رمضان في اليمن بين الماضي والحاضر

رمضان شهر الخير والبركات، شهر الإحسان والعبادات والطاعات، هكذا وأكثر يعرف اليمنيون رمضان المبارك، ويميزونه عن أشهر العام الهجري بشعائر روحانية لها فرادتها ونكهتها اليمنية الخاصة.

البداية من رجب

يبدأ استقبال شهر رمضان في اليمن مبكرًا بدخول شهر رجب، لما هو متوارث دينيًّا لدى أهل اليمن أن من لم يزرع في رجب ولم يتعهد زرعه بالرعاية في شعبان لم يحصد ثمر الفلاح والنجاح في رمضان، ومعنى هذا أن من لم يستقم في العبادات والطاعات في سائر أشهر العام، فسوف يظل بلا استقامة حتى في رمضان، فصيام الشهر الفضيل لدى اليمنيين ليس محصورًا بالتدين الظاهر من ترك الأكل والشرب نهارًا وأداء صلاة التراويح أو قيام الليل إلى جانب الصلوات الخمس المفروضة طيلة ثلاثين يومًا، بل الدين لدى أهل اليمن هو الاستقامة والالتزام الدائم.

يبدأ استقبال شهر رمضان في اليمن مبكرًا بدخول شهر رجب

وفي شعبان يحيي اليمنيون ليالي "الشعبانية" بالموالد أو الاحتفالات الدينية المميزة بالمديح النبوي والصيام نهارًا شعيرة من شعائر استقبال شهر رمضان المبارك، وتلك الليالي المعروفة بالشعبانية هي غالبًا الليالي البيض، وهي ثلاث ليالٍ، تبدأ بليلة 12 أو 13 حتى ليلة 14 أو 15، ويوجد من يزيد أيام الصيام وإحياء الليالي الشعبانية جماعيًا لتستمر في بعض المناطق حتى أواخر شهر شعبان الذي يميز آخر يوم فيه أو يوم 29 المعروف بـ"يوم الشك"، بعادة تناول ما لذ وطاب من المأكولات في يوم يعرف باسم "يا نفس ما تشتهي"، استعدادًا لصيام الفريضة في رمضان.

أهازيج رمضانية

ومع نهاية شعبان والإعلان عن قدوم شهر رمضان، في المناطق الريفية وفي بعض المدن اليمنية حتى وقت قريب، كان الأهالي يشعلون النيران على أسطح المنازل باستخدام كرات يصنعونها من عجينة الرماد المخلوط بمادة "الجاز" أو "الكيروسين"، احتفالًا وترحيبًا بالشهر الكريم، ويتجمع الأطفال في الشوارع ليرددوا أجمل الأهازيج الخاصة بهم في أثناء اللعب التي كانت تُعرف شعبيًا بـ"التماسي"، أشهرها:

"يا رمضان يا بو الحماحم… إدي لبي قُرعهْ دراهم"

فهذه أهزوجة ذات طابع شعبي مرح يجاري أسلوب لعب الأطفال، ومدلولات كلماتها توحي بدخول أجواء رمضان المبارك الاستثنائية التي تُلزم كل بيت يمني أن يستعد ويهيئ نفسه ليعيش كل لحظة فيها، فكلمة "الحَماحِم" جمع "حُمحُمَهْ"، وتجمع أيضًا بـ"حُمحُم"، وهو اسم شعبي لجنس نبات عطري يشتهر البيت اليمني بزراعته في أحواض، ويوضع على الأسطح والشرفات إلى جانب أنواع أخرى كثيرة مثل "المشاقر والزباد والريحان" وغيرها، وتستخدمه النساء والرجال من كبار السن للزينة. وهذه عادة انحسرت كليًّا من المدن، لتظل محصورة في المناطق الريفية، لكن هذه الأنواع من النباتات ما زالت تستخدم في إعداد معظم الأكلات الشعبية التي تميز المائدة اليمنية في رمضان.

وكلمة "قُرعهْ" بمعنى حافظة النقود أو حصالة أو خزنة النقود المصنوعة من الخشب والمعدن، والمنادى غير المهموز (بو) = أبو، ومثلها (لبي) = لأبي، وكلمة (إدي) = أعطِ، ليصبح معنى ودلالة الأهزوجة السابقة:

"يا رمضان، يا صاحب العطر أو الرائحة الزكية التي تذكرنا بروحانية أيامك ولياليك المباركة، والممتلئة بما تشتهي الأنفس، أعطِ أبي خزنة ممتلئة بالنقود".

مع إعلان دخول رمضان يتجمع الأطفال في الشوارع ليرددوا أجمل الأهازيج الخاصة بهم

لماذا هذه الدعوة بالذات؟ أولًا لأنه شهر رمضان، والدعوات فيه مستجابة أكثر من غيره، وثانيًا لأن الاستعداد لشعائر العبادة والتفرغ لها مع إعداد مختلف الأطعمة التي يشتهيها الصائمون بلا شك تستلزم المال.

