رواية باب الشمس للأديب اللبناني إلياس خوري ليست عملًا أدبيًّا فحسب؛ إنها أرشيف روائي للذاكرة الفلسطينية الممتدة، وواحدة من أهم روايات النكبة الفلسطينية التي كُتبت.
في هذا المقال، نقدم قراءة متعمقة ضمن النقد الأدبي العربي لهذا العمل الملحمي، مع ملخص رواية باب الشمس، وتحليل لأساليبها الفنية، ودورها نموذجًا للأدب الفلسطيني الحديث وروايات المقاومة، ونشير إلى أهم السمات والأفكار في الرواية.
لم يكن الكاتب اللبناني الكبير إلياس خوري يقصد أن يصنع ملحمة كبيرة عن النكبة الفلسطينية، وإنما كان يحاول كتابة رواية تتحدث عن قصة حب بين رجل وزوجته، وإذا به يستمع إلى كثير من الشهادات عن ظروف التهجير والنكبة وقصص الفلسطينيين في المخيمات؛ وهو ما جعل إلياس خوري يتورط في هذا العمل المدهش الذي عدَّه كثير من النقاد والقراء والباحثين هو العمل الأكثر تسجيلية عن النكبة الفلسطينية، على الرغم من كثرة الأعمال التي كتبت عن القضية الفلسطينية، سواء من كُتاب فلسطينيين أو عرب.
عن الكاتب إلياس خوري
يُعد إلياس خوري من أكبر الروائيين والكتاب العرب في القرن الـ 20، وهو أيضًا ناقد ومفكر ومسرحي ومناضل سياسي، إضافة إلى عمله مدرسًا في بعض الجامعات في أمريكا وأوروبا والدول العربية، وكان من أكبر المؤيدين للمقاومة الفلسطينية.

تُعد روايات إلياس خوري أعمالًا ملحمية يختلط فيها الواقع التاريخي بالخيال الفني، وعلى رأسها تأتي رواية (باب الشمس) التي ترصد النكبة الفلسطينية، ورواية (يالو) التي ترصد بدورها جرائم الحرب الأهلية في لبنان، وتكشف كثيرًا من ممارسات التعذيب. وكان إلياس خوري معروفًا باستخدام اللهجات المحلية في رواياته على غرار أعمال الكاتب المصري يوسف إدريس.
توفي إلياس خوري عام 2024 عن عمر ناهز 76 عامًا بعد مشكلات صحية جعلته يلازم المستشفى شهورًا طويلة قبل وفاته.
عن رواية باب الشمس
لم تستطع أي رواية عربية كتبت عن القضية الفلسطينية أن ترتقي إلى مستوى رواية (باب الشمس) للأديب اللبناني الراحل إلياس خوري التي نُشرت أول مرة عام 1998 وتجاوز عدد أوراقها 500 ورقة، وهو ما يعد استثناء بين كتابات إلياس خوري، وهو ما يوضح أيضًا أن الأمور قد تصاعدت في أثناء كتابة الرواية التي لم ينوِ في بدايتها أن تصل إلى هذا الحجم، لكن الأحداث والشهادات والقصص الجانبية التي لم يستطع الاستغناء عن أي منها كان لها دور كبير في حجم الرواية ومساحتها السردية.
تُعد رواية باب الشمس تصويرًا وتسجيلًا شبه كامل للمأساة الإنسانية التي بدأت عام 1948 بأحداث النكبة، مرورًا بكثير من الأحداث والتداعيات والثورة الفلسطينية التي أفرزت آلاف القصص الجانبية التي ترتبط جميعها بقصة الوطن الجريح. وبذلك يسرد إلياس خوري في روايته (باب الشمس) كثيرًا من المآسي والمظالم والأحداث الهائلة والوقائع الحقيقية التي تمتزج بالواقع الفني التخيلي بواسطة الراوي تارة، وأبطال وأصحاب هذه القصص تارة أخرى.

