يتركك غابرييل غارسيا ماركيز بعد قراءتكَ لرواية مئة عام من العزلة في حالةٍ من تخبط المشاعر والأفكار، متسائلًا عن الجدوى من روايةٍ بغاية التعقيد كهذه، مشوشًا سنوات، إذ تتراءى لكَ بين الفينةِ والأخرى مشاهدٌ من الرواية التي لن تتمكن من قراءتها مرَّتين، كونها تنطبع بقوة منذ المطالعة الأولى.. أهي تعبيرٌ عن اللاجدوى؟! أم محاولةٌ لإيجاد ملاذٍ من روتين حياتنا اليومية؟!
لا يخفى تأثر الكاتب بالأحداث التي عصفت ببلاده كولومبيا منذ منتصف القرن العشرين، إذ عانت كولومبيا لأوقاتٍ طويلةٍ من العنف بسبب:
1- الحرب الأهلية (لافيولينسيا): نزاعٌ بين المحافظين والليبراليين (1948-1958) حول شكل الحكم ودور الكنيسة، أدى إلى مقتل مئات الآلاف.
2- نشأة الجماعات المتمردة: مثل القوات المسلحة الثورية الكولومبية (فارك) في الستينيات.
3- تجارة المخدرات: ظهور كارتيلات المخدرات، مثل كارتيل ميديلين بقيادة بابلو إسكوبار.
أدى ذلك إلى عدم استقرار سياسي واجتماعي.
ومع ذلك، فالرواية تمثل تجسيدًا عالميًّا وتطرح أفكارًا ومخاوف مشتركة، فقد لا يصعب على القارئ أن يجد نفسهُ ضمن شخوص الرواية. ستجد نفسك مندمجًا ومتجسدًا بطريقةٍ سحريةٍ بين سطور الحكاية، في حين تتبع خيوط الأحداث الغامضة في طريق الغابة المهجور تارةً، وداخل قطارٍ تملؤهُ الجثث تارةً أخرى.
وعلى الرغم من تعقيد التفاصيل وطولها، فإنهُ لا توجد طريقةٌ تجعلك تشعر بالملل، ففي الفصول الأخيرة يسمح لك (ماركيز) بتكهن النهاية، وهذا الأمر لا يعنيه ولن ينقص من مشاعر العجز والخوف والتخبط لديك في شيء، فأنا بدوري شعرت بقشعريرةٍ تسري في عروقي عندما قرأت هذا السطر: (أولهم يموت عند جذع شجرة، وآخرهم يسحبهُ النمل).
لم يكن (ماركيز) يتحدث عن قريةٍ نائيةٍ ومعزولة، بل كان يتحدث عن العالم، أو ربما ما هو أبعد من ذلك، إن جازفت في القول.
قراءة هذه الرواية تمثل لقارئها تجربةً خاصة، فما يستخلصهُ أحدهم قد لا ينطبق على ما استنتجه شخصٌ آخر. وعلى اختلاف الموقع الذي يتخذه كل قارئ على شاطئ المعرفة الكبير، فإنهم جميعًا ينظرون نحو ذات المنارة.
هي روايةٌ يصعب نسيانها أو تكرارها، إذ تترك أثرًا عميقًا يمتد سنوات، وما ستدركه بعد قراءتها -حتى لو طال الزمن- هو كنزٌ ومنقذٌ فريدٌ لك وحدك؛ لأن فهمها بعمق لا يتحقق فورًا، بل ينكشف تدريجيًّا مع مرور الوقت.
رواية رائعه جدا ... مشكور صديقي
شكرا لك على قراءتك وتشجيعك
مقال جميل ولغته سلسة وبيثبت موهبتك في الكتابة بدون شك، وأيضًا يوضح إنك قارئة مميزة لا تقرأ دون هدف بل تركز على ما وراء النص..
شكرا محمد
العفو ملاذ وبالتوفيق دومًا
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.