وهذه الأهزوجة بالذات -على بساطتها- من أهازيج المناطق الوسطى، وتحديدًا محافظة إب، وقد حققت انتشارًا واسعًا في مختلف أنحاء اليمن في أثناء الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين المنصرم، كما وجدت طريقها إلى شاشة التلفزيون لتكون (كلمةً ولحنًا) شارةً لمسلسلات تلفزيونية، مثل مسلسل الفنان آدم سيف (دحباش في مهب الريح)، طبعًا بتغيير الكلمات مع المحافظة على اللحن الشعبي الذي يشدو به الأطفال في ألعابهم لاستقبال رمضان، لتصبح الأهزوجة في تتر مقدمة المسلسل هكذا:

"يا دحباش يا بو الدحابش… رمضان جاءْ والكذب ما بش"

أي لا وجود للكذب في حضرة رمضان، إضافة إلى أهازيج أخرى كثيرة طُوِّرَت كلمات بعضها مؤخرًا ليؤديها المنشدون في وسائل الإعلام، منها:

"رمضان روحي روحي.. رسول الله ممدوحي..

رمضان شهر الإحسان.. صومه بالخير يوحي".

وتوجد أيضًا أهازيج كان يؤديها المصلون في المناطق الريفية رؤساء مواكب عقب صلاة التراويح في طريق العودة إلى المنازل، وهذه إحدى العادات والشعائر التي انتهت بسبب إهمال الأجيال الجديدة للموروث الشعبي، وانتشار وسائل الإعلام بدرجة أكبر مما كانت عليه سابقًا، ومن هذه الأهازيج الدينية التي بقيت شجية في الذاكرة بصوت جدي لأمي -يرحمه الله- في أول ليالٍ عشر من الشهر الكريم:

"مرحبًا يا شهر رمضان… مرحبًا شهر العبادة

مرحبًا يا شهر رمضان… مرحبًا شهر السعادة"

ثم لا تسلني عن أي سحرٍ يفعل بقلوبنا الأفاعيل حين نردد هذين البيتين مشدوهين، لا ندري في أي عالم نحن، لكننا ننصت لبقية القصيدة التي لم أعثر على نسختها الأصلية حتى الآن التي كان يستمر إنشادها نصف ساعة تقريبًا… وأنا لا أذكر أن جدي كان شاعرًا، وما ينبغي له، ولا ساحرًا، لكنه كان يسافر بنا عبر الزمن كيفما شاء دون آلةٍ عجيبة، فيستحضر -بصوته فقط- كل قصص الأنبياء وتاريخ الوجود، حتى كأن السماء بكبريائها كانت تسكن صوته… وأظنني غير حانثٍ أبدًا حين أقسم على ذلك.

عادات الشهر الكريم

ثم مثلها وأجمل في الليالي العشر الثانية، لم تكن فوانيس الكاز التي تحملها الأيدي تضيء طريقنا حقيقة في تلك الليالي، ولا قمر السماء في اكتماله، بل هي فينا كانت بهجة الأرواح وسِلى القلوب.

وبالمناسبة، فإن عادة شراء وتعليق فوانيس رمضان ليست شائعة أو قديمة متوارثة في كل بلدان العالم الإسلامي، كما تحكي غالب المقالات الصحفية، لكنها مؤخرًا حققت بعض الانتشار الذي يثبت تأثير وسائل الإعلام في المجتمعات.

اختفت عادة المدفع الرمضاني في اليمن بعد دخول البلاد في أتون الحرب

في المقابل، اختفت عادة المدفع الرمضاني في اليمن بدخول البلاد في أتون حرب 2015م، ومن المعروف أن فانوس شهر رمضان ومدفع رمضان لإعلان أوقات الإفطار والسحور، والمسحراتي، كلها كانت بداياتها في عهد الدولة الفاطمية في مصر.

ثم في توديع رمضان في العشر الأواخر، بلحن منكسر حزين:

"مودع مودع يا رمضان… في دَاعة الله يا رمضان"

ولا تثريب علينا نحن الصغار حينها إذ لم نحضر للصلاة في مسجد القرية طيلة ليالي الشهر الفضيل إلا لنردد هذه الأناشيد ذات النكهة اليمانية المميزة، ترحيبًا بمقدمه، وانشراحًا بمغفرة الرحمن فيه، ثم توديعًا لموكبه المهيب.

ربما كان الختام أجمل بذكر بعض التفاصيل عن المائدة اليمنية في رمضان، لكننا نفضل أن نتجاوزه إلى ما بعده، وهو الأهم، أن كثيرًا من عادات وشعائر وأهازيج استقبال وإحياء وتوديع الشهر الفضيل في اليمن، بعضها وجد طريقه ليستمر على الرغم من الظروف الاقتصادية التي تفرضها الأحداث والمتغيرات في الواقع المَعيش، أما بعض آخر قد علاه غبار النسيان، فلا يعرفه جيل اليوم إلا في وثائقيات الإعلام وكتب التراث، في حين يحن إليه من بقي من كبار السن كذكرى لا تموت.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

كتابتك اشبه بزهرة الريحان ياريت كتابة المزيد ربنا يوفقك
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

ربة الجمال لا ترى إلا كل جميل.
دمتم في تألق وإبداع 🌹🌹🌹
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة