اتفق أغلب السوسيولوجيين وذوو الاهتمام بدراسة المجتمع -على اختلاف أنماطه- على أن دور الفرد في هذا المجتمع مرتبط أساسًا بالتنشئة الاجتماعية التي تلقاها التي تؤدي دورًا مهمًّا في تعليم الأفراد وتحديد أدوارهم وتأطير سلوكياتهم، بمجموعة من الرموز والمعايير التي تحرص الأسر على تلقينها لأبنائها، وأيضًا بما تم الاتفاق عليه من قوانين وأعراف لتيسير العلاقات الاجتماعية.
والفرد منا يعمل على استيعاب الدور أو الأدوار المتوقعة منه أولًا، ثم يحاول بتعامله مع الآخرين إدخال بعض التعديلات عليه وفقًا للتجارب والخبرات التي اكتسبها خلال مراحل حياته العمرية، وأنماط العلاقات التي كان جزءًا منها أو فاعلًا فيها. وهذا ما تفسره النظرية القائلة إن الأفراد يدخلون مع بعضهم بعضًا في علاقات تبادلية، أو ما يسمى "نظرية التبادل الاجتماعي".
فأفراد المجتمع -بمختلف أعمارهم ومستوياتهم- يتبادلون العواطف والمشاعر والآراء والأفكار والمصالح والأموال وغيرها؛ سعيًا منهم إلى تحقيق أكبر قدرٍ من الربح والنجاح المعنوي، العاطفي أو المادي.
ويقول السوسيولوجيون بضرورة وجود نظريات فكرية مؤطرة للفعل الاجتماعي للفرد، يكون لها دور كبير في تحديد سلوكيات الأفراد، وطبيعة علاقاتهم الاجتماعية، وأن تفكك البناء التحتي للمجتمع بسبب الاضطرابات التي يعاني منها أحيانًا كثيرة سيؤدي إلى تفكك مستوى الفكر المؤطر للأسرة المجتمعية، وبذلك كسر ذلك الاتفـاق الجماعي المشترك حسب نظرية التبادل الاجتماعي.
وإن انعدام النظريات أو الفكر المؤطر للمجتمع يعني انعدام الروابط التي تستطيع أن تعيد للمجتمع توازنه.
في حالتنا اليوم بصفتنا (مجتمعًا، أمة..) التي بطبيعة الحال لا تسرُّ غيورًا ولا يقبل بها عاقل، يظهر عجز (مفكرينا ومنظرينا) باستعصاء تحديد اتجاه المشكلة وطبيعتها أو في الأقل اختلفوا في ذلك اختلافا كبيرًا.
فقد اختلفنا في تسمية الفاعل المسؤول عن حدوث المشكلة، وتجنبنا -عمدًا- جبنًا وضعفًا أو تقية، طرح الأسئلة الصريحة:
من الذي سبب المشكلة ويزيد استمرارها؟ (الفرد أم المجتمع أم..)
ما اتجاه المشكلة، من الخارج أم من الداخل، بعيدًا عن نظريات المؤامرة وعقدة الأجنبي على الرغم من تأثيرها؟
ماذا ينتظر المنظرون وأصحاب الرأي لينتصروا لمواقف صريحة تهتف بحق فئات من المجتمع مكسورة معنويًّا ونفسيًّا، ولا تملك قوة ولا نفوذًا اجتماعيًّا؟ صحيح، هذه الفئات غير منزهة أيضًا عن مسؤوليتها عن الحالة المزرية التي وصلتها، لكن لا بد من وجود فاعلين آخرين لهم اليد الأولى والطولى في الأزمة، ويمتلكون أيضًا حلولًا لها.
يجب أن يتخلى الجميع عن سلوك النعامة بدفن رأسه في التراب، وكأن المسألة لا تعنيه والموضوع لا يهمه.
وإلا سنجد أنفسنا، ولو بعد حين، ضحايا النظرية الصراعية لـ (كارل ماركس) التقليدية التي تؤكد الدور الاستبدادي للقوة الاقتصادية والسياسية في فرض رأي أشخاص وفئة معينة على الآخرين، على اعتبار أن مفهوم الصراع الطبقي نتيجة حتمية لحركة التاريخ "إن تاريخ أي مجتمع، ليس سوى تاريخ صراعات طبقية ".
أو تجد في فكر "عبد الرحمن الكواكبي" (صريع الحرية) سبيلًا للتخلص من الظلم والاستبداد، وهو النموذج الفريد للإنسان الذي يرفض الظلم، ويأبى أن يعايشه، فضلًا على أن يعيش تحت سيطرته وتحكمه؛ لأن -حسب الكواكبي- في معايشة الظلم ظلمًا للنفس، فضلًا على ظلم الآخرين.. ظهر هذا في كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" الذي تناول فيه الفساد السياسي والفكري عند الشعوب المسلمة، وأثره السلبي في الأمة، ولا يزال هذا الكتاب أساسًا قويًّا ومهمًّا لفهم طبيعة علم الاجتماع السياسي، وأصل الداء العُضال في منطقتنا العربية.
إننا في أمسِّ الحاجة إلى استحضار روابطنا البيئية والروحية القائمة على فكرة المجتمع المترابط والأمة الواحدة والعالم الموحد، حيث ترتبط جميع أنماط الحياة بجوهر مشترك، وحيث يسود شعور سامٍ بالوحدة والعمق يدعونا إلى التفكير في الأسئلة الأساسية عن الحياة والإنسانية ومكانتنا في الكون، مثلما يعبر عنها مفهوم الـ"أنيما موندي" Anima mundi وهو عبارة لاتينية تعني حرفيًا "روح العالم"، فقد ربطته الفلسفة القديمة بوصفه فكرة روحية أو ميتافيزيقية مفادها أن الكون كله له روح أو مبدأ حيوي يربط بين جميع أنماط الحياة والوجود كما في الفلسفة الأفلاطونية.
فالأنيما موندي هي الروح الكونية التي تحرك الكون، وتجعله حيًّا ومتناغمًا.. وهذا ما يحتاج إليه العالم اليوم؛ روح جماعية إنسانية يتعايش فيها الجميع، وتنعدم فيها كل مظاهر الاستبداد والظلم والأثرة، ويسود العدل والطمأنينة والحياة السعيدة ببهائها وصفائها.
المراجع
- "مقدمة في سوسيولوجيا الحياة اليومية": عبد الرحيم العطري.
- "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" عبد الرحمن الكواكبي.
- أفكار عالم الاجتماع الأمريكي تالكوت بارسون.
- وظيفة المقولات النظرية في تفسير حدوث الظواهر الاجتماعية (نماذج تطبيقية): د. حسام الدين فياض.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.