تتكئ بمرفقها على نافذة السيارة، تسرح بما بدر من ماجد ساعة غداء، والسيارة تعدو بين طريق وآخر، الهواء يداعب حجابها، تسحب نفسًا ببطء، تتمنى لو تبقى في هذه اللحظة، كي تنسى شعور الخذلان والفقد.
من مرآة السيارة يصوب صالح نظراته عليها مستغربًا، يفتح المذياع على إذاعة القرآن الكريم، راحة تسللت إلى صدرها، تغمض عينيها لحظات وكأنها في عالم آخر، هذا ما أرادته، كلام الله ليخفف عنها وجعها... وجع جفاء الأخ وقسوة قلبه. لم تنتبه أنهم قد وصلوا إلى البيت، تناديها لين، تنتبه وتدفع الباب وتخرج.
ارتفع صوت أذان العشاء، على سريرها سارحة ويردد لسانها مع المؤذن، تتنهد بحرقة ثم تعدل جلستها، غصة هجمت عليها وأزاحت بقية من صبر تتشبث به يعينها على مجاهدة حزنها، تندفع الدموع من عينيها بهدوء يلحظها صالح مخاطبًا:
هناء ما بالك ماذا حدث؟! ما الذي يبكيك؟!
تمسح دموعها بالمنديل وتنفث المخاط من أنفها، وقد كسى وجهها حمرة دموية، تجيبه بأسى:
لا شيء يا صالح! فقط تذكرت والدي رحمة الله عليه.
يهون عليها:
لا عليك يا عزيزتي... عمي مرتاح الآن، ادعُ له أن يرحمه الله ويصبركم.
يطرق مردفًا:
لا تخافي من أي شيء؛ فالله معك أولًا، ثم أنا، عبده الضعيف زوجك الذي يحبك ويعزك سيبقى دائمًا سندك وعونك.
تجفف دموعها وتشعر أن راحة استقرت في صدرها:
إلهي يديمك فوق رأسي ولا يحرمني منك أبا أحمد.
يواسيها:
هيا ابتسمي... لا أريد أن أرى دموعك.
ترتسم ابتسامة حانية على وجهها، يعلق بعطف:
هكذا أريدك هناء التي أعرفها، القوية الفطنة.
في غرفة الجلوس خلود قاعدة تشاهد برنامجًا صحيًا عن أهمية الرياضة للصحة النفسية والجسدية، سامر يقفز على الفرش ويغني ويضحكك، يدفعه وليد ثم يصرخ ويمسك بشعر وليد ويصيح غيظًا، وليد يقهقه ويتندر عليه، تحس خلود أن أذنيها قد استقر فيهما الصراخ، وعلا الطنين فيهما، تلتفت إليهما وتنهرهما:
اسكت يا ولد.
ينظر وليد لسامر:
ابلع لسانك واصمت ألم تسمع عمتي؟!
يظل يقفز ويغني بصوت عالٍ:
لا أريد... ابتعد عني لا أريد... يا أمي.
يدلي لسانه ويصرخ، تحضر نادية واضعة إصبعها على شفتيها:
صه اسكت لا تجلب لي المشكلات، هيا اصمت.
يتحدى:
لا أريد... لا أريد... دعوني ألعب.
تحدجه بنظرة متوعدة:
هيا أصمت... هذا ما ينقصني، نسمع كلامًا وتعليقات من فلان وعلان.
تنظر إليها خلود بضيق، متمتمة في سرها: ما بالها هذه مزمجرة؟! أنا من يحق لها أن تتضايق... والله أمرها عجيب... قريبتنا وتفعل بنا هكذا... الأفضل أن أغادر هذا المكان...
تنهض وتغادر إلى غرفتها، تزم شفتيها نادية وتضع يديها على خصرها باستخفاف، محدثة نفسها: الحمد لله أنها خرجت... صحيح فتيات معقدات... الظاهر أنهن أُصبن بالإحباط والغيرة لبوارهن... يفتعلن المشكلات ويضربن الأسافين بين إخوانهن... طبعًا لا يوجد أحد يردعهن... زوجة خالي تدللهن وتجاريهن... أنت على حق يا ماجد عندما قلت المصائب تمشي معهن أينما ذهبن وحللن؟!
خلود في غرفة نوم أمها، تربت على كتفها مواسية:
لا عليك يا أمي... ماذا نفعل؟ إلى الله المشتكى.
مجيبة بحسرة:
يراضي زوجته وأمه أحق أن يراضيها.
تستنكر:
آه... هذا هو ماجد لم تبخلي عليه بشيء، وهذه معاملته لك ولنا! بعد كل تلك السنوات الطويلة التي تعبت فيها، لم تأخذ منه سوى النكران والمشاحنات معه ومع عياله، الذين لم يربهم على احترام بيت جدهم.
تمرق وفاء صدفة بعد عودتها من مناوبتها الليلية، وتسمع الحديث الذي يدور بين أمها وخلود وشكوى أمها من ماجد، تهز رأسها بحزن، تدفع الباب وتلقي بحقيبتها على السرير، يساورها حديث نفس: لقد تعبت من العمل ومن كل شيء... لا أحد يشعر بمعاناتي وسعاد... إلى متى سيبقى هذا الوضع وحالنا لم يتغير! يا رب إلى متى؟!
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.