"روح الحداثة" و"واقع الحداثة" في كتابات طه عبد الرحمن

عندما نكون بصدد توطين الحداثة في الأرض العربية فإن الأمر لا يتعلق بفصل بين التحديث والحداثة كونها تمييزًا يبرز التناقض الصارخ بين واقع العرب وفكرهم. صحيح أن الواقع خضع عنوة وطبع مع مؤديات الحداثة، وأن التفكير لا زال عالقًا في اللحظة الماضوية. لكن عندما ندعي أننا نحمل فعلًا هما نهضوية ونحفر بأظفارنا عن مخرج من مأزق التخلف واللحاق بركب الحداثة، فعلينا أن نميز بين الحداثة كونها تيمة كونية تطبع العقل وبين الحداثة في سياقها الجغرافي والزماني.

إن كل خطاب حداثي اليوم لا يخلو من الحديث عن تأصيل بعد القيم الحداثية واتباع النموذج الحديث في شخص الغرب، باعتباره الأرضية التي شهدت ميلاد الحداثة، لكن الحداثة في أصلها لم تتأسس على فكرة تحديث الواقع أو من هذا الهدف، ولكن انطلقت من غاية تحديث الفكر وأكثر من ذلك اقتلاع النموذج التقليدي.والنموذج بما هو فكرة بإرساء التفكير الذاتي بدله؛ لذلك فإن حديثنا اليوم عن وطن حداثي يناور الغرب الحداثي، ويلحق بركبه كما يعبر عن ذلك أنصار هذا الطرح، يجعلنا نتساءل: هل الغرب اليوم غرب حداثي؟ وهل يكفي أن نرسخ قيم الحداثة في الأرض العربية لنحصل مجتمعات حداثية؟

الحداثة في أفق مغاربي: طه عبد الرحمان نموذجًا

في  مساءلتنا  الحداثة والعلاقة مع الثرات -كونه فاعلًا ضروريًّا في عملية التحديث- في أفق مغاربي. لا يمكن أن لا نستحضر عبد الله العروي كونه ممثلًا للطرح المعارض للتراث بالقطع معه. وموقف محمد عابد الجابري التوفيقي بين التراث كونه ميكانيزم نهضوي وبفكر الغرب بصفته ضرورة يطرحها السياق الراهن.

ثم موقف طه عبد الرحمان  الذي يدفعنا مباشرة لتصنيفه مع السلفيين المعادين للحداثة المستقاة من النموذج الغربي،حيث المنبع الصافي للفكر الحداثي. ويا له من حكم متسرع يعرب عن لا حداثة الموقف!

الحداثة في فكر طه عبد الرحمان

إن القارئ لطه عبد الرحمن قراءة فاحصة من السهل عليه أن يلاحظ أنه كان أكثر حداثة من غيره؛ لأنه سعى لتوطين الحداثة في الفكر العربي توطينًا حداثيًّا. ومساءلة الواقع العربي بمفاهيم عربية وماضٍ عربي دون الاستناد إلى أية مرجعية.

 لم يكن موقف طه عبد الرحمن داعيًا للعودة للثراث بحذافيره والتفكير في حدوده، ولكن بالمقابل دعا للتفكير في الحداثة وفقًا لأسسها وطرائقها، و لتجديد الأصيل بالنظر إلى شروطه بدلًا من التهافت لاستقاء دلائل نموذج أجنبي ومظاهره؛ إيمانًا منه بأنه لا يمكن لنبتة أن تُزرع في بيئة غير بيئتها إلا إذا توفرت لها التربة الخاصة، وشروط بيئتها الأصلية نفسها.

فهل يمكن أن نتحدث اليوم عن شروط غربية مماثلة وظرف زمكاني مطابق للذي توفر للحداثة الغربية حتى تُؤتي أكلها؟

في بداية كتابه "روح الحداثة" يتحدث عن الثورة المفهومية، وإشكال إدخال المفاهيم المنقولة على المفاهيم المأصولة كونها عقبة تواجه المشروع العربي النهضوي.

فالفكر العربي أمام اجتياح مفاهيمي أو لنقل زحف مفاهيم دخيلة على المفاهيم الثقافية العربية، فلا مجال للتملص منها وإبعادها؛ لأنها بدأت تتدخل في تشكيل الواقع العربي، ومن المرجح أن تصبح في المستقبل شرطًا من شروط فهمه. من ثم كان الحل هو طرح مسألة إبداع مفاهيم تتفجر من الواقع العربي كونه طريقة لإرساء معالم الحداثة الأصيلة.قائلًا: "والواقع أن المجتمع الإسلامي ما لم يهتدِ إلى إبداع مفاهيم أو إعادة إبداع مفاهيم غيره، حتى كأنها من إبداعه، فلا مطمع في أن يخرج من هذا التيه الفكري الذي أصاب العقول فيه". 

تمامًا كما يعرف دولوز الفلسفة بوصفها صناعة لمفاهيم تطرح نفسها بنفسها، بالقول في كتابه المشترك مع غوتاري "ما الفلسفة":

"لكن المفهوم لا يُعطَى وإنما يبدع، وهو إبداع لا يُشكَّل، وإنما يطرح نفسه بنفسه طرحًا ذاتيًّا".

"Il se pose(le concept) lui_même , en lui_même""autoposition"

فالمفاهيم الحية التي تكفل استمرارية الفكر وحيويته يجب أن تُطرح من تلقاء ذاتها، وتتمخض من صميم واقعها لا أن تقتبس.

وأن تكون حداثيًّا من منظور طه عبد الرحمن لا يعني بالضرورة أن تكون علمانيًّا أو ديمقراطيًّا، ولكن أن تفكر بذاتك في ذاتك وفقًا لشعار الأنوار (sapere aude). وبقول كانط: "تجرأ على استعمال عقلك الخاص".

لم تبدأ الحداثة تاريخيا بمحاولة لإرساء نتيجة من نتائج التفكير الناجح في حضارة ما، ولكنها بدأت عندما تمت الثورة على السابق بكل تجلياته.

لذا فالرهان هنا يتعلق بحداثة على المستوى الميثودولوجي أكثر منها حداثة على مستوى المظاهر. حداثة تأصيل لا توطين أو ترسيخ. عندما تحدث طه عبد الرحمان عن مبادئ الحداثة الثلاثة (الرشد - النقد - الشمول) عرف الرشد بأنه انتقال من حال القصور إلى حال الرشد.

ولعل هذا التحديد يجعلنا نستشف أن الوصول لحالة الرشد يقتضي منا تطبيق جواني للحداثة يثور في وجه كل نموذج خارجي. وأن التحرر من وصاية الآخر لا يكون إلا بالتوقف عن الاعتماد عليه وعلى ثمرات جهوده. "فكل أمة هي بين خيارين اثنين: إما أن تصنع حداثتها الداخلية أو لا حداثة لها".

والحال أن أي فكر يقوم على فكرة النموذج وينطلق من مرجعية سواء كانت هذه المرجعية تاريخية أو غربية أو تراثية فهو أمر يتنافى مع الأصل في الحداثة. حتى إن اقتضى الأمر أن ننتقد طه عبد الرحمان بدوره و نواجه بسلاحه. كما نواجه اليوم أخلاق الغرب بالمبادئ التي سعت الحداثة  الغربية لإرسائها.

فشتان بين "روح الحداثة" و"واقعها"، والتصورات التي تنصب نفسها تصورات نهضوية بالحداثة العربية لا شك أنها تنم عن فكر قاصر لم ينضج بعد. ولا يمكننا سوى أن نسقط هذا على أي موقف يستند إلى مرجعية، ويسمح لها بأن تمارس عليه الوصاية.

لهذا يمكن القول إن طه عبد الرحمن مفكر أعمق من الجدل الذي يدور حوله الذي يُبنى انطلاقًا من ممارساته في حياته الشخصية فحسب، صحيح أنه يبدو للوهلة الأولى منحازًا للمحلية ورافضًا للآخر.

لكن هذا الانحياز الظاهري للمحلي ينطوي على بُعد كوني، يرفض أن يحصر الحداثة والعقل في سياق واحد، أو أن يوطنه في جغرافيا واحدة.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

المعلومات مفيدة ...
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة