تصورت أمينة ورأفت أن الأوهام تلاحق دجى! لكن دجى يقينها كبير بعودة والدها، وأن الفتاة التي كانت تراها في غرفتها ربما أرادت أن تخبرها بشيء!
جاءتها في يوم وهي ما بين نائمة ومستيقظة، وقفت أمامها تسألها:
- ألا تعرفين من أنا؟
ترد عليها وكأنها تقف في مدينة غريبة عنها! الضباب في كل مكان، جثث الناس ملقاة على الأرض، البيوت أحرقت والأطفال يصرخون لا يعرفون أين يذهبون..
تنظر إليهم والحيرة والألم ينهشان قلبها، وأصوات المدافع ودوي الانفجارات يملأن المدينة، والطائرات تحوم في السماء متأهبة لإسقاط حممها، تشبه تلك التي قتلت أمها وخالتها، تتلفت حولها متسائلة أين أنا؟! ما هذا المكان الذي جئت إليه؟ تلمح فتاة تطل من نافذة أحد المنازل، تلوح لصبي يحمل في يديه كرة صغيرة يلعب بها، وفجأة تسمع أزيز طائرة من بعيد، تقترب الطائرة وتنخفض سريعًا..
تركض دجى محاولة تحذير الصبي قبل أن تضربه الطائرة، تصرخ لكن الصبي لا يسمعها يستمر في اللعب!
تُشير بيدها لكنه لا يراها كأنما عينيه أغشيت! الفتاة تصرخ والطائرات تلقي القنابل بمحاذاة الساحة التي يلعب بها الطفل، تصيبه شظايا أحد القنابل يسقط الصبي فيموت ويسقط البيت على منه فيه...
الآن عرفت دجى قصة تلك الفتاة التي كانت تظهر لها وتخاطبها، تتمتم في نفسها: "أنت مت كما ماتت أمي! لم يدرِ أحد بك! تلك هي الحرب لا ترحم أحدًا.
هي فتاة مثلها مثل كل فتاة كانت تعيش مع أسرتها الصغيرة المكونة من أب وأم وشقيقها الذي يصغرها بأعوام كثيرة، أسرة جميلة يربط بين أفرادها الحب والتفاهم والسعادة ما عرفوا طعم الألم يومًا ما، جاءت الحرب وقتلتهم جميعًا، فصاروا أثرًا بعد عين..
ماتوا ولم يعرف لهم قبر حتى عثر على عظامهم في أحد الأراضي التي كان ينفذ بها مشروع تجاري، انتشلت العظام المتبقية من الجثث التي عانت سنوات طويلة، من عذاب عدم دفنهم ووضعهم في قبور تليق بهم.
اختفت تلك الفتاة فجأة وتلاشت كالسراب، روحها تعذبت لأنها لم تدفن، تألمت من تشتتها ونسيانها تبحث عن مكان يواري الجسد الذي بلى وتحلل!
ترد الأفكار عليها: "تلك هي الحرب يا دجى... لا تبقي شيئًا على حاله... فإذا جاءت جلبت الشرور والخراب معها".
عاهدت دجى نفسها على أن تساعد أي إنسان عانى الحرب، انضمت وأختها أمينة لجمعية العناية بضحايا الحرب، تصمم الدعاية للجمعية، تطوف المؤسسات والشركات وتخاطب المنظمات الدولية والإنسانية؛ لتقديم الدعم والعون للجمعية، تطوعت لعمل الخير حتى تواسي من فقدوا أعزاءهم وأحباءهم في الحرب، وتمسح على رؤوس الأطفال وتجفف دموع النساء اللاتي فقدن أزواجهن وأبنائهن في معمعة الحرب، وأولئك الذين أصيبوا بعاهات جسدية أو عقلية أو نفسية كنتيجة لحرب قضت على الأخضر واليابس، لم يسلم منها أحد لا الحي ولا حتى الميت!
لعلها تشفي من جراحها ويكون لها البلسم الذي ينسيها مرارة فقدان والدها ووالدتها... لكن في ضميرها أن والدها سيعود يومًا... قلبها يحدثها وحدسها يخبرها... نعم وفي ليلة حلمت أنها رأت أمها تلبس ثوبًا أخضرًا لامعًا ويمسك بيدها طفل جميل، وقفت تسألها باستغراب:
- من هذا الطفل يا أمي؟!
التفتت إليها وهي تبتسم ونور قد أضاء وجهها وهيبة قد غطت المكان تشير بيدها:
- هذا أمين يا دجى!
أدار وجهه لها وضحك ببراءة...
همست في سرها: "أبي ما زال موجودًا! لكن أين هو؟ أين هو؟!... أين أجده؟ استيقظت والسؤال يتردد في رأسها.
هو الليل الذي لا تعرف فيه طعم الراحة، يأتي ويحمل معه رسائل مبهمة تزيد من تشتتها وحيرتها.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.