نبدأ من حيث انتهينا في الجزء السابق..
.............
في صباح اليوم التالي استيقظ نادر قبيل الظهر، فوجد أمه تصنع الخبز وتعمل على تحضير طعام الغداء، فانحنى على كتفها وأمسك يدها وراح يقبّلها وهو يقول: «صباح الخير يا أمي».
قالت: «صباح الخير يا نادر، هل أخذت ما يكفيك من النوم؟»
قال: «نعم يا أمي، لقد نمت كثيرًا جدًّا».
قالت: «حسنًا، اذهب واغتسل وتناول طعام الإفطار حتى أحضّر الطعام الذي ستأخذه لأبيك في الحقل».
بعد نصف ساعة، كان نادر يركب الحمار ومعه لفافة الطعام متجهًا إلى الحقل. كان نادر يتعجب من الحمار الذي يعرف الطريق من البيت إلى الحقل بدقة دون أن يوجّهه، يتفادى الحفر وبقع المياه الصغيرة التي يصادفها في الطريق. كان نادر يقول للحمار: «أنت حمار ذكي جدًّا، سأسميك من الآن ذكي... هل توافق على هذا الاسم؟»
كان الحمار يهز رأسه فعدها نادر موافقة من الحمار.
عندما وصل إلى الحقل، قال للحمار: «توقَّف يا ذكي، ها قد وصلنا».
سمعه أبوه فقال ضاحكًا: «مع من تتحدث يا نادر؟ من ذكي هذا؟»
قال نادر: «ذكي هو الحمار، لقد اخترت له اسم ذكي ووافق عليه».
قال أبوه: «حسنًا... حسنًا، هذا اسم جيد، تعالى نأكل»، وأخذ من يده لفافة الطعام وراح يفتحها.
لكن نادر كان على عجلة من أمره، فهو على موعد للقاء صديقه عدنان للتنزه عند شاطئ النهر الكبير.
قال لأبيه: «لقد تناولت الفطور تَوِّي في المنزل، لست جائعًا، سأذهب لزيارة صديقي عدنان لنلعب سويًّا... هل نسيت؟ إننا في إجازة يا أبي».
قال أبوه: «حسنًا، اذهب، ولكن لا تتأخر».
وصل نادر إلى بيت عدنان، وأخذ ينظر إلى شباك بيت ياسمين المغلق قبل أن يلتقي عدنان، الذي كان يجلس داخل المنزل مع ابن عمه محمود الذي أتى لزيارته فجأة.
تعرّف نادر على محمود، الذي يضاهيه في الطول تقريبًا على الرغم من أنه يكبره بعامين.
قال لهما عدنان: «سوف أرتدي ملابسي سريعًا لنذهب إلى شاطئ النهر».
شاطئ النهر كان يعج بالشباب والعائلات الذين أتوا ليستمتعوا برؤية المراكب الشراعية الكبيرة والمراكب الصغيرة ذات المجاديف، التي يؤجرها أصحابها بالساعة للراغبين بعمل رحلات نيلية.
الباعة في كل مكان يبيعون المرطبات والحلوى لرواد المكان.
جلس الثلاثة على إحدى المصاطب الحجرية في مواجهة مياه النهر، ثم قام محمود فجأة وقال لهم: «ما رأيكم نستأجر مركبًا صغيرًا ونمضي بعض الوقت في النهر؟»
قال عدنان: «لكن...»
قال محمود: «لكن ماذا؟ إنها مغامرة شائقة».
قال نادر: «أخشى النزول إلى النهر، فأنا لم أتعلم السباحة بعد».
قال محمود: «ومن قال إننا نحتاج إلى السباحة؟ أنا أيضًا لا أجيد السباحة في الماء، نحن سنسير بالمركب وسط المياه لا أكثر».
قال عدنان: «ألا يمكن أن تنقلب المركب ونسقط في الماء؟»
قال محمود: «مستحيل! النهر ليس به أمواج، ولا سمك كبير يقلب المركب... تعالوا... تعالوا»، ثم وثب محمود من مكانه وتبعه عدنان ونادر إلى حيث أصحاب المراكب.
نادى على رجل منهم وقال: «يا عم... نريد أن نستأجر مركبًا مدة ساعة».
أجاب الرجل: «تفضّلوا، سوف أرسل معكم ابني حسّاني ليقود المركب، وسآخذ منكم ستين جنيهًا، عشرون لكل فرد».
قال محمود: «لا... لا، نحن سنقود المركب، نريد مركبًا جيدًا فقط».
قال الرجل: «أأنت واثق أنكم تعرفون التجديف جيدًا؟»
عندئذ وكز عدنان محمود وقال له: «أنا لم أركب مركبًا من قبل، ولا أعرف كيف يكون التجديف»، وتبعه نادر قائلًا: «الأفضل أن يأتي معنا أحد يقود المركب».
قال محمود: «لا... لا، أنا أستطيع أن أقود المركب... لا تخافا، الأمر فقط يحتاج إلى قوة».
استسلم عدنان ونادر أمام إصرار محمود وحثّه لهم على الموافقة.
