زمن «اللا أحد».. كيف تآكلت الهوية الفردية في عصر المحتوى السريع؟

في عصر اللافتات المتحركة والقصص الزائلة، حيث تُستهلك الأفكار كما تُستهلك الوجبات السريعة، صار السؤال القديم عن «من أكون؟» يتراجع أمام سؤالٍ أكثر إلحاحًا: «كيف أُرضي الخوارزميات؟».

نحن الآن لا نعيش فحسب في زمن السرعة، بل في زمن الاختزال المفرط، حيث تُكثِّف التجربة الإنسانية كلها في 30 ثانية، وتُقاس قيمتها بعدد المشاركات، لا بعمق الأثر. في هذا العصر، لا أحد يريد أن يسمع قصتك إذا لم تبدأ بـ «في دقيقة واحدة فقط»!

أصبحنا نعيش زمن «اللا أحد»، حيث يُعاد تدوير الشخصيات والمحتوى والهويات حتى تبدو كأنها مستنسخة من قالب واحد: الطريقة نفسها في الحديث، الضحكة المعدلة نفسها بالفلاتر، «الترند» نفسه الذي يحرك الجميع كعاصفة بلا مركز. لم تعد هناك حاجة للتمايز، بل أصبح الاختفاء في القطيع هو وسيلة البقاء.

الهوية الرقمية، التي كنَّا نظنها امتدادًا لذواتنا، تحولت إلى مرآة مشوشة تعكس ما يريد الآخرون أن يروه، لا ما نحن عليه فعلًا. تخلينا عن العمق مقابل القابلية للمشاركة، واستبدلنا التجارب الأصيلة بردود الأفعال السريعة. صار النجاح يُقاس بعدد الإعجابات، لا بجودة الفكرة.

أتساءل كـ «مدمنة كتب»: هل كنا لنقرأ نيتشه أو غسان كنفاني لو كُتبت أفكارهم كـ «ريلز» مدتها 30 ثانية؟ هل كانت مدن الملح ستلقى رواجًا لو تم تلخيصها في «بوست ترند» عن الغربة؟

المحتوى السريع سلخَ التأمل من التجربة الإنسانية، وأحلَّ مكانه حالةً دائمة من اللهاث خلف «الجديد». لا وقت للفهم، فقط وقت للتمرير السريع. وهذا، في جوهره، تفريغ من المعنى. ومن دون المعنى، ماذا تبقى لنا نحن البشر؟

إن أكثر ما يُرعبني اليوم ليس زوال الكتب أو الفلسفة أو الفن، بل زوال القارئ الحقيقي، المتأمل، المتسائل. أن نصبح مجرد متلقين لما يُقرره «الترند»، دون أي مقاومة داخلية أو رغبة في الغوص إلى العمق.

ربما حان الوقت لثورة صامتة... ثورة تعيد الاعتبار للبطء، للتفكير، للتعقيد الجميل في زمن البساطة المبتذلة. أن نتذكر أن الإنسان لا يُقاس بما ينتجه من ضوضاء، بل بما يحمله من أسئلة.

فلتكن القراءة مقاومة.

والتأمل تمردًا.

والبطء شجاعة.

أكتب هذه الكلمات ولا أدَّعي أنني خارج هذه الدوامة. أنا أيضًا أُغرَى بالضوء الخاطف، أُجرب أن أكون «مرئية» بما يكفي لأُسمع. لكن شيئًا في داخلي ما زال يتمسك بتلك اللحظة الأولى التي فتحتُ فيها كتابًا وشعرت أنني أتنفس للمرة الأولى. ذلك النبض الخافت، الذي لا تلتقطه كاميرا ولا يحتفي به جمهور، هو ما يربطني بذاتي الحقيقية.

لسنا آلات محتوى، ولسنا مجرد أرقام في تحليلات المشاهدات. نحن أرواح تبحث عن معنى، حتى لو وسط ضجيج لا يعرف الصمت. وإن كان على هذه الكلمات أن تندثر في خضم الطوفان الرقمي، فليكن. يكفيني أنها خرجت من صدري وأنا بكامل إنسانيتي.

لعلَّ أحدهم، ذات يوم، يقرأ هذا ويشعر أنه ما زال هناك من يحاول أن يكون شخصًا في زمن «اللا أحد».

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.