عندما أراكِ سوف أرسل إليكِ وردة حمراء ساطعة وابتسامة بيضاء تذوب في عطر وجهك الجميل.
طوى ذلك الفتى الصغير ذو العشرة أعوام الورقة بشغف شديد بعد أن كتب تلك الجملة في منتصفها، ثم وضعها في حقيبته وأخذ يمشي متأنيًا، يضرب بقدمه الأرض فيرتفع ترابها لينهال على ملابسه السوداء فيزيدها اتساخًا، ثم بدأ يجري سريعًا تارة ويتوقف ليقطع بعض أوراق الأشجار تارة أخرى، حتى وصل إلى شجرة كبيرة أمام منزل قديم...
وقف الفتى أمام الشجرة ناظرًا إلى فروعها العالية التي تملأها الورود، ثم وضع حقيبته على الأرض وبدأ يتسلق تلك الشجرة؛ يضع قدمه على فرع ما ويمسك بذراعه فرعًا آخر، وفعلًا وصل إلى الأعلى وبدأ يحاول جاهدًا أن يصل إلى تلك الورود، ممددًا يده قدر استطاعته حتى تمكن من أن يمسك بإحدى الورود.
وفجأة اختلَّ توازنه وسقط صارخًا حتى ارتطم بالأرض وأخذ يلتوي ألمًا ويئن بصوت واضح. قطع أنينه صوت ضحكات رجل عجوز كان يقف على عتبة المنزل القديم مستندًا إلى عكازاته.
كانت ضحكات ذلك العجوز تثير غضب الطفل لدرجة كبيرة، فحاول النهوض ولكنه سقط مرة أخرى، لتزداد ضحكات العجوز بنبرة عالية ساخرًا منه.
نظر الطفل إليه بتحدٍ وملأ الغضب ملامح وجهه المتسخ، وحاول أن ينهض مرة أخرى وفعلًا وقف وعيناه تنظران في عينيِّ العجوز نظرة الانتصار المحتوم، ثم أمسك بحقيبته وبدأ يمشي ببطء يعرج على قدمه التي كانت تؤلمه بشدة حتى استوقفته جملة ذلك الرجل العجوز:
- ماذا عن تلك الوردة التي تسلقت لأجلها كل تلك المسافة؟ هل تتركها هكذا؟
التفَّ الصبي ناظرًا إلى الوردة الملقاة على الأرض واتجه ناحيتها محاولًا أن ينحني ليلتقطها، ولكن ألم قدمه كان يمنعه من أن يصل إليها.
اتجه العجوز نحوه وانحنى مستندًا إلى عكازه ليلتقط الوردة، ثم اعتدل ناظرًا إلى الفتى ومدّ يده بالوردة قائلًا:
- تعلَّم ألا تترك ما حاولت جاهدًا من أجله حتى لو كان ذلك سيؤلمك، فقط تحمل الأمر قليلًا... تحمل حتى تصل إليه، لأن الأمر يستحق. هل فهمت؟
ظل الفتى يحدق بذلك العجوز دون أن يقول كلمة، فأكمل العجوز:
- لا تنزعج مني لأنني ضحكت عندما سقطتَ أنت، أعتذر لذلك، ولكنني أعجبت كثيرًا بعدم تراجعك على الرغم من بُعد تلك الوردة عنك، والآن خذها... هيا.
مدَّ الصبي يده بصمت وأخذ الوردة ثم همَّ بالذهاب، أما الرجل العجوز فقد كان يتبعه بنظره مبتسمًا حتى ذهب بعيدًا، ثم استدار ومشى متجهًا إلى منزله القديم.
وقف الفتى الصغير "رءوف" أمام منزل "سلوى"، تلك الفتاة التي تصغره بعام واحد، عرفها رءوف حين انتقلت منذ عامين إلى منزل يبعد القليل عن منزله، ومنذ ذلك الحين تملَّكت "سلوى" قلبه وعقله، حتى إنه بدأ ينتظم في مدرسته ليراها تُلقي النشرة الإذاعية المدرسية كل صباح، يصفق لها بحرارة شديدة. أما هي ففي البداية كانت تتجاهله تمامًا دون قصد مرة وعن قصد مرة أخرى. مع الوقت بدأت تنتبه له وتلقي التحية مشاورة بيدها كلما تراه ينظر إليها، فيبادلها التحية هو الآخر.
وهنا بدأت قصة حب صغيرة، كانت النظرة فيها تعني الكثير من الكلام، والسلام يختصر كثيرًا من الأفعال، فيها كانت الوردة الحمراء تعني "اشتقت لك"، أما الوردة البيضاء فتحمل كلمة "آسف".
ترعرعت قصة الحب الهادئة التي تخلو من كل أنواع النفاق تلك في قلبي رءوف وسلوى يومًا بعد يوم، وها هو ذلك الصغير يقف أمام منزلها يحمل بيده تلك الوردة الحمراء وجوابًا صغيرًا يحوي كلماته النقية.
مرت بضع دقائق و"رءوف" ما زال يقف هناك ينتظر أن يرى "سلوى" لوهلة ليعطيها ما أتى لأجله، لكنها لم تخرج. تنهد رءوف متعبًا وقال محدثًا نفسه:
- يبدو أنها لن تظهر في هذا الوقت، فقد حلّ وقت العصر فعلًا.
ثم نظر إلى مكان ما أمام عتبة المنزل واتجه لهناك مضيفًا:
- سوف أترك الوردة والرسالة هنا أمام عتبة المنزل لكي تجدها عندما تخرج مباشرة.
وبالفعل ترك "رءوف" الوردة والرسالة أمام عتبة المنزل ومشى متمهلًا يضع يده على ساقه التي كانت تؤلمه.
****
في غرفة صغيرة ذات إضاءة خافتة يجلس ذلك الرجل العجوز على مكتب خشبي، يمسك بيده مقصًا يستخدمه في قص بعض الأوراق على شكل ظرف، ثم يلصقها ويضع بها ورقة كبيرة مطوية قد كتب بها رسالة طويلة إلى أحدهم، ثم أمسك بقلمه ووضعه في حبر أسود وبدأ يكتب على ظهر تلك الورقة بعد أن أحكم غلقها:
"من مجهول إلى مجهول آخر... لقد تلقيت رسالتك الأخيرة، وبسعادة غامرة أكتب رسالتي الأخيرة لك. أتمنى من الله أن يجعلك في سعادة ورضا إلى الأبد."
نظر ذلك العجوز إلى ذلك الجزء من السماء الذي كان يظهر أمامه من النافذة وابتسم، ثم أغلق عينيه لتتساقط بضعة دمعات دافئة على ذلك الظرف الذي انتهى منه للتو. ومن ثم قام مستندًا على عكازه ووضع الظرف في درج المكتب وغادر تلك الغرفة.
***
- بعد أن تنتهي من وضع العلف للأغنام، اذهب وأحضر أختك الصغيرة من درسها. هل فهمت؟
قالها والد "رءوف"، ثم غادر راكبًا دراجته. أما "رءوف" فكان صوت نبيب الماعز يزعجه للغاية، لذلك ظل ينظر إليها في غل شديد، ثم أخذ العلف وألقاه أمامها في غضب وجرى لإحضار أخته متمتمًا بكلمات غير مفهومة.
أحضر "رءوف" أخته الصغيرة "علياء"، وبينما هما في الطريق سألته "علياء":
- لماذا تعرج؟ ما الذي حدث لقدمك؟ هل سقطت مجددًا؟
- هل هي واضحة؟
- ماذا؟
- لم يلاحظ أبي.
- تعلم أنه قد لاحظ.
- ولكنه لم يقل شيئًا.
صمتت "علياء" ونظرت أمامها للحظة، ثم جرت سريعًا وتوقفت على بُعد مسافة ليست بطويلة، ثم نظرت إلى "رءوف" ونادت بأعلى صوتها:
- مَن يخسر فهو خروف سمين!
ثم جرت ضاحكة بأسرع ما لديها. أما عن "رءوف" فقد تبعها ضاحكًا وهو يقول بصوت عالٍ:
لا... أنتِ تغشين... توقفي... فلنبدأ مرة أخرى من نفس الخط أيتها المحتالة!
ظل الطفلان يركضان وراء بعضهما البعض، يسبق أحدهما الآخر مدة ثم يسبقه الآخر بعد ذلك مدة أخرى حتى شعرا بالتعب. فجلسا على حائط قصير لينالا قسطًا من الراحة قبل أن يكملا طريقهما.
نظر "رءوف" إلى "علياء" وقال:
- اقتربت الامتحانات... هل أنتِ مستعدة لها؟
- نعم... لم أنهِ الكثير من المواد حتمًا، ولكن ما زال لدي وقت كافٍ لذلك. ماذا عنك؟
- ماذا عني؟
- هل أنتَ مستعد للامتحانات أيضًا؟
- لم أكن يومًا مستعدًا لها... ما الجديد!
- ماذا! أخبرتني أنك سوف تنتظم على المدرسة وأنك ستأخذ أمور الدراسة بجدية أكبر! هل كنت تكذب؟!
- أنا لم أكذب... لقد انتظمت على الحضور للمدرسة فعلًا.
صمتت "علياء" وظلت تنظر له باستنكار، فأضاف "رءوف" مبعدًا نظره عنها:
- ولكنني لم أقل إنني سأخذ أمور الدراسة بجدية. أنا لا أرغم نفسي على شيء أكرهه.
- ماذا! هل أنتَ مدرك لما تقول يا "رءوف"؟ إذا لم تنجح هذا العام، سيخرجك أبي من المدرسة وسيرغمك على العمل معه بالمزرعة... ألست تكره المزرعة بالمناسبة؟
لم يرد "رءوف"، وقام مغادرًا يتمتم في نفسه ببعض الكلمات غير المفهومة. وبعد قليل تبعته "علياء" ليتجها إلى المنزل سويًا.
مرت بضعة أيام يذهب فيها "رءوف" إلى منزل "سلوى" كل يوم لعله يلقاها أو يلقى إجابة على رسائله ووروده، ولكن بلا جدوى. وبما أن امتحانات نهاية الفصل الدراسي كانت على وشك أن تبدأ، فلم يكن من الممكن أن يراها تلك الأيام على كل حال...
****
يشبهني ذلك الطفل "رءوف" بشدة... أفعاله ومشاعره... حتى إهماله في دراسته!
أنتَ تسأل الآن... من أنا أليس كذلك؟
سوف أعطيك الجواب على سؤالك ولكن ليس الآن... فكل شيء له وقته المناسب.
***
في يوم من الأيام كان "رءوف" في طريقه إلى المنزل، يتمشى ببطء وتأنٍ تارة ويجري سريعًا تارة أخرى كما يفعل دومًا، يداعب بيده أشعة شمس الغروب ويبتسم مستقبِلًا نسمات الرياح الهادئة...
وصل "رءوف" إلى المنزل ليجد والدته قد أعدَّت بعض المخبوزات التي يفضّلها هو بشدة... رائحة تلك المخبوزات المختلطة بالهواء البارد تأسره. في بعض الأحيان لا يمكن وصف شعور ما بالكلمات! وهكذا هو الأمر...
جلس "رءوف" يأكل تلك المخبوزات الدافئة أمام منزله أسفل الشمس مبتسمًا. لا يوجد من هو أسعد منه الآن... فتلك لحظته المفضَّلة، هادئة مثل البحر كما يصفها هو.
***
اليوم هو الرابع منذ انتهاء امتحانات نهاية الفصل الدراسي الأول، وقد كان جميع من بالقرية في انتظار نتائج الامتحانات الخاصة بأبنائهم.
كان "رءوف" يساعد والده في المزرعة، يحضر الطعام من المنزل إلى والده لكي يطعم الأغنام، ثم يقف بجانبه منتظرًا أي أمر آخر منه. وفي أثناء انشغال والده في خلط بعض أنواع الأعلاف في صحن كبير، قال موجهًا كلامه إلى "رءوف" دون أن يلتفت له:
-تعلم أن النتائج على وشك الظهور، أليس كذلك؟
نظر له "رءوف" دون أن يتفوه بشيء، فأكمل والده:
-لا أبالي لنتائجك لأنني على يقين تام بأنها لن تختلف كثيرًا عن كل عام.
أشاح "رءوف" نظره عن والده وظل يحرك عصاه على الأرض ليرسم بها بضعة خطوط ودوائر بشيء من الاستياء. أما عن والده، فالتفت إليه لفتة سريعة وأكمل:
-إذا كنتُ محقًّا، فلتعتد على شغل المزرعة سريعًا إذًا.
قالها وذهب مبتعدًا عن "رءوف"، الذي ظل يحدق به بعينين متسعتين تحكيان بسهولة مدى اندهاشه واستيائه من مجرد تلك الفكرة. وفجأة ركض سريعًا تجاه والده ووقف أمامه وصرّح عاليًا مغمضًا عينيه:
-لا، لن أعتاد على العمل هنا، فأنا أكره المزرعة... أكرهها بشدة!
وذهب مسرعًا يركض دون توقف، يلهث بشدة ويكمل جريه وكأنه على وشك أن يفوت شيئًا ما...
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.