نبدأ من حيث انتهينا في الجزء السابق..
......
في وقت قصير تبع إخناتون إلى مدينته الجديدة كثير من الأشراف وكبار رجال الدولة، بعضهم إيمانًا بمذهبه وسياسته، وبعض آخر جريًا وراء المغانم والعطايا.
ظل إخناتون يحكم في عاصمته الجديدة «أخت أتون» أو «مشرق الشمس» مدة طويلة، لا يهتم بشيء من أمور الحكم والإدارة إلا ببناء معابد الإله الواحد آتون في جميع أنحاء البلاد تعظيمًا وإجلالًا لدينه ومذهبه الجديد.
لم تطق الملكة نفرتيتي الجميلة تهميشها وعدم إشراكها في شؤون الحكم وتفضيل إخناتون أخيه سمنخ كارع عليها. وكانت عادة ملكات مصر في السابق التأثير في قرارات أزواجهن، والمشاركة في جميع أمور الدولة، فنشبت بينه وبينها المشاجرات بسبب هذا الوضع؛ ما اضطرها في النهاية لهجرة القصر والإقامة في حي آخر في المدينة في مكان يسمى ظل رع، لتعيش فيه مع ابنهما توت عنخ آمون بعيدًا عن إخناتون.
قالت له: فلتنعم أنت وأخوك بالقصر والمُلك.
غضب عليها إخناتون أشد الغضب هذه المرة، فمحا اسمها من جميع المراسم الملكية والأمكنة التي كان يقترن فيها اسمها باسمه. فزاد حنق الملكة نفرتيتي عليه أكثر من جرّاءِ ذلك، وزاد أكثر بعد أن تزوج من ابنته عنخس إن با آتون، وحملت منه أنثى سُميت بالاسم نفسه، ولم يكن زواج الملوك من بناتهم أمرًا شائعًا في ذلك الوقت، بل كان يُعد عملًا شاذًا.
تأثرت شعبية إخناتون ومذهبه الجديد بالطبع بسبب هذه الخلافات تأثرًا كبيرًا، فانفض كثير من الناس من حوله ومن حول أخيه المتهم سمنخ كا رع الذي بدأ يشاركه في إدارة البلاد. فقد ذهب سمنخ كا رع في زيارة إلى طيبة لمحاولة كسب ود كهنة آمون وإصلاح العلاقة بينهم وبين أخيه بعد ما فعله بهم، وبعد أن أحس بنفوذهم المتغلغل في أعماق الدولة وعند عامة الشعب.
لكن العلاقة كانت قد تعقدت أكثر مما يتخيل إخناتون نفسه، فقد وصلت الأمور إلى منحى يُنذِرُ بالخطر، وأصبح إخناتون يواجه تمرد طبقة الموظفين والكهنة داخل أروقة الحكم، وكان يهدد الملك نفسه، ما جعله يلجأ إلى الجيش لكي يستطيع التصدي لهم. وقد نجح قائد الجيش حور محب من قبل في عهد الجد تحتمس الرابع أن يخمد ثورة الكهنة عندما قرر تحتمس الرابع أن يقيل الكاهن الأعظم لآمون ويعين بدلًا منه رجلًا من رجال القصر.
هنا بدأ الصراع الداخلي بين طبقة الموظفين الكبيرة المتغلغلة في جميع شؤون الدولة وبين طبقة الجنود والقادة العسكريين، فكان من الطبيعي أن يستعين إخناتون بالجيش الذي يتبع الملك ليواجه الكهنة وطبقة الموظفين، خصوصًا مع تفشي الفساد بين الموظفين الذين كانوا يُسخرون الشعب في العمل دون أن يعطوهم أجورهم، ويسلبون ممتلكاتهم وبيوتهم وماشيتهم.
أراد إخناتون أن يستعين بقوة الجيش لإقامة دولة عادلة ينعم فيها كل فرد من أفراد المجتمع بحقه، وأن يخلِّص الشعب من سحر وشعوذة الكهنة بمذهبه الديني الجديد الذي يدعو إلى عبادة إله واحد غير ظاهر يتجه إليه الناس دون وسيط، لكن المنتفعين من النظام القائم كانوا أكثر مما يتخيل؛ لذا واجه مشروعه الإصلاحي صعوبات كبيرة للأسف لم يستطيع أن يتخطاها.
حتى إخناتون نفسه شغلته رغبته في التأمل والتفكر والترف والنساء عما يدور في كواليس السياسة والأخطار المحدقة التي تهدد دولته. أيضًا لم تنجح محاولات سمنخ كا رع الأخ في رأب الصدع بين أخيه الملك وبين كهنة آمون.
استمر إخناتون في سياسته لا يبالي بمظاهر التذمر التي بدأت حتى داخل الجيش، حتى إن حماه والد زوجته ومدير بلاطه (أي) دخل في نقاش حاد مع قائد الجيش حور محب الذي أراد أن يبلغ الملك بسوء سياساته ويطلب منه العدول عن بعض قراراته وعدم إهدار ثروات البلاد في بناء المعابد الكثيرة، وتنبيهه لتدهور سمعة المملكة في الخارج حيث يتربص بها الأعداء في كل مكان. استطاع (أي) أن يمتص غضب قائد الجيش ووعده بالتصرف في الأمر.
ثم حدث في أحد أيام الشتاء القارس أول مفاجأة وتهديد حقيقي للملك، عندما كان رئيس الشرطة السيد ماحو في المدينة المحصنة يجلس في المساء أمام مقر عمله يستدفئ من البرد الشديد وحوله الخدم يشعلون النار ويعالجونها لتزداد اشتعالًا وتجلب له الدفء. سمع رئيس الشرطة صوت صياح بالقرب من قصر الفرعون، فامتطى عربته على الفور وأخذ معه أربعة من الحرس الخاص، فاكتشف مجموعة من المتآمرين مختبئين في وكر بالقرب من القصر يخططون لاغتيال الملك، وقد أعدوا العدة لذلك وينتظرون اللحظة المناسبة للدخول إلى القصر والانقضاض على الملك في أثناء نومه. فقبض عليهم هو ورجال الحرس وقيدهم بالأغلال، ثم أخذهم إلى قاعة الوزير (أي) للمحاكمة، وكانوا ثلاثة أفراد أحدهم مصري أصلع الرأس، واثنان آخران من الأجانب. وحُكم عليهم بالقتل في الحال.
وعندما علم إخناتون بالحادثة شكر الإله آتون الذي حماه من المؤامرة الرهيبة.
وظهر رئيس الشرطة ماحو بمظهر الرجل القوي اليقظ، فأغدق عليه الملك الهدايا والأموال مكافأة له على إخلاصه وولائه.
ورغم نجاته من محاولة الاغتيال شعر الملك بالحزن والقلق، وأحس بأن الأمور بدأت تفلت من يده. كانت أكبر مشكلات إخناتون أنه لم يكن لديه بطانة صالحة تنصحه وترشده وتنقل له حقيقة المشكلات التي تدور في البلاد. فجميع رجال بلاطه عملوا على إرضائه والحصول على رضاه وهداياه؛ فكانوا يخبرونه بما يحب سماعه فقط، وأن البلاد في حالة سعادة واستقرار، وأن غالبية الناس تحبه وتؤمن به.
بل أخفوا عنه تمامًا حقيقة ما يفعله كهنة آمون من إثارة الشعب ضد حكمه، والثورات التي بدأت تظهر في إمارات مصر في الخارج في سوريا وفلسطين والنوبة، وأخفوا عنه حقيقة الفساد الذي استشرى في المملكة من قبل الموظفين والرعية، وتركوه يبني القصور والمعابد ويهمل شؤون المملكة الداخلية والخارجية التي بدأت في التدهور شيئًا فشيئًا حتى فقدت المملكة جزءًا كبيرًا من هيبتها وسطوتها بين جيرانها.
استمر الحال هكذا حتى كان اليوم الموعود، عندما استيقظت المملكة وجموع الشعب فجأة على نبأ وفاة الملك الشاب إخناتون بعد حكم استمر ثمانية عشرة سنة.
لم يعرف أحد أسباب الوفاة التي حدثت فجأة؛ فهو لم يكن مريضًا، بل كان في أوج قوته، ولم يُعرف إذا كانت الوفاة طبيعية أم أن أحد المتآمرين قد نجح في قتله.
👍👍👍👍
🍀🍀🍀🍀🍀
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.