اليأس هو الشعور الذي يسيطر عليها كلما أشعلت سيجارتها الرفيعة، اعتادت كل صباح أن تستيقظ عند العاشرة، تستحم وتغادر الشقة التي تكتريها معية فتاتين لا تختلفان عنها كثيرًا..
أما إحداهما فكانت تدرس التمريض صباحًا، وتعمل ليلًا، وكانت شقراء لا يعرف المرء أولدت بشعر أشقر أم هو مجرد صباغة وحسب، فيما كانت الثانية هيفاء القوام، انبسط شعرها فوق ظهرها كأنه بساط حرير أسود، محياها تجذبك فيه تلك المغارتان ذاتا السواد العميق الذي يتيه فيه الكل متتبعا لعينيها..
وكانت هذه الأخيرة لا تستيقظ حتى يمضي الزوال بساعة أو أكثر، كانت النقود لديها كثيرة لا تنقصها بل هي زائدة عنها لحد بلغ أنها في الشهور الثلاثة الأخيرة تكفلت بمصاريف صديقتيها من النواحي كلها، وإن كانت هي لا تعمل على الإطلاق.
نفثت دخان السيجارة، وارتشفت من فنجان قهوتها ـ هي لا تقبل القهوة إلا في الفنجان ـ أخرجت رواية "أصابع لوليتا" لتقرأها، فتحتها على الصفحة الأولى، وما كادت تبدأ القراءة حتى جاءها صوت غريب ذو إيقاع أغرب يلج إلى أذنها قائلا :
ـ أتسمحين لي بالجلوس؟
رفعت عينيها عن الرواية ونظرت إليه غير مبدية أي ردة فعل سواء بالإيجاب أو السلب في ملامحها، قالت بهدوء :
ـ اجلس .. ماذا تريد؟
جلس ووضع كأس قهوته السوداء على الطاولة، التقط ولاعتها وأشعل السيجارة التي كانت في يده، ابتسم وهو ينفث دخانها وقال :
ـ هل تعلمين أنه في مثل هذا اليوم قبل عام وثلاثة أشهر كنتُ جالسًا على هذا الكرسي في هذا المقهى قبالتك مباشرة كما هو الحال الآن.
أغلقت دفتي الرواية، ووضعتها فوق الطاولة، نظرتُ إليه في تركيز شديد، لم يحرك هو بدوره عينيه قيد أنملة عنها، ظل مبتسمًا وهو يدخن ويرتشف قهوته، مضت قرابة الخمس دقائق إلى ست دون أن يتحرك أي منهما من مكانه أو ينطق بشيء، فقط يد كل منهما تواصل إيصال السيجارة للفم، وينفثان الدخان في اللحظة نفسها، واليد الأخرى لكل منهما تمد الكأس له والفنجان لها في نفس الوقت والثانية، أطفآ السيجارتين في الوقت ذاته، فأراح جسده للخلف وقال:
ـ ماذا تفعلين؟
ضمت شفتيها بشكل غريب، وقالت محركة عينيها اللوزيتين:
ـ ماذا تريد؟
نظر إليها في إغراء شديد، ابتسم ابتسامة عريضة وقال:
ـ بربك يا صدى.. ألا تزالين تفعلين الأمر نفسه منذ عام .. أنت في الواحدة والعشرين ربيعًا يا صدى.. جمالك أخاذ يجذب كل هؤلاء الذين يظلون يسترقون النظر إليك.. انظري إلى أولئك الشبان الثلاثة بتلك الطاولة.. أحدهم يدعى زياد .. إنه في الرابعة والعشرين .. انظري إنه الذي يلبس الجينز الأسود والقميص البني وفوقهما المعطف الأسود.. دائمًا يأتي قبل صديقيه ينتظر مجيئك.. يجلس قبالتك فقط كي يشبع عينيه منك.
نظرت نحو زياد فأمسكت به متلبسًا ينظر إليها، استحى وأشاح نظره عنها بسرعة، ابتسمت في مكر، وعادت بنظرها نحو محدثها، وقالت :
ـ من أنت؟
ضحك عاليًا وبشكل هيستيري، هدأ ثم قال:
ـ كمال معروف.
ظهرت الصدمة عليها مرة واحدة، اكتسحتها نوبة عدم تصديق جنونية، فقامت صارخة وهي تقول:
ـ لا.. لا.. لا.. لا يمكن أبدًا.. كمال.. كمال.. لا يمكن.
وصارت تضرب كل شيء بيديها وتكسر كل ما هو أمامها أو فوق الطاولة، قام كل من بعلية المقهى نحوها هارعين، في تلك اللحظة بالضبط، ولجت صديقتها الممرضة المقهى على إيقاع صرخاتها المجنونة، هرولت راكضة نحو العلية، وجدت زيادا وصديقيه وثلاث فتيات ونادل المقهى يحاولون تهدئة روعها، بلغت عندهم فأمسكت بها بقوة وهي تقول مخاطبة إياها:
ـ صدى.. صدى.. اهدئي.. وأخبريني ماذا حدث لك.
بدأت صدى في البكاء وارتمت في حضن صديقتها دعاء، وقالت :
ـ كمال يا دعاء.. كمال.
سألتها دعاء بصوت حنون قائلة :
ـ ما به كمال يا صدى؟
رفعت صدى عينيها ناظرة لمحيا دعاء ورأسها متكئ على صدرها وقالت:
ـ لقد جاء وجلس معي على نفس الطاولة ودخن سيجارته.
دمعت عينا دعاء وهي تمسح على رأس صدى وهي تقول:
ـ لك الله يا صدى.. حبيبتي.. كمال ميت منذ عام وثلاثة أشهر .
انسحبت صدى بسرعة فائقة من صدر دعاء، نظرت إلى عيني دعاء نظرات غاضبة جدًا، وقالت صارخة بها :
ـ كمال لم يمت.. كمال كان جالسًا معي .
مالت الشمس كثيرًا حتى بدا الشعاع المميز الذي يصعب تحديده أهو أصفر أم أحمر، الغروب في مراكش ذو طابع مختلف تمامًا والمرء يتابعه من على طاولة الحانة بفندق تاشفين، ضحكت ناديا عاليًا وهي تسكب نصف كأس ويسكي دفعة واحدة في حلقها وقالت وعيناها تنظران لآخر خيوط الشمس التي تشرف على الاختفاء:
ـ كمال معروف يا صدى.. اشربي.. اشربي.
نظرت إليها صدى في ريبة وخيبة وشيء من الخوف، سحبت زجاجة الويسكي نحوها وسكبت في الكأس حتى امتلأ، أشعلت سيجارة واجترعت من الكأس، ثم قالت :
ـ أنا واثقة مما حدث يا ناديا .. لا يمكن أن يصل الأمر بي لهذا الحد .. أقول لك كان جالسًا قبالتي ودخن وتحدث معي .
عادت ناديا ببصرها نحو صدى، نظرت إليها جاحظة العينين وقالت في هدوء :
ـ لا يمكن حدوث ذلك يا صدى .. أنت تعلمين أنه لا يمكن.. كمال مات وشبع موتًا.
دخنت صدى في تتابع وبدا على عينيها شعور قوي بعدم التصديق ولا التسليم، شربت من الكأس جرعات أخرى، ومالت بعينيها تشاهد جيليز وقد بدأت تظلم سماؤها، في تلك اللحظة خرجت من مصعد الفندق إلى الحانة دعاء وهي في غاية الجمال والأناقة، وسارت بخطى سريعة حتى بلغت طاولتهما، جلست بينهما وشربت من كأس صدى وهي تقول مازحة :
ـ أتمنى ألا أكون قد جلست حيث يجلس يا صدى.
نظرت إليها صدى في حركة شفاه غريبة وقالت:
ـ لست مجنونة يا دعاء.
أشعلت دعاء سيجارتها، وكذلك فعلت ناديا، وقالت هذه الأخيرة وهي تنظر لصدى:
ـ غدا نذهب عند طبيب مختص في علم النفس وكذا طبيب أعصاب .. لا بد من الاطمئنان على صحتك حبيبتي .
حركت صدى شفتيها تريد التفوه بشيء ما، غير أن دعاء سبقتها بالقول:
ـ أنت طالبة بكلية العلوم.. حسنًا .. أنت لا تحتاجين أن نقنعك بهذه الفكرة.. (ونظرت إلى ناديا وأتمت) نتمنى أن نستطيع رد فضائلك علينا يوما ما يا ناديا.
وضعت ناديا يدها على يد دعاء وقالت :
ـ أنتما صديقتاي العزيزتان وفي مثابة أختي.. لا فضائل لي عليكما.
في تلك اللحظة، نظرت صدى وهي تطفئ السيجارة نحو باب المصعد الذي انفتح فخرج منه رجل أربعيني وشابة عشرينية بينما ظل شاب منشرح المحيا باسم داخل المصعد ينظر نحوها مباشرة.
جحظت عينا صدى واقشعر بدنها بالكامل، نظرت الصديقتان إليها مذعورتين، حولتا نظرهما إلى المصعد الذي انغلق في تلك الثانية بالذات، عادتا بنظرهما إليها، وجدتاها تقوم راكضة نحو المصعد فتبعتاها..
لم تتوقف عنده بل اتجهت إلى السلالم وانطلقت بأقصى سرعة ممكنة لديها، والاثنتان تركضان خلفها بكل ما أوتيتا من قوة، أثار فعلهن هذا الناس بالحانة.
فقام البعض مطاردًا لهن، خلق فعلهن هذا حالة من الهلع بالفندق والسلالم، حتى إن بعض الموظفين به ركضوا مجارين لهن، وصلت صدى قبل انفتاح المصعد عند مدخل الاستقبال بالفندق، وقفت وجسدها يقشعر، وعيناها مذهولتان بشكل غريب للغاية، بلغت الصديقتان عند صدى ووقفتا خلفها على بعد متر واحد، انفتح باب المصعد ففتحت صدى عينيها على اتساعهما وهي تصرخ :
ـ لقد جننت يا ناديا.. لقد جننت يا دعاء.
وسقطت مغمى عليها.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.