ريحانة.. حين صار الحب جريمة

ليس كل ما تراه الأعين يعبِّر عن الحقيقة، وليس كل من نُعت بالجنون فقد عقله، فقد يكون بعض المجانين أكثر عقلًا من الذين يحكمون عليهم.

حين جاءت ريحانة إلى المنصورة، لم تكن تعلم أن أقدامها ستطأ أرضًا لا تعرف سوى القيل والقال، وأن العيون ستلاحقها كما تلاحق الغرباء في الأزقَّة الضيقة. وكانت فاتنة الجمال، بيضاء البشرة، واسعة العينين، لها من اسمها نصيب، لكنَّ الألسنة لم تذكر جمالها، بل لم تذكر إلا وصمة واحدة: "مجنونة!".

لم يكن أحد يعرف كيف بدأ هذا الوصف، لكنه سار بين الناس كما تسري النار في الهشيم. قالوا إنها حاولت قتل ابنها، وقالوا إنها تهذي بكلمات غامضة في الليل، وإن أحدهم سمعها تضحك وتبكي في الوقت نفسه. لكنها كانت تعيش وحدها، ولم يكن هناك من يسألها أو يقترب منها ليعرف الحقيقة.

ظللت أسمع عنها حتى جاء اليوم الذي وقفت فيه أمامي. كان ذلك في إحدى الليالي الباردة، حين طرقت باب شقتي في الحي الذي أقطنه. حين فتحت الباب، كدت أصرخ من الرعب. كان وجهها شاحبًا، وشعرها مبعثرًا، وعيناها متورمتين من البكاء. بدا لي للحظة أنها خرجت من كابوس لم ينتهِ بعد، لكن قبل أن أستعيد أنفاسي، انفجرت في البكاء وقالت بصوت مخنوق:

أنا لست مجنونة! أقسم لك أنني لست مجنونة!

لم أدرِ بم أردُّ عليها، لكنَّ عينيها كانتا تحملان من الألم ما يفوق كل الكلمات. ظلَّت تنتحب، ثم رفعت رأسها وقالت بصوت أقرب إلى الهمس:

"سأحكي لك القصة...".

ثم بدأت تروي، وكانت كلماتها كالجمر الذي يحرق ببطء.

وُلدت ريحانة في قرية صغيرة بصعيد مصر، حيث لا صوت يعلو فوق صوت العادات والتقاليد، وحيث الفتاة لا تُسأل عمَّن تحب أو عمَّن تختار. وحين بلغت العشرين، جاء ابن عمها ليطلب يدها، كما كان متوقعًا، لكنها رفضت. لم يكن الأمر هيِّنًا، فالفتاة في قريتها لا ترفض ابن عمها، لكن قلبها كان مع رجل آخر، رجل أحبته بصدق، وأحبها كما لم يحب أحد.

قاومت ريحانة، ووقفت في وجه العائلة كلها، وأخيرًا، تزوجت من تحب. لكنَّها لم تكن تعلم أن هذا الزواج لن يكون سوى بداية العذاب.

بعد زواجها، أصبح ابن عمها يطاردها كظلها، يرسل إليها التهديدات، يُحرِّض الناس ضدها، يجعل حياتها جحيمًا. لم تجد مأوى آمنًا، ولم تعرف أين تسكن، حتى أُغلقت كل الأبواب في وجهها.

وحين اشتدَّت الأمور، لم يكن أمامها خيار سوى الفرار. خرجت في ليلة باردة، تحمل طفلها بين ذراعيها، وزوجها يمشي بجانبها، يبحثان عن مأوى، عن سقف، عن جدار يقيهما برد الليل. لكنَّ كل الأبواب أُغلقت، وكل الأعين تبرَّأت منهما، فلم يجدا مكانًا سوى الشارع.

في تلك الليلة، نامت ريحانة على الأرض، تلتحف السماء، تضع طفلها الصغير على صدرها، وتحاول أن تمنحه الدفء الذي حرمه منه العالم. نظرت إلى زوجها، ورأت في عينيه العجز، فابتسمت له، وكأنها تخبره أن الحب وحده يكفي، حتى لو صار العالم كله ضدَّهما.

لكن العالم لم يرحمها. لم يفهم أحد معاناتها، لم يسألها أحد كيف وصلت إلى هنا، بل اكتفوا بإطلاق حكمهم القاسي: "مجنونة!".

حين انتهت من حديثها، كانت دموعها قد جفَّت، وبقيت عيناها شاخصتين، وكأنها لا تزال تعيش المأساة ذاتها. نظرتُ إليها، ولم أجد في ملامحها أثرًا للجنون، بل رأيت امرأة كُتب عليها أن تدفع ثمن الحب في زمن لا يؤمن إلا بالقسوة.

لم أستطع أن أقول شيئًا، فقط بقيت أنظر إليها، وأتساءل: أيهما أكثر جنونًا؟ هذه المرأة التي فضَّلت الحب والرحمة؟ أم المجتمع الذي أطلق عليها هذا الحكم؟

كانت نظرات ريحانة تحمل شيئًا يتجاوز الألم المعتاد، وكأنها لم تعد تتوقع شيئًا من أحد، لا شفقة ولا إنصافًا. كانت تحدِّق في الفراغ، كأنها تنتظر إجابة لم تأتها قط. شعرتُ بأن الصمت هو الشيء الوحيد الذي يمكنني أن أقدمه لها، لكنه لم يكن صمتًا مريحًا، بل كان مشبعًا بالأسئلة التي لا إجابات لها.

بعد لحظات، زفرت ريحانة زفرة طويلة، كأنها تلقي عن كاهلها حملًا أثقل مما يمكن أن يتحمله بشر، ثم قالت بصوت هادئ، لكنه يحمل من المرارة ما يجعل الحجر يبكي:

"لم أطلب شيئًا سوى أن أعيش بسلام، لكن يبدو أن السلام رفاهية لا تُمنح لمن اختاروا الحب".

كنت أريد أن أخبرها أن العالم ليس بهذه القسوة، لكنني لم أجد في نفسي القدرة على الكذب. كنت أريد أن أطمئنها بأن العدل سيأخذ مجراه، لكنَّني أعرف أن الظلم أكثر رسوخًا في هذا العالم من أي شيء آخر.

قلت لها بصوت خافت، كأنني أخشى أن يخذلني كلامي:

"وماذا ستفعلين الآن؟".

ابتسمت ابتسامة باهتة، وقالت:

"لا أدري... كنت أظن أنني وصلت إلى نهاية الطريق، لكن يبدو أنني ما زلت أبحث عن بداية جديدة".

ثم قامت، كأنما استردت قوتها، نظرت إليَّ نظرة طويلة، ثم قالت:

"أردت فقط أن أروي قصتي لشخص واحد، حتى لا يظل العالم كله مقتنعًا بأنني مجنونة".

ثم استدارت ومضت، تاركة خلفها صمتًا ثقيلًا، وقصة لن ينساها عقلي بسهولة.

مضت أيام، ثم أسابيع، ولم أرَ ريحانة بعدها. كنت أبحث عنها بعينيَّ كلما مررت في الشوارع، لكنَّها اختفت كما لو أنها لم تكن يومًا هنا. تساءلت كثيرًا عن مصيرها، ترى هل وجدت أخيرًا ذلك المكان الذي تأمل أن تعيش فيه بسلام؟ أم أنها ما زالت تهيم على وجهها في مدينة لا تمنح الغرباء سوى القسوة؟

لكن ما كنت متيقِّنا منه تمامًا، أن ريحانة لم تكن مجنونة. المجانين الحقيقيون هم الذين أجبروها على الفرار الذين حرموها من بيت يأويها الذين حوَّلوا الحب إلى جريمة، والرحمة إلى ضعف.

أما ريحانة، فقد كانت أعقل من الجميع.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة