رواية «الصبيان ».. ج7

نبدأ من حيث انتهينا في الجزء السابق..

....

قال نادر: «ياه… ما هذا الحظ… ما الذي أتى به في هذه الساعة؟». ثم أخذ زجاجة الرمال التي أهدتها له ياسمين، ووضعها في جيب البنطلون، ثم نهض من مكانه محاولًا الانصراف، لكن عدنان قال له: «اجلس يا نادر، ماذا بك؟ إننا لن نذهب إلى أي مكان… ثم إنه من غير اللائق أن تنصرف بمجرد مجيئه… صدقني، محمود شخص طيب، صحيح أنه مزعج ومتهور بعض الشيء، لكنه طيب وعلى خلق».

سكت نادر على مضض وجلس في مكانه، فتح نادر الباب واستقبل محمود، الذي دخل يصيح بصوت عالٍ: «كيف حالك يا ابن عمي؟». ثم التفت إلى نادر وقال: «أنت هنا يا صديقي؟ كيف حالك؟». رد نادر: «الحمد لله».

أتت والدة عدنان ببعض العصير والفواكه وقدمته لهم، سلَّمت على محمود وسألته عن العائلة ثم انصرفت. بعدها انطلق محمود في الكلام، قال: «عندي لكم خبر مفاجأة».

فقال عدنان: «خيرًا! هل هو خبر جيد أم خبر سيئ؟». في حين ظل نادر صامتًا.

أكمل محمود: «رحلة إلى مدينة القاهرة يوم الجمعة. سنزور فيها أحد الأسواق التجارية الشهيرة هناك، المحلات الفخمة والمطاعم الأجنبية والملاهي والألعاب».

لمعت عينا نادر، لكنه لم يُبدِ اهتمامًا، فقد أصبح يشك في كلام محمود. فانبرى عدنان وسأل محمود، الذي كان لا يزال يصوِّر لهم الرحلة والمتعة والمرح الذي سيحصلون عليه: «رحلة! كيف؟ مع من؟».
قال محمود: «مع مشرف المدرسة، الأستاذ عبد المحسن، فقد قرر أن ينظِّم رحلة للقاهرة بمبلغ بسيط، خمسون جنيهًا فقط لكل فرد. سوف نذهب في أتوبيس سياحي في الصباح ونعود في المساء».
فكر عدنان هُنيهة ثم قال: «هذه فكرة جيدة، أنا لم أزر مدينة القاهرة.. أليس كذلك يا نادر؟».
صمت نادر لحظات لا يريد أن يبدي رأيه، لكنه قال في النهاية: «نعم، إنها جيدة، ولكن…».
فقال محمود: «لكن ماذا؟ إننا في إجازة، وهذه فرصة لنستمتع بيوم خارج القرية ونرى أشياء جديدة وجميلة».

فقال نادر: «لا بد أن أسأل والدي أولًا».
قال محمود: «باقي ثلاثة أيام فقط على موعد الرحلة، ولا بد أن نعطي الأستاذ عبد المحسن أسماءنا غدًا على أقصى تقدير قبل أن ينتهي العدد المطلوب».

قال عدنان بحماسة: «أعتقد أن أبي لن يمانع، أنا موافق، ضع اسمي. وأنت يا نادر، ألم يكن والدك قد وعدك برحلة إلى المدينة؟ ها هي قد جاءت الفرصة، أنا واثق أنه لن يمانع في ذهابك».
قال نادر: «سوف أسأله عندما أعود للمنزل، وأخبركم غدًا».

قال محمود: «وهو كذلك، إنها ستكون رحلة عظيمة يا أصدقائي».

أقنع نادر أباه، الذي وجدها فرصة ليحقق وعده لنادر برحلة إلى القاهرة مكافأة على النجاح، وبعد أن وافق، قال له نادر: «لم يبقَ إلا أن تشتري لي الهاتف المحمول».
فقال والده: «نعم، أنا عند وعدي، لكن أمهلني بعض الوقت، اذهب إلى الرحلة، وأعدك أن أشتري لك الهاتف قبل أن تنتهي الإجازة».
فكر نادر في ياسمين، وتمنى أن تشاركهم في الرحلة. «إنها ستكون فرصة جيدة لأتكلم معها طوال اليوم».

في الصباح، وهو ذاهب إلى عدنان، قرر أن يخبر ياسمين عن الرحلة ويدعوها للذهاب معهم، خصوصًا أن الرحلة سيشرف عليها الأستاذ عبد المحسن، المشرف الاجتماعي للمدرسة. وفعلًا، عرض عليها الأمر، قالت له ياسمين: «إنها فكرة جيدة، لكن أبي لن يوافق، فهو لا يحب أن أذهب إلى أي مكان وحدي».
قال نادر: «أستطيع أن أحدثه وأقنعه بالأمر».
قالت: «لا، لكني سأخبر أمي أولًا».
وفعلًا، أخبرت ياسمين والدتها، التي أقنعت والدها بأن الرحلة ستكون تحت إشراف المدرسة، وهي إلى ذلك تطمئن لوجود نادر مع ابنتها في الرحلة، فوافق في نهاية الأمر.

في صباح يوم الجمعة، تجمع الأصدقاء أمام باب المدرسة التي تقع على أطراف القرية، بالقرب من الطريق الرئيس الذي يصل القرية بالمدن المجاورة. كانت الشمس تبعث بأشعتها الدافئة على حقول الذرة بسيقانها الطويلة، وفي وسطها أبراج الحمام الذي استيقظ لتوه وخرج في مجموعات وراح يطير في حركة دائرية كأنه يحتفل بقدوم الصباح. كانت الساعة تقترب من السابعة صباحًا.

