في الزمن الذي تراجعت فيه النخب الفكرية إلى الظل، وتقدَّم فيه «الترند» إلى منصة الحكم الثقافي والاجتماعي، لم يعد السؤال: من يملك الحقيقة؟ بل صار: من يملك التفاعل؟
في الماضي القريب، كانت الشرعية تُمنح بالكفاءة، بالتراكم المعرفي، وبالقدرة على التأثير العميق طويل الأمد. أما اليوم، فإن شرعية الوجود تُقاس بعدد «اللايكات»، وشرعية الرأي تُمنح بمنطق «الترند»، وشرعية الخطاب لا تُستمد من عمقه، بل من قابليته للانتشار. لم يعد معيار القيمة هو «ما يُقال»، بل «كم مرة قيل» و«كم مرة أُعجب به».
إننا نعيش عصر «الشرعية الشعبية الرقمية»، حيث تصبح الجماهير الافتراضية — وليس المؤسسات أو النخب — هي من تمنح شهادات الوجود والاعتراف. هنا، لا مكان للمفكرين إذا لم يتقنوا فن صناعة المحتوى، ولا حضور للمبدعين إذا لم يلتقطهم خوارزم حسابي يقرّر فجأة أن يسلّط عليهم الضوء.
من شرعية العقل إلى شرعية الزخم
لقد تحوَّل العقل من مرجع سلطوي إلى صوت باهت وسط ضجيج الصورة. في هذا السياق، لا يُسأل الكاتب أو المتحدث: ما مدى صوابك؟ بل يُسأل: كم عدد متابعيك؟ كم مرة شارك الناس فكرتك؟ أصبح المفكر مهددًا بالانقراض، ما لم يتحول إلى «مؤثر» في عيون المنصة.
ولعل أكثر ما يثير القلق في هذه المرحلة هو أن الجماهير، رغم اتساعها الرقمي، لم تعد تبحث عن النور بل عن التسلية، ولم تعد تتبع المفكر بل «تتابع» من يثير الجدل، أو يسوّق لسطحية مغلّفة بعبارات رنانة.
إقصاء النخبة باسم الديمقراطية الرقمية
من المفارقات العجيبة أن هذا العصر، الذي يرفع شعار «صوت الجميع»، هو ذاته الذي يمارس أقسى أشكال الإقصاء: الإقصاء الصامت. فالفكر المعمَّق لا يُحظر، لكنه يُهمَّش. لا يُهاجم، لكنه يُغرق في بحر من السطحية والثرثرة اللا منتهية.
وهكذا، تتحوَّل المنصة إلى مسرح، والجمهور إلى قاضٍ، والخوارزمية إلى مخرج يقرر من يُبقيه على الخشبة ومن يسحب منه الميكروفون.
من النخبة المزعومة إلى نخبة الترند
المفارقة أن النخبة لم تختفِ تمامًا، بل أُعيد إنتاجها. لكن هذه المرة بصيغة جديدة: نخبة رقمية شعبوية. مؤثرون يُصنَّفون اليوم كمرجعيات، لا لأنهم يملكون فكرًا، بل لأنهم يملكون جمهورًا. وهكذا، تتحول العلاقة بين المتلقي وصانع المحتوى إلى علاقة انفعالية، تقوم على التكرار والإدمان، لا على الإقناع أو التأمل.
هل انتهى عصر السلطة التقليدية؟
ربما لم ينتهِ، لكنه فقد هيبته. المؤسسات لم تعد المصدر الوحيد للشرعية، بل صار عليها أن تتفاوض مع منطق «اللايك». حتى الجامعات، ومراكز البحوث، والهيئات الثقافية، تجد نفسها مجبرة على النزول إلى «الميدان الرقمي» لتصوغ خطابها بما يناسب منطق المنصة.
لقد تغيَّر ميزان الشرعية: من السلطة الرمزية إلى الشرعية العاطفية، من العمق إلى الأداء، من التأمل إلى الإثارة.
بين زيف الشرعية وخطر الاستسلام
ما يحدث ليس مجرد تغيير في أدوات التعبير، بل في مفهوم الحقيقة ذاته. فحين تصبح الحقيقة ما يصدّقه الأغلبية، وتُلغى الأصوات المغايرة لأنها لا تحقق تفاعلًا، فإننا أمام لحظة مفصلية: هل نبني وعيًا جديدًا يساير منطق العصر دون أن نخسر العقل؟ أم نستسلم لمنطق السوق الرقمي ونفقد البوصلة؟
الحل لا يكمن في الحنين إلى عصر النخبة، ولا في الاستسلام لحكم «اللايك»، بل في السعي إلى تجسير الهوة بين القيمة والانتشار، بين الفكر والجمهور، بين الشرعية الحقيقية والشرعية الرقمية.
إننا لا نواجه نهاية العقل، بل اختبارًا جديدًا له: هل يستطيع أن يعيد اختراع نفسه؟ أن يخاطب الناس دون أن ينزلق إلى التفاهة؟ أن يجد شرعية جديدة تحفظ له مكانه في زمن يُديره من يفهم الخوارزميات لا من يفكك الأفكار؟
ذلك هو التحدي. وذلك هو زمننا.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.