أمام موقد الغاز تقف فريال بوجه ممتقع، تستشيط غضبًا وهي تنظر إلى موقد الغاز يعمه الفوضى، تصيح على سلوى بانفعال:
يا سلوى... يا سلوى...
تحضر على عجل ونبضات قلبها تدق بسرعة، ومن خلفها جمانة:
نعم يا أمي.
تجحظ بها بعبوس:
نعم يا أمي! لماذا لم تنظفي موقد الغاز؟! ما الذي يلهيك عن تنظيفه؟! أم أنك تريدين كسر كلامي؟!
ترد بوجل:
كلا يا أمي... فقط نسيت.
تحدجها بنظرة متوعدة:
نسيتِ ها... في المرة القادمة لن أقبل أي أعذار، وسأخبر والدك ليجعلك تتربين من جديد، وتعرفين ساعتها كيف تسمعين الكلام!
تشير بيدها لها بتعالٍ:
هيا امسحيه ونظفي المطبخ كله... هيا.
تلتفت لجمانة مقطبة حاجبيها:
وأنتِ اذهبي واكنسي الصالة الصغيرة، وعقب انتهائك اشطفي الشرفة... هيا لا تتكاسلي!
جمانة:
سمعًا وطاعة، أمي.
انقضى عام كامل...
علي في غرفة الجلوس يشاهد التلفاز، وفريال تجلس بجانبه تداعب حسام، وسلوى وأمين يجلسان مقابلهما يكتبان الواجب المدرسي. ينظر إليه علي ويداعبه ويضحك له، وبطرف عينه ينظر إليهما أمين بحسرة وحزن.
أم ماجد في بيت هناء تتحدث مع أم صالح مهنئة بزواج ابنها طارق، تحضر هناء وبيدها صينية بها كوبان من العصير، تدنو من أم ماجد وتأخذ كوبًا ثم تضعه على الطاولة، في حين تتناول أم صالح الآخر وترتشف قليلًا منه. تجلس هناء بجوار أمها:
مبارك زواج طارق يا أم صالح، جعل الله وجهها خيرًا عليكم.
تعلو وجهها ابتسامة عريضة:
بارك الله فيكِ، وعقبال أن تفرحي بالبنات.
ترد بنبرة يشوبها الحزن:
الله كريم... لا أدري يا أم صالح، نصيب البنات تأخر؟!
تطمئنها:
لا تقلقي، سيأتي صاحب الحظ السعيد وتفرحي بهن.
تجيب برجاء:
الله يسمع منكِ ويجبر خاطري وخاطرهن.
شهر تموز يدخل يومه العشرين، والحر يشتد في ساعات الظهيرة، تغيب الشمس ويتسرب على استحياء هواء لطيف...
الساعة التاسعة مساءً، تنزل إلى حديقة البيت، تشعر بانقباض في صدرها، تجلس مقابل شجرة الليمون ومن خلفها نبتة ياسمين تملأ المكان برائحتها الزكية، تمتد إلى سور البيت وفي محاذاتها دالية كبيرة، مدلى منها قطوف عنب أسود. الجو رطب، وتنساب نسمات عليلة تداعب أوراق الأشجار ويُسمع حفيفها. الساعة التاسعة مساءً، تتمتم في سرها:
"ياه، كم أشعر بضيق شديد، بالي مشغول على أمين وأختيه سلوى وجمانة. أخاف أن تظلمهم فريال، خاصة بعد أن أنجبت ابنها حسام، وعلي لا يسمع إلا منها... يا رب اقذف في قلبها العطف عليهم، فهم مساكين حرموا من والدتهم..."
تمر على ذاكرتها خلسة مشكلات علي مع منى، مردفة:
"آه يا منى، لم نكن نعلم أنك مريضة وتحتاجين إلى علاج نفسي... شفاك الله وعافاك. انفصلتِ عن علي وتركتِ أولادكِ في رقبتنا... ما أصعبه من حمل!"
تمر نصف ساعة، تنهض وتصعد إلى البيت، تدلف إلى غرفة النوم، ويتناهى إلى سمعها تمتمات غريبة، تضع أذنها على الباب، تسمع أمها تحدث نفسها بصوت هامس نوعًا ما:
"أين أنا؟! ما هذا البيت الذي أجلس فيه؟! أين أمي؟! أين أبي؟!"
تفطن:
آه... نعم، تذكرت، أنا في بيتي وبين بناتي! يارب، ماذا جرى لي؟! لماذا نسيت كل شيء فجأة... رحمتك بي يا رب."
خلود متسمرة في مكانها، حتى أن أمها لم تلحظ وجودها، تقترب منها:
أمي...
تستدرك:
آه، خلود... هذا أنتِ؟! منذ متى وأنتِ هنا؟
تجيب باستغراب:
منذ أن قلتِ أين أمي وأين أبي!!
تلتقي أعينهما، تسألها بتعجب:
ما بالكِ يا أمي؟! هل يوجد شيء؟!
لا... لا يوجد شيء... لا تشغلي بالكِ بي... اطمئني.
ترد بحيرة:
لكن رأيتكِ ساهمة تحدثين نفسك، ولم تنتبهي لدخولي!
تهون عليها:
لا تهتمي... فقط تذكرت أشياء حدثت معي منذ سنين طويلة.
حسنًا يا أمي، هل تريدين شيئًا؟
تجيب بهدوء:
كلا يا خلود، أريد سلامتكِ.
بدأ الخوف يتسلل إلى قلبها على أمها، وجاءها حدس مريب... يبدو أن أمها ليست على ما يرام!
الساعة تدق الحادية عشرة ليلًا، تضطجع أم ماجد على سريرها، تفرد خلود الغطاء عليها وتقبلها من جبينها:
رضي الله عنكِ يا خلود... أطفئي الأنوار حبيبتي، أنا متعبة وأحتاج إلى النوم.
حاضر يا أمي... تصبحين على خير.
تضغط على مفتاح الأنوار فتطفئها وتدلف خارج الغرفة. تتجه إلى غرفة سعاد ووفاء، وتتذكر أن سعاد في إجازة ووفاء في مناوبتها الليلية، تلاحظ الباب مواربًا، وسعاد جالسة تشاهد برنامجًا دينيًّا. تجلس بجانبها:
سعاد، يجب أن تزور أمي الطبيب، أشعر أنها ليست بخير.
عيناها مصوبتان على شاشة التلفاز:
لماذا؟! هل هي مريضة؟!
نعم يا سعاد، أمي كانت تحدث نفسها بكلام غريب.
وما هذا الكلام الغريب؟!
لا أعرف، كأنها لا تعرف أين هي... أخاف عليها... أرجوكِ خذيها للطبيب، لنطمئن عليها.
تهز رأسها:
لا عليكِ، إن شاء الله غدًا سأذهب معها إلى الطبيب.
ريح الله بالكِ يا سعاد...
تسألها مستفسرة:
صحيح... لماذا أنتِ مستيقظة إلى الآن؟!
أتابع هذا البرنامج الديني عن حفظ القرآن الكريم.
هل نويتِ حفظ القرآن...
يكسو وجهها ابتسامة مريحة:
نعم... سجلت في دورة مدتها عام لحفظ القرآن.
تثني عليها:
ما شاء الله عليكِ يا سعاد.
ترد برضا:
سبحان الله، قبل زواجي كنت أتمنى أن ييسر الله الظروف كي أحفظ القرآن... وها أنا أخطو خطواتي الأولى لحفظ القرآن وتجويده.
تهز رأسها:
وفقكِ الله...
تتنهد بسعادة...
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.