نزل الثلاثة داخل المركب الصغير الذي أخرجه لهم المراكبي، جلس محمود في وسط المركب وأمسك مجدافي المركب بكلتا يديه، وجلس عدنان في طرف، ونادر في الطرف الآخر.
ثم دفع المراكبي المركب بيديه هو وابنه حسّاني ليبتعد عن المرسى.
بدأ محمود يجدف ويوجه المركب بنشاط وحيوية، بدا أنه متحكم في المركب، مما جعل عدنان ونادر يضحكان ويضع كلٌّ منهما يده في الماء يأخذه بيده ويرشه في الهواء.
بعد مدة قصيرة، أخذ محمود يتصبب عرقًا، والمركب يسير مع تيار الماء ويبتعد أكثر عن الشاطئ. عندها انتبه نادر وقال لمحمود: «لقد ابتعدنا عن المرسى كثيرًا، يكفي هذا، عد بنا إلى الشاطئ يا محمود».
قال محمود وهو يجدف بكل قوته: «إنني أحاول، ولكن المركب لا يستجيب. إنني لم أقصد الابتعاد هكذا عن المركب، لكن التيار يجرف المركب».
هنا بدا الذعر على وجه نادر وعدنان.
قال نادر: «ألم تقل إنك تستطيع أن تقود المركب؟»
قال: «نعم، فأنا أجدف، ولكن لا أستطيع توجيه المركب. فليأتِ أحدكم ويساعدني».
حاول نادر أن يذهب إلى محمود في منتصف القارب ويساعده، لكنه بمجرد أن تحرك اختل توازن المركب، وأخذ يتمرجح يمينًا ويسارًا حتى كاد أن يُلقى به في الماء، فعاد إلى مكانه.
ابتعد المركب أكثر حتى أصبح على مقربة من حديد أساسات أحد الجسور الممتدة داخل الماء، الكفيلة بأن تجعل المركب أشلاء إذا ارتطم بها.
راح نادر وعدنان يُلقيان باللوم على محمود، وهما على وشك الارتطام والغرق.
زاد الطين بلة ظهور سفينة كبيرة لنقل البضائع تشق مياه النهر باتجاههم، ذلك النوع من مراكب الشحن الذي من الصعب تغيير اتجاهه.
رأى الثلاثة رجلًا يقف فوق سطح المركب ويشير إليهم أن يبتعدوا عن مسار المركب حتى لا يرتطم بهم ويدمرهم.
حاول محمود بكل ما أُوتي من قوة أن يوجه المركب، دون جدوى.
بعد لحظات، ولحسن الحظ، مر المركب الكبير بجانبهم دون أن يرتطم بهم.
مر المركب الكبير بسلام، لكنه خلف وراءه موجة عالية من الماء جعلت المركب الصغير يتمرجح بشدة، مما جعل الثلاثة يتشبثون بأرضية المركب حتى لا يسقطوا في الماء.
لكن المركب كان ما زال يتجه نحو أساسات الجسر الحديدية، وراح الثلاثة يتلاومون فيما بينهم.
كان محمود بالطبع صاحب النصيب الأكبر من اللوم والتقريع.
وبينما هم كذلك، سمعوا صوتًا قادمًا من بعيد، ورأوا «لنشًا» سريعًا قادمًا من الشاطئ.
ما إن رأوا قائده حتى دبت فيهم الحياة. لقد أتى صاحب المركب وابنه لإنقاذهم.
عندما وصل إليهم اللنش، أخذ صاحب المركب بيد محمود كي ينتقل إلى اللنش، ونزل حسّاني الابن إلى المركب الصغير بدلًا منه، وأخذ يقود المركب عائدًا إلى الشاطئ.
قال صاحب المركب لمحمود: «ألم تقل إنك تجيد التجديف؟ ماذا حدث؟»
قال محمود: «لم أكن أعرف أن التجديف صعب هكذا».
قال صاحب المركب: «ولماذا تتصدى لعمل لا تعرفه؟ لقد نجوت بأعجوبة أنت وأصدقاؤك».
وصل الجميع إلى المرسى الخاص بالمراكب.
نزل الثلاثة إلى الشاطئ، وشكروا صاحب المركب وابنه، وعادوا صامتين يمشون متثاقلين من التعب.
قطع صمتهم صوت محمود وهو يريد أن ينسيهم ما حدث، فقال: «لقد كانت مغامرة مثيرة».
قال نادر: «نعم، لقد كدنا نموت غرقًا».
قال عدنان: «الحمد لله».
ثم راحوا يسخرون مما حدث.
سخر نادر من محمود مرددًا كلامه: «أنا سأقود المركب، الأمر فقط يحتاج إلى قوة، ليس أكثر».
رد محمود: «لم أكن أعرف أن التيار قوي إلى هذه الدرجة، والرياح قوية إلى هذه الدرجة. إنه من سوء الطالع أن تكون الرياح شديدة اليوم».
قال عدنان: «سوء الطالع أم سوء التعقل؟ من فضلك، اسكت ولا تتكلم».
قصة جميلة جدا
شكرا جزيلا لك 🍀🍀🍀🍀🍀
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.