جاءت رواية باب الشمس ضمن قائمة أفضل 100 رواية عربية في القرن الـ 20، وكان ترتيبها الـ 42 حسب اتحاد الكُتاب العرب؛ نظرًا لقدرة الرواية على رسم الواقع الفلسطيني التاريخي دون أية مواربة أو خجل بفضل كثير من التفاصيل الواقعية الموجعة والمشاهد التي تجعل القارئ مشاركًا في الأحداث بشكل مدهش، فيعيش مشاعر الخوف والقلق الهروب، ويستمع إلى أصوات طلقات النيران والقصف المستمر بلغة شاعرية رائعة تصل إلى حد البساطة العبقرية، وهو ما يميز أعمال إلياس خوري عامة، ويميز رواية باب الشمس خاصة، ولهذا السبب، يعدها كثيرون رواية النكبة الفلسطينية بامتياز.
باب الشمس تحليل: الأسلوب الفني والسرد التاريخي
يقدم باب الشمس تحليل الذاكرة الفلسطينية بتقنيات سردية متقدمة، فتعتمد الرواية على أسلوب تيار الوعي أحيانًا، وأسلوب التداعي والمونولوج الطويل أحيانًا أخرى، وهو ما يجعلها مثالاً مهمًا على استخدام تيار الوعي في الرواية العربية؛ لذا فإن الحوار يتراجع قليلًا إلى أسلوب القلم، وكأنك تستمع إلى الحكاية من الراوي وليس من الحوار الذي يدور بين الشخصيات الموجودة في الرواية. لكن السياق العام في الرواية لا يجعل القارئ ينشغل كثيرًا بالصياغة الأدبية بقدر ما يتفاعل معها في الأحداث والتفاصيل والتورط في عالم الحزن والألم والحب والتضحية، فيمكن للحياة أن تنمو وتزدهر حتى في أجواء الخوف والقصف والحرب والتسلل طالما كان هناك أمل وإيمان.
من أكثر الأمور التي تميز رواية باب الشمس -ولعل هذا الأمر هو ما جعل معظم من قرأ الرواية يعدها فعلًا رواية (النكبة الفلسطينية)- هو قدرة الكاتب إلياس خوري على مزج كل الأحداث التاريخية في سياق روائي واحد. فترى في الرواية ثورة 1936، وقضية بيع الأراضي لليهود، ورحلة النزوح، وحرب 48، ثم تشاهد معاناة اللاجئين في البلاد العربية المختلفة، ومعاناة الحكم العسكري لمن لم يخرج من فلسطين.

وترى أيضًا محاولات العودة المستمرة، ثم قيام الثورة الفلسطينية، ثم اجتياح لبنان، وتشاهد أيضًا مجزرة صبرا وشاتيلا، وحرب المخيمات، وكيف كان صراع ياسر عرفات، وكيف انتهت الحرب اللبنانية الأهلية، وتقترب من تسلط المخابرات السورية في لبنان والمخيمات الفلسطينية، وعودة المخيمات بعد حرب الخليج إلى نقطة الصفر، والسقوط السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية، كل هذه الأمور تم تضفيرها بعناية في عمل روائي واحد هو رواية (باب الشمس)، وهذا ما يجعلها نموذجًا فريدًا لـ الرواية العربية السياسية.
من الرواية إلى الشاشة: فيلم باب الشمس ليسري نصر الله
لم تقتصر أهمية باب الشمس على عالم الأدب، بل امتدت إلى السينما، فتحولت إلى فيلم سينمائي ملحمي عام 2004 من إخراج المخرج المصري الكبير يسري نصر الله. عُرض الفيلم في مهرجان كان السينمائي ونال إشادات نقدية عالمية واسعة، وعدَّه الجمهور واحدًا من أهم الأفلام التي تناولت القضية الفلسطينية. نجح الفيلم في ترجمة روح الرواية المعقدة إلى لغة بصرية مؤثرة، ما أسهم في وصول قصة باب الشمس إلى جمهور عالمي أوسع.

صوت المؤلف: ماذا قال إلياس خوري عن رواية باب الشمس؟
«أنا كاتب ملتزم بالمعنى الإنساني للكلمة، لم أكتب رواية باب الشمس لأنني ملتزم فلسطينيًا. أبدًا، ولكن لأنني ملتزم بإنسانيتي، ومن لا يلتزم مع فلسطين فلا بد أن عنده مشكلة في إنسانيته وليس في عروبته، وحين ندرس النكبة فباعتبارها لا تزال تحدث الآن».
«نحن ندعم شعب فلسطين لأنهم إخوتنا ولأنهم شعب مظلوم ومقهور. وبالنسبة لنا ما تتعرض له فلسطين هو غزو خارجي تمامًا كما غزو الإفرنجة لبلاد الشام خلال الحروب الصليبية».
«بطلة رواية باب الشمس حقيقية إلى درجة أن هناك من كان يصر على أنها موجودة وأنني أعرفها، وهذا الأمر لا يزعجني بل يفرحني كثيرًا، ويعني أنني رسمت شخصية مقنعة. لا بد أن الشخصيات لها جانب من الواقع، لكن لا بد من تجنيحها بالخيال. فما فضيلة أن أكتب ما أرى أو أن أرى قصصًا أعرفها؟».
«رواية باب الشمس كتبتها وكان برأسي أمر واحد وهو أن أكتب قصة حب. كنت أتساءل دائمًا: لماذا قصص الحب عند العرب مخترعة وليست حقيقية؟ ولماذا لا أكتب بكل بساطة عن حب رجل لزوجته؟ وهذا ما كان».
ملخص رواية باب الشمس
تدور أحداث رواية باب الشمس عن يونس المقاوم الفلسطيني الذي يجد نفسه بعيدًا عن أهله وزوجته، فتقطعت بينهم السبل، فهو مع مجموعته المناضلة في سوريا، وأمه وأبوه وزوجته في قرية صغيرة تابعة للجليل، لذا كان عليه أن يبدأ كثيرًا من الرحلات المغامرة التي تتسم بالخطورة الشديدة عبر الحدود لكي يلتقي بزوجته نهيلة، ويصبح يونس الأسدي أحد المتسللين الذين شاعت حكاياتهم في خمسينيات القرن الماضي بأعداد كبيرة عبر الأسلاك الشائكة.

