رواية "طريق الجامعة"..ج2

"مسيرة الألف ميل تبدأ بخطوة"

الشهر السابع من العام

ها هي الامتحانات تطرق أبوابنا، والقلق يؤرق قلوبنا، قلَّما تجد الراحة في مثل هذه اللحظات عند طلاب الثانوية، خاصة أصحاب الأهداف والهاربين من ضيق الفقر وعتمة القرى.

كنتُ كل ما شعرت بالوَهن والتعب أتكئ على السنين التي مرت بكل إنجازاتها، وكان والداي يقدمان لي جُلَ ما استطاعا من حب واهتمام حتى استمر فيما بقي من الطريق.

قدَّمتُ الاختبار الأول؛ كنتُ أشعر بالرضى إلى حد بعيج وانعكس ذلك على تحضيري للامتحان الذي يليه، كنت قلَّ ما أنام وأكل وأمضيت وقتي بين الأوراق والأقلام. ولا أعلم كيف كانت تغيب الشمس أو تشرق، نسيت صوت جارتنا أم محمد حين كانت تحتضنني بدعواته كل عصرٍ، الصبر الذي كنا نحظى به إنها أيامٌ تفصلنا عمَّا نطمح.

...

نهضتُ عن الكرسي فشعرتُ بدوارٍ في رأسي، ترنحت خطواتي ثم هويتُ على السرير، أغمضت عيناي وأخذت الأفكار تدور بي، وعلى حين غرةٍ زارت لين مخيلتي، فتحت عيناي بسرعة، وقلت بصوتٍ مسموع:

- لين؟ ما الذي جاء بها إلى خاطري الآن.

كانت لين صديقتي المقربة منذ الطفولة، وأخت أحمد تِبعًا وهي تصغرنا بعامين، كانت تمتلك روحًا أشد من العسل حلاوة ونقاء وقلبًا لم تلوثه عثرات الزمان على كثرتها، كانت دائمة التبسم وتنشر الفرح في أي مكان تخطو إليه، لا أعلم لما جاء ذكرها في هذه اللحظة إليَّ لكن ذكرى كهذه تعيد إلى الإنسان نشاطه وتملأ روحه حبًّا ولا أدري إن كان ممكنًا ألا يحب تلك الصغيرة كل من رآها.

نهضتُ من على السرير وأكملت دراستي، سأصبح طبيبًا كما اتفق ثلاثتنا على ذلك لا بد من جهدٍ إضافي وصبرٌ جميل.

الساعة الرابعة فجرًا..

نسيم الفجر يَقدُمُ من النافذة وكأنه يناديني لأمسح همي، رائحة الهواء والصباح وصوت الديك يصيح فوق بيت الجيران، وتغريد بلابل الحي فوق الأشجار، كم تبدو الحياة جميلة، استغرقت في التأمل أكثر مما استغرقت في العلم أشواطًا، شعرت بسكينة الحياة، ثم ها هو صوت مؤذن الحي "الصلاة خيرٌ من النوم" وأن الصلاة خيرٌ وفلاحُنا في الحياة صلاتنا. أديتُ الصلاة وقرأت الورد اليومي من القرآن، فاستوقفتني آية، (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا ۚ) السكينة التي تبعثها آيات القرآن على روحك تشكل حاجزًا أمام أي حزن قد يهاجمك.

الاختبارات التي بدأت منذ أسبوعين قد انتهت الآن، بدت الحياة أجمل لا قيود لا عودة للمكتب والبقاء ساعات طوال بين الكتب والدفاتر، لا سهر لا توتر أو قلق، يقين ودعاءٌ لله هذا ما كان بإمكاننا فعله في تلك المدة العسيرة.

...

السبت اليوم السابع من شهر آب..

