نبدأ من حيث انتهينا في الجزء السابق..
............
عندما عاد نادر إلى المنزل لم يخبر أمه بما حدث، ولكن أخته سامية لاحظت البلل على ملابسه وقالت له ساخرة: ما هذا؟ هل وقعت في الماء؟ فارتبك وتلعثم قليلًا ثم قال لها: لا طبعًا، لقد كنت أغتسل وتناثر الماء على ملابسي، توقفي عن تفحصي كلما عدت من الخارج. كانت سامية في الحقيقة ليس لديها ما يشغلها بعد أن تساعد أمها في أعمال المنزل سوى مراقبة كل شيء حولها، حتى إنها كانت تجلس إلى النافذة بالطابق الأسفل من البيت تراقب المارة وتتسمع الأخبار في الشارع، كانت الأم كثيرًا ما تنهرها عن ذلك، ودائمًا تدعو الله أن تكبر وتتزوج حتى تتخلص من مسؤوليتها.
صعد نادر إلى الجدة ليجلس معها ويبتعد عن أسئلة أخته وأمه.
وجدها تجلس كعادتها بجوار النافذة تعبث بمسبحة في يدها وتستمع إلى راديو صغير تضعه بجانبها يصدر منه صوت قارئ للقرآن الكريم. جلس نادر أمامها وقبَّل يدها، وهي تربت على كتفه وترحب به، بعد أن انتهى القارئ أغلقت الراديو وسألته: قل لي يا نادر ماذا فعلت اليوم في الأرض مع أبيك؟
قال: لم أفعل شيئًا.. لقد أوصلت له الطعام فقط ومشيت. ثم حكى لها ما حدث معه في النهر وشرح لها كيف نجا من الغرق هو وأصدقاؤه.
فتنهدت الجدة وتعجبت ثم قالت بهدوئها المعتاد: كيف فعلت ذلك يا ولدي؟ ولماذا وافقت أصدقاءك على هذه الحماقة؟
لقد كان عليك أن تمنعهم وتنصحهم بعدم ركوب هذا المركب الصغير بمفردكم، وأنتم صغار لا تعرفون شيئًا عن المراكب، ولا تجيدون حتى السباحة في الماء.
قال نادر: إنه ذلك الشخص المزعج محمود ابن عم عدنان الذي ألحَّ علينا ولم يعطِ فرصة لأحد أن يعترض أو يبدي رأيه.
قالت: لا يا نادر يا ولدي، لا بد أن تتعلم أن تكون حازمًا وحاسمًا ولا تسمح لأحد بالتشويش على رأيك. عندما رفضت في البداية ركوب المركب كان يجب عليك أن تصمم على رأيك، ولا تسمح لأحد أن يؤثر فيك لتفعل شيئًا أنت ترفضه.
قال نادر: معك حق يا جدتي. لقد أخطأت فعلًا وندمت على ذلك، ولن أخرج مع هذا الشخص مرة أخرى.
قالت: نعم يا ولدي، يجب ألا تصاحب إلا من يشبهونك فى طبيعتك وأخلاقك.
قال لها: هل معنى هذا يا جدتي أن الواحد يختار أصدقاءه؟ أنا أحب أن يكون الناس كلهم أصدقائي.
قالت: لا يا ولدي، أن تحب كل الناس وتحب لهم الخير هذا أمر جيد، لكن أن تصاحب كل الناس فهذا أمر سيئ، الناس فيهم الحسن وفيهم السيئ، فإذا صاحبت شخصًا سيئًا فلن يجلب لك إلا الأذى، مثل هذا الصاحب يجب أن تتجنبه وتبتعد عنه، ولكي تستطيع أن تختار الصديق الجيد إليك هذه النصيحة: الصديق الجيد هو من تتعلم منه الأشياء الجيدة والأخلاق الحسنة.
قال: الآن فهمت يا جدتي. ثم قبَّل يدها ونهض من مكانه، وقال: سوف أذهب لأحضر لك كوب اللبن الساخن الذي تحبينه، وبعدها أتعشى وأنام.