ولا يتوقف الأمر عند رحلة ذهاب أو عودة، وإنما تتحول قصة يونس الأسدي إلى ملحمة من الصمود والعشق والمقاومة في الظروف والطبيعة الجغرافية والوجود الصهيوني على مدار 30 عامًا، فيلتقي يونس الأسدي بزوجته في مكان ما بين الجبال يشبه المغارة يطلق عليه يوسف الأسدي اسم (باب الشمس)، وفي أثناء هذه الأحداث والسنوات الطويلة ينجب يوسف الأسدي من زوجته كثيرًا من الأولاد والبنات، وهو ما يعد نوعًا من أنواع المقاومة ونتيجة للتمسك بالأرض والوجود والوطن، وهو ما يمكن أن يكون رمزًا للقضية الفلسطينية.
بحكاية يونس الأسدي يقوم إلياس خوري بإدخال كثير من القصص والحكايات الحقيقية التي جمعها من أصحابها في شهادات حية ضمت كثيرًا من قصص الصلابة التي يرويها الدكتور خليل الذي يجالس يونس الأسدي في المستشفى في أيامه الأخيرة، ويروي له عن أبيه وأمه وجدته وعشيقته (شمس)، فتحضر هذه الشخصيات في رواية الدكتور سليم وكأنها جزء من العمل الأدبي، ثم إنها جزء من القضية الفلسطينية والملحمة الكبيرة، إضافة إلى حكايات الفلسطينيين الذين صادفهم أو حتى سمعهم، وبذلك يختلط الواقع التاريخي بالخيال الأدبي.
في هذه الحال يحاول الدكتور خليل أن يستخدم الحكي كدواء لشفاء يونس الأسدي الذي يبدو على وشك الموت، وكأنه القضية الفلسطينية ذاتها، وكأن هذه الحكايات التي جرى إيقاظها بالحكي هي ما تعيد للجسد روحه وتحافظ على بقائه في دنيا الأحياء.
وفي الأخير يموت يونس الأسدي كما ماتت زوجته نهيلة وكما ماتت شمس، وكأن كاتب الرواية إلياس خوري يريد أن يخبرنا أن رحيل هذه الشخصيات بأجسادها لا يمثل أبدًا هزيمة القضية وإنما السكوت عن هذه القصص والحكايات هو الموت الحقيقي، لذا علينا أن نحافظ على بقاء حكاية هذا الوطن ببقاء حكايات أبنائه الذين رحلوا؛ لتبقى حكاية الوطن حية على الدوام.
اقتباسات من رواية باب الشمس
- «نخترع حكايات تعاستنا ونصدقها، نصدق أي شيء كي لا نراه، نغمض عيوننا ونمشي فنرتطم ببعضنا بعضًا».
- «هل تعتقد أننا نستطيع أن نصنع وطنًا من هذه الحكاية الغامضة؟ ولماذا علينا أن نصنعه؟ الإنسان يرث بلاده كما يرث لغته، لماذا نحن فقط من بين كل شعوب الأرض علينا أن نخترع وطننا كل يوم وإلا ضاع كل شيء ودخلنا في النوم الأبدي؟».
- «الحرية يا أبي هي أن نكون قادرين على الخطأ. الآن أشعر بحريتي لأنني معك، أخطئ كما أحب، وأتراجع عن خطئي متى أردت».
- «حين يموت من نحب يموت شيء فينا، هذه هي الحياة، سلسلة طويلة من الموت، يموت الآخرون فتموت أشياء فينا، وكلما يموت من نحبهم تموت أعضاء من أجسادنا. الإنسان لا ينتظر موته بل يعيشه، يعيش موت الآخرين داخله، وحين يصل إلى موته يكون قد بُتر كثير من أجزائه ولم يبق منه إلا القليل».
تظل رواية باب الشمس علامة فارقة في تاريخ الأدب العربي الحديث، ووثيقة إنسانية لا غنى عنها لفهم القضية الفلسطينية. إنها عمل فني يثبت أن الحكايات الشخصية وقصص الحب والصمود هي السلاح الأقوى في مواجهة محاولات محو الذاكرة، وأن رمزية الشخصيات في باب الشمس (يونس ونهيلة وخليل) هي رمزية الوطن نفسه، الذي يبقى حيًا طالما بقيت حكاياته تُروى.
وفي نهاية هذه القراءة السريعة في رواية (باب الشمس) للكاتب اللبناني إلياس خوري نرجو أن نكون قدمنا لك المتعة والإضافة، ويسعدنا كثيرًا أن تشاركنا رأيك في التعليقات عن أفضل الروايات العربية التي ترشحها للقراءة، إضافة إلى مشاركة المقال على مواقع التواصل لتعم الفائدة الجميع.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.