بم أن اليوم هو الأحد، فسأمضي إذن بباقة من الورود إلى القـبـر، لقد ذكّرني الشتاء بالهضبة التي يسلّم الناس موتاهم إليها. إنها مكان أجرد لا تتمايل فيه شجرة واحدة، يبدو أن شمس الظهيرة قد جففت المنحدر؛ لذا، يجب عليَّ الذهاب للمقبرة، حيث يرقد هناك جثمان ابني الذي اختلطت الآن ملامحه وتناثرت وسط القواقع والجذور.
لقد ظلت شاردة الذهن منذ كفتْ عن التحرك في الغـرفـة حين أخـفـقتُ في التقاط أشد الورود نضارة، ربما في وسعي فعل هذا اليوم.
غاب نور المصباح الصغير فنهضتْ، بعد أن أفاقت من نشوتها، نظرتْ إلى الركن حيث يوجد المقعد، بالتأكيد قالت لنفسها:
- الرياح مرة أخرى...
لأن شيئًا ما أصدر صريرًا فاهتزت الغرفة، أمّا أنا فأدركت أن عليَّ الانتظار حتى تذهب للغرفة المجاورة لتأخذ قيلولة الأحد المعهودة، حينها أستطيع الذهاب بالورود والعودة قبل أن تعود لتلك الغرفة.
الأحد الماضي كان أكثر صعوبة، فقد انتظرتُ ساعتين حتى غاصتْ في نشوتها، كانت قلقة، فقد جالتْ في الغرفة حاملة باقة الورود قبل أن تتـركـهـا، ثم دخلتِ الغرفة الأخرى، أدركتُ أنها تبحثُ عن المصباح.
لما مرتْ قرب الباب رأيتها مرتدية سترتها الصغيرة وجواربها الوردية، فبدت لي كأنها لا تزال الفتاة التي رأيتها قبل أربعين عامًا في نفس الغرفة حينما أتت بعض النسوة بها لترى الجثة، وقلن لها:
- ابكي، فقد كان أخًا لكي..
فاستندت إلى الجدار باكية منصاعة لهن.
طيلة ثلاثة أو أربعة أيامِ آحـاد حاولتُ الوصـول للمكان الذي وضعت فيه الورود، حين ذهبتُ يوم الأحد الماضي لجلب المصباح جمعتُ باقة من أفضل الورود، وبينما كنت أستعدُ للعودةِ إلى المقعد سمعتُ خطواتها مرة أخرى، فسارعت بإعادة ترتيب الزهور، رأيتها عند الباب رافعة المصباح عاليًا.
كانت ترتدي سترتها القاتمة وسروالها الوردي، لم يبدُ عليها أنها المرأة التي ظلت طوال عشرين عامًا تغرس الأشجار والورود في الحديقة، إنما كانت كطفلة، عادت ومعها المصباح، وقد ترهلتْ، وأوغلت في العمر بعد أربعين عامًا.
لا تزال على حذائي كتلة الطين التي علته في ذلك اليوم رغم أنه تُرِكَ ليجف بجـوار الموقـد أربعين عامًا، ذات يوم مضيتُ لجلبه، كان ذلك بعد أن مـضـوا بالأثاث كله ما عدا المقعد الذي ظللتُ أجلس عليه طوال هذا الوقت، كنت أعرف أن الحذاء وضع ليجف، ولم يتذكروه لمّا هجروا الدار، لهذا مضيت لجلبه.
لما عادتْ بعد سنوات طوال، وجدتْ أن الغرفة قد اختلطت بها رائحة المسك برائحة التراب، في حين جلستُ أنتظر بمفردي في الدار، لما فتحتِ الباب كنتُ مُغطى بالغبار ونسيج العنكبوت، شاهدتُها أمامي ممسكة بحقيبة في يدها، ومرتدية السترة ذاتها التي لم تنزعها منذ ذلك الوقت، كانت لا تزال في مُقتبل العمر، وفي مكان ما من الغرفة صمتَ أخيرًا صرار الليل الذي استمر طوال عشرين عامًا.
لكن رغم ذلك ورغم خـيـوط العنكبوت والغبار والتردد المفاجئ الذي حل بصرار الليل فقد تعرفتُ فيها إلى الفتاة التي مضت معي في أصيل أغسطس العاصف لجمع الأعـشـاش في الإسطبل، مثلما كانت تمامًا واقفة بالباب حاملة الحقيبة في يدها، بدت كأنها ستصرخ فجأة وتقول ما قالته حينما وجدوني ملقى على ظهري في الإسطبل المغطى بالقش، ولا أزال مُمسكًا بسور الدرج المحطم، حينما فتحتِ الباب صدر صوت فرقعة من المفصلات، ونزل التراب من السقف كتلًا، دخلتِ الغرفة وقالت بهدوء:
- أيها الفتى
وبقيتُ أنا مُتصلبًا في مقعدي.
تركتِ الهواء يلعب في الغرفة فبدا الأمر كأنها فتحت حقيبتها ففاحت منها رائحة مسكها العتيقة، حمل الآخرون الأثاث، ووضعوا الثياب في حقائب ضخمة، وبعد عشرين عامًا عادت بها من جديد، فوضعتها مكانها، كـان وجودها كافيًا وكفيلًا لإعادة ما دمـره الزمان الذي لا تُمحى آثاره، من ذلك الوقت كانت تتناولُ طعامها وترقد في الغرفة صامتة.
ظلتْ طوال عشرين عامًا تتأرجح وقت الأصيل على المقعد الهزاز وتنظر إلى المقعد الآخر كما لو كانت لا تبالي الآن بالفتى الذي شاركها طفولتها، وإنما بالحفيد الذي كان جالسًا هناك مُذ كانت جدته في الخامسة من عمرها، وحينما يأتي أحدهم لابتياع الورود تضع النقود في طرف منديلها وتقول:
- خذ الورود من الجانب الأيمن...
حين تحني رأسـهـا مـجـددًا من المحتمل أن أستطيع الوصول للورود، وأذهب لأضعها فوق الـقـبـر، وأعـود مجددًا لأنتظر قـدوم الـيـوم الذي لن تعود فيه إلى الغرفة.
سأغادر الدار في ذلك اليوم لأبلغ أحدهم بأن بائعة الورود تحتاج إلى أربعة رجال ليمضوا بها إلى هضبة الموتى، حينها سأكون وحيدًا إلى الأبد، لكنها ستشعر بالغبطة والسرور؛ لأنها ستعلم في ذلك اليوم أن الرياح الخفية لم تكن هي التي تأتي يوم الأحد لتعبث بالزهور.
يوليو 16, 2023, 5:00 ص
تنويه : إن ما قرأتموه لا يغني إطلاقاً عن قراءة القصة .
إذا حاز ما كتبناه على إعجابكم فلا تنسوا الإشتراك حتى يتسنى لكم قراءة كل جديد .
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.