ترفع غطاء القدر وتُحرك الطعام، تحدق بها منبهة:
انصتي إليَّ جيدًا يا سلوى، أنا مثل أمك، وأي شيء تسمعينه أو تلاحظينه من عماتك وجدتك أو حتى زوجة عمك بسمة، إياكِ أن تصمتي! أخبريني في الحال، وكوني على ثقة أنني سأكافئك بما تحبين من ثياب وإكسسوارات وعطر، وسأجعل والدك يعطيكِ مصروفًا ضعف مصروف أمين... أفهمتِ؟
تهز رأسها بخضوع:
نعم يا أمي، فهمت، وأريد أن أخبرك أنني سمعت أمين يقول لعمتي خلود إنه يتمنى أن يعيش معهن وجدتي؛ لأنه يحبهن كثيرًا.
تفتح عينيها على اتساعهما غيظًا:
هكذا يقول إذن... أنا من ستدبره!
تجلس على المقعد وتطرق للحظات:
هل تكذبين عليَّ؟
تهمس:
كلا يا أمي، لقد سمعته بأذنيَّ هاتين.
حسنًا، اذهبي ونظفي بيت الخلاء... وسأعرف كيف أربي هذا الأمين من جديد.
تجيبها باستسلام:
حاضر يا أمي...
الساعة الواحدة ظهرًا، تنظر إليها وقد دخلت في سبات عميق، تغلق الباب وتدلف إلى غرفة سعاد ووفاء. تخلع حذاءها وتضع حقيبتها وملف الفحوص والأشعة على المنضدة، تتمدد على السرير والإجهاد بادٍ على وجهها. تتناول وفاء تقرير الطبيب وتجلس على المقعد وتقرأه، تنظر خلود إلى سعاد:
ها... سعاد، يعطيك العافية.
ترد بنبرة باهتة:
الله يعافيكِ.
يبدو عليك التعب.
نعم يا خلود، تدرين الجو حار في الخارج، وأمي مسكينة لا تتحمل البقاء تحت الشمس مطولًا. اضطررنا أن نمشي مسافة لا بأس بها من المشفى حتى الشارع الرئيس لنبحث عن سيارة أجرة، والحمد لله يسرها الله وركبنا.
ترد بنبرة يشوبها القلق:
كان الله في عونكما...
تجيبها:
أنا أعرف ماذا تودين أن تسأليني...
تعدل من جلستها:
قال الطبيب لي شيئًا غريبًا...
تتوتر:
وماذا قال لكِ؟!
قال إن أمي سيأتي عليها يوم لن تعرفنا! وستفقد ذاكرتها شيئًا فشيئًا... ويصعب عليها تذكرنا!
تمسك بالتقرير وتتنهد وتومئ رأسها بكدر:
هذا ما كنت أخشاه. لقد صادفت الكثير من المرضى الذين فقدوا ذاكرتهم ولم يعودوا يتذكرون أهلهم البتة.
تجزع:
ماذا تقولان؟! أمي حبيبتي تنساني، أنا ابنتها...
تجيبها:
هذا ما يسمونه الخرف، ألزهايمر يا خلود. للأسف، هذا ما كتبه الطبيب في التقرير الطبي الذي بين يدي!
تستفهم بقلق:
سعاد، إياكِ أن تكون أمي قد سمعت ما قاله الطبيب!
ترد بثقة:
ماذا دهاكِ؟! هل أنا ساذجة إلى هذه الدرجة؟! لا تخافي، لقد أجلستها في مطعم المشفى وطلبت لها إفطارًا، وصادفت وجود جارتنا أم خالد، فوجدت من يؤنسها وأخذهما الحديث.
يسود الصمت فجأة، تغمض سعاد عينيها وتروح في غفوة، تسمع وفاء صوت مركبة المشفى، ترفع حقيبتها على كتفها:
انتبهي على أمي يا خلود، لن أتأخر، سأقدم طلب مغادرة، على الثالثة عصرًا سأكون هنا... استودعكما الله... مع السلامة.
تدفع الباب وتغادر...
الصدمة لا تكاد تفارق محياها، كل شيء ساكن والهدوء يخيم على البيت، وأفكار مخيفة تتزاحم في رأسها. تدلف إلى غرفة أمها، لا تستطيع أن تصدق ما سمعته، تتأملها نائمة وصوت أنفاسها يتصاعد، تقف عند الباب متسمرة، محدثة نفسها: "يا حبيبتي يا أمي، هل يعقل أن يأتي يوم لا تعرفيني، أنا خلود، ابنتك؟!" تنقل بصرها إلى النافذة، والستارة تتهادى، وتدعو:
يا رب، اشفِ أمي...
في البلدة الجنوبية، يجوب بنظره على البيت مغمغمًا في سره: "آه، هذه الدار بحاجة إلى تصليح ودهان من جديد، ما عليَّ سوى الاتصال بأمي كي أطلب منها نقودًا كي تساعدني، لكن بأي حجة سأطلب منها..."
الساعة شارفت على الرابعة عصرًا.
خلود تقرأ القرآن وسعاد تصلي. تسمع طرقات خفيفة على الباب:
ادخلي...
تدلف أم ماجد، تنفرج أساريرها:
أهلًا بكِ يا أمي... متى استيقظتِ؟
منذ قليل، صليت العصر والحمد لله...
تسألها:
أمي، لم تتناولي غداءكِ! هل أعدَّه لكِ؟
تجيب بنبرة هادئة:
كلا يا ابنتي... فقط أريد أن أحدثكن بأمر مهم...
تنهي سعاد صلاتها، وتطوي السجادة وتضعها على السرير، مطرقة أذنيها باهتمام.
تعلمن يا بناتي أن الدنيا حياة وموت، وأريد أن أطمئن عليكن قبل وفاتي.
تشعر أن حرارة جسدها قد ارتفعت:
ما بالكِ يا أمي؟! لا تقولي هذا الكلام... أطال الله عمركِ.
تبادرها:
اسمعيني، سعاد، لا تقاطعيني... نويت تسجيل هذه الشقة بأسمائكن الأربعة.
تقطب حاجبيها بامتعاض:
ماذا تقولين؟! هل تريدين أن نرثك وأنتِ حي! كلا، لن نقبل بهذا الكلام أبدًا.
تطأطئ وفاء رأسها حزنًا وتزداد ضربات قلبها هلعًا، الصدمة عقدت لسان خلود وتنحدر دمعة سخية على وجنتيها... ترد بإصرار:
إذا أردتنَّ أن أرضى عليكن، افعلن ما أقوله ولا تعارضنني...
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.