وقف نادر بجوار ياسمين، التي كانت ترتدي بنطلونًا من الجينز الأزرق وتيشيرت أبيض مطبوع عليه كلمة بالإنجليزية تقول «كل شيء ممكن». وقبعة من القطن تغطي جبينها، ونظارة شمسية تعكس ضوء الشمس. راح نادر ينظر إليها بإعجاب، ويمدح مظهرها، ويعبر عن سعادته بوجودها في الرحلة لقضاء يوم جميل.

وقف الأستاذ عبد المحسن وحوله بعض التلاميذ، وفي يده ورقة مدوَّن بها أسماء أفراد الرحلة في انتظار الأتوبيس الذي استأجره من إحدى الشركات، في حين اختفى محمود خلف إحدى أشجار السنط الكبيرة، التي تصطف على جانبي الطريق كأنها لوحة فنان راعى فيها التماثل والنسب ببراعة شديدة.

وقف محمود وراح يلتفت حوله، ثم أخرج سيجارة من جيب بنطلونه، أشعلها بعود ثقاب، وأخذ ينفث دخانها في الهواء وهو ينظر إلى جمع الرحلة من بعيد.
لمحه عدنان فذهب إليه على الفور، وقال له: «ماذا تفعل؟ ما هذا؟ تدخن السجائر؟».
رد محمود وهو يضع إصبع السبابة على فمه مشيرًا إلى عدنان كي يخفض صوته ولا يخبر أحدًا.
قال عدنان: «يا ابني، هذا خطأ. من علَّمك هذا؟».
قال محمود: «الرجال يدخنون، وأنا أصبحت رجلًا. ألم تشاهد أبي وأباك وهم يدخنون ويشربون القهوة؟ إنها عادة الرجال».

قال عدنان: «إنها عادة سيئة، وأمي أخبرتني أنها تضر بالصحة، ثم إن لها رائحة كريهة».
كان محمود قد انتهى من تدخين السيجارة، فألقاها فوق الحشائش أسفل الشجرة، ثم داس عليها بقدمه وقال له: «خلاص، هيا بنا».

بعد عدة دقائق، وصل أتوبيس الرحلة ووقف أمام باب المدرسة. كان ماركة مرسيدس من النوع القديم، تبدو عليه آثار الزمن. صوت الموتور كان غير منتظم، كأنه يأخذ أنفاسه بصعوبة، لكن الطلاء كان حديثًا، ويظهر اسم الشركة على جانبي الأتوبيس مكتوب بخط كبير «الغزال للرحلات».

راجع الأستاذ عبد المحسن الأسماء، وصعد الجميع إلى الأتوبيس. جلس نادر بجوار ياسمين، التي فرحت لجلوسها بجوار الشباك، لتشاهد معالم الطريق وتستمتع بالهواء.

انطلق السائق، الذي كان يناديه الأستاذ عبد المحسن بـ«عم جميل»، وراح يشق الطريق الزراعي باتجاه القاهرة، لكن ببطء شديد.
فقال نادر مازحًا مع ياسمين: «مفروض يسمّوا الشركة «السلحفاة للرحلات» وليس «الغزال للرحلات»، أعتقد أننا سنصل إلى المدينة بعد ثلاثة أيام».
فضحكت ياسمين وقالت: «صحيح…».

ثم سمعوا الأستاذ عبد المحسن، الذي كان يجلس خلف السائق، يتحدث معه ويقول له: «ألا يمكن أن تزيد من السرعة قليلًا؟».
ورد عليه السائق قائلًا: «إن الأتوبيس خرج لتوِّه من الصيانة بعد تجديد الموتور، ومن غير المناسب أن أزيد من السرعة حتى أقطع به مسافة معينة من الكيلومترات، ولكن أعدك أن أسرع في طريق العودة».

قال محمود، الذي كان يجلس على مقربة منهم: «أنا أستطيع أن أسبق هذا الأتوبيس إذا ركضت بجانبه! إن سيارة يجرُّها حصان تستطيع أن تسبقه!».
أخذ بعض التلاميذ يضحكون ويسخرون من سرعة الأتوبيس العجوز… فردَّ عليهم عم جميل بقوله: «المهم نوصل بالسلامة».
لكن لم تمضِ نصف ساعة حتى توقف الأتوبيس فجأة في وسط الطريق.

سأل الأستاذ عبد المحسن عم جميل عن الأمر، فقال له: «خير إن شاء الله، سوف أفحص الموتور، لعل أحد الأسلاك تحرَّك من مكانه».
نزل عم جميل وفتح غطاء الموتور، وأخذ يفحص أجزاء الموتور بيده ويحكم ربط كابل البطارية، ثم عاد إلى مقعده، وحاول أن يشغل الموتور، لكن دون جدوى.
قال الأستاذ عبد المحسن: «ما العمل يا عم جميل؟».

قال عم جميل: «سوف أتصل بالشركة ليرسلوا لنا ميكانيكيًّا، أو يرسلوا أتوبيس آخر يكمل الرحلة. من الواضح أن العطل في الموتور».

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

شكرا جزيلا لمروركم الكريم 🍀⚘️🌺🏵🌹
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة