يعني (بقية كتبي مش مقروءة).
وحول سؤال للإذاعية (نادية صالح) عن ماهية إحساسه بعد أن تبرع بمكتبته لجامعة المنيا، أجاب بشجن: "كأنما انتُزِع قلبي مني". ثم أردف: "لكن شعرت بالنشوة والسرور بأمل أني رميت بذورًا بالحقل، لعل كتابًا يقع في يد طالب واحد ينتفع به، فهذا هو الأمل".
وفي سؤال آخر: "هل كان في نيتك الذهاب إلى الجامعة من وقت لآخر لمعرفة مصير المكتبة ومن يطلع عليها ومدى الاستفادة منها؟" أجاب حقي بعد زفرة أسى ببيت من الشعر يقول:
تلفتت عيني ومذ غابت عني الديار
ومتى خفيت عنها الطلول تلفت القلب
ثم قال: "لا أظن أنني أحب أن أمر عليها مرة أخرى"، ربما حتى لا تهيج أحزانه مرة أخرى، خاصة أنه أصيب بضعف النظر ولم يعد يقرأ كما كان، مشيرًا إلى أن إصابته بضعف النظر كانت أحد أسباب قيامه بإهداء مكتبته لجامعة المنيا.
ثم يجيب حقي عن سؤال حول كيفية تكوينه لمكتبته قائلًا: إن معظمها من الـ "ساكند هاند"، أماكن بيع الكتب القديمة في مصر وغيرها من الدول العربية والأجنبية.
ثم يشير حقي في آخر البرنامج إلى بعض النصائح للشباب وللآباء لحث أبنائهم على القراءة، قائلًا: "إن أول ما قرأت لم أقرأ في كتب الأدب بل في كتب معارف متنوعة". ووجه الشباب بأن يكون لهم هوس بالقراءة قائلًا: "عندما تأخذ كتابًا وتنفض عنه التراب لتقرأه فلست أنت الذي تنفض عنه التراب، بل هو الذي ينفض عنك التراب".
ثم يوجه حقي نصيحة إلى الآباء: "إذا رأيت ابنك ينكب كثيرًا على القراءة، فخذ من يده الكتاب وقل له: تعالَ، آخذك إلى الحديقة أو إلى القناطر أو أي مكان. يجب أن يكون الاتصال بالحياة هو الجانب الأصلي، وأن تكون القراءة هي الجانب المعين الذي يساعد على تكوين الشخصية والثقافة".
مؤكدًا أن هناك تحولًا في العصر الحديث من الكلمة المقروءة إلى الكلمة المسموعة، لكن يظل الكتاب هو الأساس.
الشاهد أن (أشجان عضو منتسب) -وهو بالمناسبة عنوان مقال ليحيى حقي- أشجان صادقة في التعبير عن اضطراره إلى إهداء مكتبته لجامعة المنيا لضعف بصره أولًا، ولضمان مظنة الحفاظ عليها والانتفاع بها من جانب من يظن فيهم ذلك. ولعل هذه الأشجان ليست خاصة بصاحب (قنديل أم هاشم)، بل هي أشجان عامة لدى كل من يمتلك مكتبة كونها على مدار سنين عمره، وكل كتاب فيها يشهد على وقت من أوقات حياته، فهي بمنزلة عمره الحقيقي الذي عاشه.
اقرأ أيضًا: في ذكرى رحيله.. عمر أبو ريشة شاعر حلق بالشعر فوق صخور الأيدولوجيا
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.