مضى ثلاثةُ أسابيع على انتهاء آخر اختبار، استيقظت لأصلي الفجر، دعوت الله مع نسائم هذا اليوم الجديد أن يجبر خاطري وأن يدمع عينا أمي وأبي فرحًا بالمعدل العالي الذي يستحقه بعد تعبٍ طال وتوفيق دام

نهضتُ من سجادتي وخلوتي مع الله، وإذا بأمي تطرق الباب ثم تفتحه، كانت عيناها تبكي، ثم جاءت فضمتني إليها، خرج من صوتها الحنون بضع تمتمات:

-ولدي حبيبي، يا نجمةَ أمك في هذا الكون.

ثم سكتت وبدأت تبكي مرة أخرى،

-أمي ماذا يحدث؟

لم يخطر لي حينها أي شيء، أريد أن أطمئن على حال أمي وحسب، أجلستها على الكرسي، ثم سألتها:

-ماذا هنالك يا أمي ما الداعي لدموعك هذه تنهمر في هذا الوقت! نظرت إليَّ وقالت:

-ستصبح طبيبًا يا بني، حمدًا لله.

لم اعرف ماذا ينبغي عليَّ فعله الآن، الباء أم الصراخ أم الضحك، جاء أبي إلى الغرفة، كان الدمع مختلطًا بالفرحة الغامرة، ضمني إلى صدره وبدا السرور يلفنا، قبَّلتُ يديَّ أمي وأبي، واستيقظ الصغار على صوتنا فضحكنا وفرحنا كأي طالب نال ما تمنى.

خطر اليَّ أن أطمئن حال أحمد لا بد أنه قد أحرز نتيجة جميلة، خرجت متوجهًا إلى المدرسة حيث اتفق الطلاب الاجتماع، كان أساتذتي المدير وأصدقائي جميعهم متواجدين، لكني لم أرَ احمد، جاء الأستاذ يحيى اليّ يحيِّني ويخبرني بفخره بي، وكل من كان هناك، ثم صرح المدير أني حصلت أعلى تجميع في المنطقة، وبذلك أصبح قبولي كلية الطب أكيدًا.

عدتُ أسال عن أحمد، أخبرني أحد الأصدقاء أنه حصل علامة جيدة، لكنهم ذهبوا مساء أمس إلى المشفى ولم أعلم السبب، شعرتُ بضيق في نفسي ولم أرتح لما سمعت، تركت الجمع من الناس في ساحة المدرسة وركضت إلى بيت أحمد

بدا لي كأن لا أحد فيه، سألت جارهم العم راضي، فأخبرني أن ابنتهم شعرت بالتعب فأخذها إلى المستشفى. أيقصد لين بكلامه؟ ما الذي حصل لِمَ الأمر لم يعد مطمئنًا لي! عدتُ إلى المنزل وحاولت الاتصال بأحمد لكن دون جدوى.

الرابعة عصرًا..

تلقيتُ اتصالًا هاتفيًا من أحمد، طلب مني المجي إلى منزله، ذهبتُ إليه وعندما وصلت لم ألمس في قسمات وجهة الراحة التي يجب أن تكون في يومٍ كهذا، اقترب مني ثم مَدَّ يده تصافحنا وعانق أحدنا الآخر ثم قال:

-مباركٌ ما جنيت يا صديقي، لطالما كنت فخرًا لنا، آمل من الله أن يمدك بقوة لإكمال مسيرك في هذا الدرب.

ثم سكت لهنيهةٍ، وأردف قائلًا:

-حصلت على العلامة التي كنت أدعو الله بها، وحصلت الترتيب الثاني بعدك.

قاطعته حينها وقلت:

- ولِمَ يخيم الحزن على وجهك؟ سنكمل هذا الطريق معًا كما تعاهدنا.

 ابتسم ثم قال:

- كنتُ أودُّ لو جرت الأمور كما قد خططنا يا صديقي، لكن لين متعبة للغاية، ولا يوجد علاج لمرضها في البلاد، لذلك سننتقل إلى بريطانيا وأكمل دراستي هناك، أعلم أن الأمر محزن وأن الطريق الذي انتهى قبل أن يبدأ سيقلق راحتنا بعض الشيء، لكن عدني ألا تنسى أن الهدف الأكبر ما زال أمامنا.

ابتسم اليّ بملامح باهتة، لن أخبركم أن الأمر كان عاديًا بالنسبة لي، لقد كنت غارقًا في حالةٍ من الشرود، أمسك يديَّ وشدَّها، ثم أومأ برأسه نحوي والتصقت جبهته بخاصرتي، والتحمت في المسافة ما بين عينانا ألف قصة، بين قوة وصبرٍ وحبٍ ووداع وأمل.

- أعدك أن لا بد للزمن أن يحقق أمانينا ذات يوم.

  همست ذاك، ثم تعانقنا مرة أخرى.

الثلاثاء الخامس عشر من شهر أيلول

صدرت نتائج القبولات في الجامعة، ولن أصف لكم مقدار السعادة التي تشاركها أفراد العائلة بهذا الخبر، وحصلت على منحة دراسية كاملة مدفوعة الثمن، وهذا ما جعل الأمر أهون على عائلتي، فأنا لا أنتمي إلى طبقة الأغنياء، إنما حالنا يسير.

كان من المفترض أن أكون يوم الخميس في المدينة التي توجد فيها الجامعة، التي تفصلني عنها قرابة الـ 200 متر، سأذهب مع صديق والدي العم رامي لأن والدي كان في وضع صحي غير مناسب لإجراءات التسجيل في الجامعة وتأميني بالسكن الجامعي.

صباح الخميس استيقظت وقد كانت والدتي مستيقظة ولا أعتقد أنها تمكنت من النوم طوال الليل، ذهبت إلى أداء الصلاة في المسجد، ودعت المسجد والإمام والطريق الذي أمشيه، وأزهار الياسمين المنسدلة على جدار منزل الخالة أماني. كان النسيم عليلًا، ثم مررتُ بمنزل أحمد، كان من المفترض أن تكون الآن تُعدُّ للذهاب معي، ألا ليت القدر لم يفرقنا يا صديقي!

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

هل تحب القراءة؟ كن على اطلاع دائم بآخر الأخبار من خلال الانضمام مجاناً إلى نشرة جوَّك الإلكترونية

مقالات ذات صلة
ديسمبر 9, 2023, 8:51 ص - جوَّك لايف ستايل
ديسمبر 8, 2023, 11:38 ص - نور الدين شعبو
ديسمبر 6, 2023, 6:33 ص - ايه احمد عبدالله
ديسمبر 4, 2023, 8:39 م - ميساء محمد ديب وهبة
نوفمبر 23, 2023, 11:48 ص - عبدالخالق كلاليب
نوفمبر 21, 2023, 8:23 ص - سيد علي عبد الرشيد
نوفمبر 15, 2023, 12:02 م - خوله كامل عبدالله الكردي
نوفمبر 14, 2023, 4:49 م - هيثم عبدالكريم عبدالغني هيكل
نوفمبر 14, 2023, 1:04 م - خوله كامل عبدالله الكردي
نوفمبر 14, 2023, 12:46 م - خوله كامل عبدالله الكردي
نوفمبر 12, 2023, 4:51 م - خوله كامل عبدالله الكردي
نوفمبر 12, 2023, 9:22 ص - خوله كامل عبدالله الكردي
نوفمبر 10, 2023, 12:05 م - خوله كامل عبدالله الكردي
نوفمبر 8, 2023, 9:53 ص - جوَّك آداب
نوفمبر 7, 2023, 12:21 م - خوله كامل عبدالله الكردي
نوفمبر 6, 2023, 11:03 ص - بدر سالم
نوفمبر 5, 2023, 3:42 م - خوله كامل عبدالله الكردي
نوفمبر 5, 2023, 10:20 ص - خوله كامل عبدالله الكردي
نوفمبر 4, 2023, 1:15 م - خوله كامل عبدالله الكردي
نوفمبر 3, 2023, 11:17 ص - سمسم مختار ليشع سعد
نوفمبر 3, 2023, 6:55 ص - محمد بخات
نوفمبر 1, 2023, 11:31 ص - خوله كامل عبدالله الكردي
أكتوبر 31, 2023, 12:27 م - خوله كامل عبدالله الكردي
أكتوبر 30, 2023, 4:53 م - خوله كامل عبدالله الكردي
أكتوبر 30, 2023, 9:07 ص - احمد صالح احمد مقبل الصيادي
أكتوبر 28, 2023, 12:47 م - خوله كامل عبدالله الكردي
أكتوبر 28, 2023, 12:17 م - جوَّك لايف ستايل
أكتوبر 28, 2023, 9:44 ص - إسلام عبد الكريم السنوسي
أكتوبر 28, 2023, 8:08 ص - خوله كامل عبدالله الكردي
أكتوبر 26, 2023, 6:42 م - خوله كامل عبدالله الكردي
أكتوبر 25, 2023, 1:12 م - خوله كامل عبدالله الكردي
أكتوبر 25, 2023, 11:32 ص - إياد عبدالله علي احمد
أكتوبر 25, 2023, 8:30 ص - خوله كامل عبدالله الكردي
أكتوبر 24, 2023, 7:30 م - جوَّك آداب
أكتوبر 23, 2023, 12:42 م - خوله كامل عبدالله الكردي
أكتوبر 23, 2023, 11:35 ص - عبدالحليم ماهاما دادولا عيدالرحمن
أكتوبر 22, 2023, 12:26 م - خوله كامل عبدالله الكردي
أكتوبر 21, 2023, 4:39 م - خوله كامل عبدالله الكردي
أكتوبر 21, 2023, 9:07 ص - خوله كامل عبدالله الكردي
أكتوبر 19, 2023, 1:11 م - خوله كامل عبدالله الكردي
أكتوبر 19, 2023, 6:59 ص - علي عزام
أكتوبر 19, 2023, 6:04 ص - محمد هاني جابر
أكتوبر 18, 2023, 6:39 م - خوله كامل عبدالله الكردي
أكتوبر 18, 2023, 12:15 م - التجاني حمد احمد محمد
أكتوبر 17, 2023, 5:38 م - جهاد عبدالرقيب علي
أكتوبر 17, 2023, 2:18 م - خوله كامل عبدالله الكردي
أكتوبر 16, 2023, 11:45 ص - خوله كامل عبدالله الكردي
أكتوبر 15, 2023, 5:11 م - وليد فتح الله صادق احمد
أكتوبر 15, 2023, 4:55 م - عبدالحليم ماهاما دادولا عيدالرحمن
أكتوبر 15, 2023, 12:20 م - خوله كامل عبدالله الكردي
أكتوبر 15, 2023, 11:18 ص - خوله كامل عبدالله الكردي
أكتوبر 15, 2023, 7:55 ص - خوله كامل عبدالله الكردي
أكتوبر 15, 2023, 6:13 ص - بنهيبة عبد الحق
أكتوبر 14, 2023, 7:26 م - اسامه غندور جريس منصور
أكتوبر 14, 2023, 5:03 م - إيمان يحيى
أكتوبر 14, 2023, 2:24 م - خوله كامل عبدالله الكردي
أكتوبر 11, 2023, 12:47 م - خوله كامل عبدالله الكردي
أكتوبر 11, 2023, 12:13 م - عبير احمد الرمحي
أكتوبر 10, 2023, 6:50 م - خوله كامل عبدالله الكردي
أكتوبر 10, 2023, 5:52 م - اسامه غندور جريس منصور
أكتوبر 10, 2023, 5:41 م - معتز سيف النصر محمد الحسن
أكتوبر 10, 2023, 10:05 ص - خوله كامل عبدالله الكردي
أكتوبر 9, 2023, 3:15 م - سعاد عبدالحفيظ أحمدين
أكتوبر 8, 2023, 1:00 م - خوله كامل عبدالله الكردي
نبذة عن الكاتب