تجلس دجى على المقعد وتبكي وتتأوه من البكاء! تمرُّ الذكريات بسرعة وكأنها شريط سينمائي مصور، تتذكر وقت أن كانت صغيرة ومرضت مرضاً شديداً، حتى شارفت على الموت لا تنسى ساعة أن حملها والدها واتجه بها ليلاً إلى الطبيب نظرت في وجهه ورأت وجه إنسان جثم على صدره هموم العالم بأسره!
فقد طالت لحيته وغزاها الشيب، يضعها على السرير وتحدق بعينيه اللتين لا يبارحهما الانكسار والألم، تغفو والأمل في شفائها يخبو يوماً بعد يوم، وأذنها تسترجع صوت بكاء خافت وهمساً يدور بين أبيها وأمها، علمت منه أن حياتها في خطر ولا علاج لحالتها.
مرت شهور على تلك الحادثة، ودجى الآن في المدرسة تلعب وتمرح مع زميلاتها..
لم يتبادر إلى ذهن أحد أن دجى ستتعافى وتعيش وتكبر وتدخل المدرسة! فالمعجزة قد حدثت وقدر الله لها أن تعيش.
كانت أختها أمينة تكبرها بثماني سنوات وأخيها رأفت هو الأخ الأوسط لا يتجاوز الفرق بينهما في العمر ست سنوات.
تأخذها الذكريات إلى أجمل ذكرى عاشتها في صغرها، نذر والدها بأن يذبح خروفاً بمناسبة شفائها، كم كانت فرحتها كبيرة عندما أحضر والدها الخروف، فقد أحبت ذلك الخروف وأسمته سمسم، كانت تصحو كل صباح وتداعبه وتتحدث معه وتزينه بالشرائط الملونة، وتحسس على صوفه وتبتسم له، "لقد كان صغيراً فلا بأس بأسبوعين أو حتى ثلاث أسابيع ليكبر قليلاً تمهيداً لذبحه" -أبو رأفت مخاطباً دجى، لقد كانت أياماً جميلة تلك التي أمضتها دجى تلعب مع خروفها "سمسم" الذي تعلقت به كثيراً، وأحبت فيه هدوءه وبياض صوفه إلا من بضع شعرات سوداء على جبهته وهذا ما كان يميزه بالنسبة لدجى!
وجاءت ساعة ذبحه لم تتمالك دجى نفسها واختبأت داخل غرفتها وأغلقت على نفسها الباب، بالرغم من هروبها كي لا تشاهد منظر ذبحه، سمعت صوته يأن وكأنها تقف تنظر إليه وهو يذبح وضعت يديها على أذنيها مخافة أن تسمع صوت أنفاسه الأخيرة... وفجأة هدأ كل شيء، ولم تعُد تسمع أي صوت! السكون عم المكان، أطلت من نافذة غرفتها فوقعت عيناها على صوف أبيض ملقى على الأرض، أيقنت ساعتها أن خروفها الذي ابتهجت به عندما أحضره والدها وأسمته "سمسم" قد مات.
حزنت دجى كثيراً لأنها شعرت أن رابطاً من نوع غريب نشأ بينها وبين ذاك الخروف! لكنها ما لبثت أن أدركت أن الخروف ما هو إلا عربون محبة من والدها لها؛ لأنها تعافت وأنقذتها عناية الله ثم حب والديها العميق لها.
لم تكن ترغب دجى أن يتضايق والدها فخرجت من غرفتها ومسحت دموعها بطرف كمها كي لا يراها والدها ويحزن، رمقته واقفاً يتحدث مع أمها في كيفية توزيع اللحم والتفت وابتسم لها ابتسامة مشرقة، لكنه شاهد عليها أمارات الحزن حدثها بلهجة الأب الذي ينتشيه الفرح لأن ابنته الصغيرة وحبيبة قلبه قد شفيت وما تزال حية ترزق.
أقبلت عليه تضمه وتحتضنه قائلة:
- شكراً لك يا أبي... أنا أحبك كثيراً.
وضع رأسه على رأسها وتنهد بعمق وهو يلمس على شعرها هامسًا بصوت ملؤه الحنان:
- وأنا أيضاً أحبك يا ابنتي.
وقفت أمينة وأمها صامتتين وقد اغرورقت أعينهما بالدموع، أما رأفت فقد تعلل بانهماكه في توزيع قطع اللحم على الجيران لكن قلبه يهتف أحبك دجى... أحبك أختي الصغيرة.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.