رواية الأيام بيننا الجزء 237 «الأخير»

24 عامًا بعد الألفية الثانية، البحر بزرقته الصافية، تظهر الشمس أشعتها عليه فيتلألأ كحبات الألماس، النورس يحوم فوق الميناء، مبنى ضخم بلافتة كبيرة مكتوب عليها مؤسسة المواني والسفن العامة..

ساحة واسعة أمامها، وحركة نشطة للشاحنات والقاطرات في كل ناحية، وتتحرك باتجاه السفن والبواخر الراسية عند الميناء، تنزل حمولتها من البضائع، وتنقلها إلى الشاحنات، وقد بدت بارجة نفط كبيرة راسية على تخوم الميناء، وأخرى تشق عباب البحر، في الطابق الرابع المدير داود (أبو سامي) يجلس في مكتبه، يجري اتصالًا هاتفيًا:

- نعم يا كرم، أريد ملف شركة الأمل للتجارة العامة والمقاولات.

- يجيبه:حالًا حضرة المدير.

- يبادر بالقول:لا تنس أن في الساعة العاشرة سأنفذ جولة في أرجاء المؤسسة.

- يرد:إن شاء الله حضرة المدير.

اقرأ أيضًا: رواية الأيام بيننا الجزء الأول

طلال في مكتبه يرتب الملفات في الأدراج وعلى رفوف خزانة المكتب، ثم يجلس أمام شاشة الكمبيوتر، يراجع العطاءات والمناقصات المعروضة عبر موقع المؤسسة في الشبكة العنكبوتية، يدق الباب:

- ادخل.

يفتح الباب ببشاشة:

- السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

- ينهض ويمد يده مرحبًا:أهلًا وسهلًا يا حسين، كيف حالك؟

- يجيب بارتياح:الحمد لله.

يشير بيده إلى المقعد:

- تفضل، تفضل..

- يجيبه بامتنان:يزيد فضلك يا أبا نايف.

ينتقل ويجلس على المقعد مقابله:

- كيف حالك وحال العم حمد؟

يهز رأسه برضا:

- الحمد لله بخير.

يصمت لوهلة

- هل رأيت يا طلال، المدير الجديد أبو سامي يأخذ جولة في المؤسسة، يريد أن يظهر للموظفين أنه يتابع سير العمل!

يرفع حاجبيه باستهجان:

- لا عجب يا أبا نادر، أيام والدي ووالدك أطال الله في عمرهما، كان هذا ديدن مديري هذه المؤسسة، يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فلا تستغرب.

يوافقه:

- معك حق، هذا طبعهم وطبع من يتملقهم لن يتغيروا أبدًا.

- يستطرد:وهل تعلم من كان معه؟

- يخمن:لا تقل لي ثامر.

يغمز بعينه وترتسم على وجهه ابتسامة ساخرة:

- هو بعينه ابن أبي سعد.

- يجيب بجدية: أخبرني والدي أن أباه كان مثله يتزلف المُديرين.

يطرق على الطاولة:

- من شابه أباه فما ظلم...

أحاديث الرجال تعلو في المقهى الشعبي، جلهم متقاعدون، والبعض الآخر منهم جاء ليروح عن نفسه ويلتقي بالأصدقاء، في إحدى زوايا المقهى على المقعد الطويل يجلس أبو طلال وحمد (أبو حسين) يتبادلان الأحاديث، يحضر النادل وبيده صينية عليها كوبان من الشاي وكوب ماء، يضعهم على الطاولة، ومنظر النادل يتنقل من طاولة إلى أخرى بخفة مجيبًا طلبات رواد المقهى يضيف حيوية على الأجواء، ضحكات الرجال وأصوات نقاشاتهم تملأ المكان، ينظر حمد لأبي طلال:

- آه، رحمة الله عليك يا أبا ماجد.

يهز رأسه بأسى:

- رحمة الله عليه، ما أجمل صداقته! فقدنا أعز صديق يا حمد.

يضم شفتيه ويسحب نفسًا عميقًا:

- عشنا في مؤسسة المواني والسفن كأننا نعيش في بيوتنا، لم أذكر أنه في يوم جافاني أو تحدث عني بسوء، رحمه الله لم يكن صديقًا وزميل عمل فقط، بل كان أخًا عزيزًا.

- يجيبه بمرارة:نعم صدقت، لكن ما أساءني وأحزنني الخلاف الذي نشب بين أبنائه من بعده.

- يرد بحسرة:وا أسفاه، جاء الزمان الذي يتجرأ فيه الأخ على أخواته من لحمه ودمه، ويفقد غيرته ونخوته، ويجرجرهن في المحاكم!

- يغتم:آه، هذا آخر الوقت، أعاذنا الله وإياكم.

يكفهر وجهه ويقطب حاجبيه

- والمسكينة أم العيال أصيبت بالخرف وصحتها في تدهور مستمر.

- يتكدر:آخ من الابن العاق، لا حول ولا قوة إلا بالله.

تلتقي أعينهما

- لا تخف، سيأخذ الله حق المظلوم، وإن أطال الله في عمرنا سأُشْهدك على ذلك، والأيام بيننا.

اقرأ أيضًا: رواية الأيام بيننا الجزء 236

غربت الشمس وتوارت خلف الحجب، نسمات آب الحارة تخف حدتها، بيت أبي ماجد بدا مطفأ الأنوار على غير العادة، في غرفة الضيافة سعاد ووفاء وهناء، يجلسن على الأريكة الطويلة متوشحات بالسواد، تتساقط الدموع من أعينهن، خلود في غرفة أمها الراحلة تقف أمام النافذة تبكي بحرقة، تلتفت فيقع بصرها على صورة تجمع أمها وأباها، وابتسامة رقيقة غزت وجه أمها وأخرى عفوية تمددت على محيا أبيها، وطفل لطيف يتوسطهما، إنه أول فرحتهما، تبدو على وجهه بسمة جميلة أظهرت نصيبًا من نواجده اللبنية، وبدت عيناه العسليتان تشعان براءة، تتنهد بألم مغمغمة بنبرة صوت مبحوح هامس:

- آه، ماذا فعلت بنا يا أخي؟

ترخي الستارة، وتتأمل سرير والدتها كأنها تراه للمرة الأخيرة، تطفئ الأنوار وتغادر.

انتهت.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة
بقلم خوله كامل عبدالله الكردي
بقلم خوله كامل عبدالله الكردي
بقلم خوله كامل عبدالله الكردي
بقلم خوله كامل عبدالله الكردي
بقلم خوله كامل عبدالله الكردي
بقلم خوله كامل عبدالله الكردي