بعد عدة أيام عادت ياسمين من المصيف، وبينما كان نادر ذاهبًا إلى عدنان لزيارته كالعادة رآها تقف في شرفة المنزل وهي ترتدي فستانًا مزركشًا باللون الأصفر والأزرق والأحمر، وتضع على رأسها إيشاربًا أصفر يتدلى منه حلي ذهبي، وأساور ملونة من الخرز، كأنها عروسة مرسومة في إحدى المجلات. سلَّم عليها ووجهه يتهلل فرحًا، سلَّمت عليه بسعادة وإعجاب.قال لها: ما هذه الأناقة والجمال! فستانك رائع، وهذا الإيشارب والأساور الجميلة.
ابتسمت ياسمين في خجل وقالت: هل أعجبتك ملابسي حقًا؟ لقد اشتراها لي أبي من الإسكندرية.
قال لها: إنها جميلة جدا عليكِ. أنت تحبين الحلي؟ قالت: جدًا جدًا.
قال: إنها تليق بك وبرقتك.
قالت له: شكرًا لك يا نادر، أنت شخص لطيف جدًا. حدثني عنك، ماذا تفعل في الإجازة؟ وقبل أن يجيب نادر سمع صوت عدنان من شباك منزله المجاور لمنزل ياسمين ينادي عليه. قالت ياسمين: لا بأس اذهب إلى صديقك. قال نادر: سوف آتي غدًا ونكمل كلامنا.
قبل أن يغادر قالت له ياسمين: انتظر هنا لحظة، ثم دخلت مسرعة داخل المنزل، وما هي إلا ثوانٍ حتى عادت وبيدها زجاجة صغيرة من الزجاج مملوءة بالرمال، مكتوب داخلها باللون الأزرق كلمة الإسكندرية، أعطتها إياه ثم قالت: هذه هدية بسيطة اشتريتها لتذكرني بالمصيف، وأحب أن أهديها إليك.
أمسك نادر الزجاجة وراح ينفحصها وقال: إنها جميلة جدًا. كنت أود أن أذهب إلى الإسكندرية. هل هذه من رمال شاطئ البحر؟
قالت: أعتقد ذلك، فهي مبللة بعض الشيء.
قال لها: شكرًا لك يا ياسمين.
في اللحظة نفسها خرجت أم ياسمين السيدة كريمة من الشرفة وشاهدت نادر، سلمت عليه ودعته للدخول إلى المنزل، لكنه شكرها واعتذر لأن عدنان ينتظره.
قالت له: على العموم تستطيع أن تأتي في أي وقت يا نادر وأوصته بتحية والدته وعائلته ودعوتهم للزيارة. استأذن نادر وانصرف إلى بيت عدنان وهو منفرج الأسارير، استقبله عدنان وهو يكتم ابتسامة تظهر على ملامح وجهه ثم بادره قائلًا: لقد عادوا مساء أمس نحو الساعة العاشرة.
انتبه نادر لكلام عدنان وقال له: مَن؟ مَن الذين عادوا؟
قال عدنان: ياسمين وعائلتها التي كنت تتمنى أن تراهم في كل يوم تأتي إلى هنا؟
قال نادر: آه.. عدت مرة أخرى لكلامك الفارغ. لقد كانت مصادفة رأيتها تقف في الشرفة، فذهبت لألقي عليها التحية. أخرج من رأسك هذه الأفكار، أرح نفسك، إنها زميلة وصديقة أعتز بها فقط. ثم أردف قائلًا ليغير دفة الحديث: الحمد لله أن محمود ابن عمك غير موجود.
ضحك عدنان وقال: أنت ما زلت متأثرًا بمغامرة المركب. قال نادر: لا.. لا.. لكنه شخص مختلف عنا، إنه مزعج، كثير الكلام، صوته عالٍ، لا يريد أن يتكلم أحد سواه.
لم ينتهِ نادر من كلامه حتى سمع صوت جرس الباب مع طرقات متتالية على خشب الباب، وصوت محمود من خلف الباب يصيح بصوت عالٍ: افتح يا عدنان.. افتح يا عدنون.
فقال نادر: ياه.. ما هذا الحظ!
جميلة جدا 👏
شهادة اعتز بها شكرا جزيلا لحضرتك 🏵🏵🏵
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.