رغبة الغزلان.. صراع نفسي بين الصياد والفريسة

أطالت النظر في المرآة، وهي تلامس وجهها وعنقها بأطراف أصابعها، ملامسة من يتحسس ويبحث عن أثر مفقود، تريد أن تتأكد من أن سنوات العمر التي مضت لم تسلبها شيئًا من جمالها، فأربعون عامًا مضت كفيلة بأن تسرق منها أشياء كثيرة من حياتها، موفدة معها أجراس الخريف بما يحمله من تغيير يبعث في النفس هواجس كثيرة.

لقد كانت حياتها أشبه بالطيور المهاجرة في فصل الخريف، التي تهرب من المناطق الباردة إلى المناطق الدافئة، باحثة عن الدفء والطعام. فهي لم تختر حياتها التي فرضتها عليها الظروف المحيطة بها، فنشأتها لم تكن مثل باقي الزهور، فلم ترتوِ بالعطف والرعاية والاهتمام مثلهم. فهي لم تعرف حتى من غرس بذرتها، لكنها تتذكر يوم أن اُبْتِيعَت ليسلب منها رحيقها وتُلقى ذابلة ترتجف، لتتجرع مرارة العوز والاحتياج، فلم تجد من يمد لها يده لينقذها من براثن الضياع، ولكن وجدت الأيادي تلاحقها لتنزع عنها أوراقها.

لقد اعتادت برودة الطقس التي تحفزها من أجل البحث عن الدفء المؤقت والأمان اللحظي الزائف، فحياتها كلها أشبه بمواسم الرغبة لدى الغزلان في فصل الخريف، فهم ينشطون ليلًا حيث يلتقي الذكور بالإناث.

فنشاطها الليلي أشبه بنشاطهم، ولكن هم ينشطون ليلًا لتجنب البرودة في الصباح، أما هي فنشاطها نشاط المضطر بفعل العوز والاحتياج، فالليل بالنسبة لها احتماء يوارى كل شيء خلف ستائره المظلمة.

اقترب منها أول زاحف ليلي، ترصدها بعيون سيارته الفارهة، ليتوقف بالقرب منها، ويتمايل برأسه من خلف نافذة سيارته بإيماءات الكوبرا التي على وشك الانقضاض على فريستها المستسلمة تمامًا أمامها. فنظرت إليه هُنيهة من خارج نافذة سيارته، لتتأمل ملامح هذا الصياد وكأنها تحدث نفسها بأنه لم يعد يوجد فرق، فالوجوه متشابهة، والأهداف واحدة. كانت حافظة نقوده بين يديه، تتلألأ منها الأوراق الخضراء وهو يلوح لها بها. لم تتردد لحظة، فتلك غايتها.. جذبت مقبض باب السيارة سريعًا، وارتمت على المقعد بجانبه، لينطلق بسيارته كما ينطلق الصقر بفريسته بعد اصطيادها.

لم يكن منزله بعيدًا، لكنه يعطي انطباعًا عن ثرائه. ثوانٍ معدودة، وكانت بداخل المنزل، فكل ما فيه من تحف غالٍ ونفيس. وقفت أمام إحدى التحف الموضوعة في بهو المنزل، فهو تمثال لامرأة عارية غاية في الجمال، تشعر أنك تقف أمام امرأة حقيقية، حتى سمعت صوته الخافت يأتيها من خلفها، وزفير أنفاسه يلامس خصلات شعرها من خلف أذنها، ليسألها: هل تعلمين ثمنها؟

تمثال

«لقد اشتريتها من أشهر صالة للمزادات في هولندا، إنها ماتا هاري، راقصة هولندية وبائعة من بائعات الهوى، واسمها الحقيقي مارغريتا غيرترويدا. أسرت قلوب عشاقها برقتها وعذوبة لسانها، ولكن كانت نهايتها مأساوية، فقد اتهمت بالتجسس ظلمًا لمصلحة ألمانيا، وأُعْدِمَت في أعقاب الحرب العالمية الأولى، ما جعلها شخصية أسطورية تعاطف معها الكثير، وبكى عليها عشاقها».

التفتت إليه وهي تقول له بصوت من قهرته الظروف: «لو وجدت وقتها من يدفع لها ما دفعته أنت في هذا التمثال، لما وصلت إلى ما وصلت إليه».

ثم ضحكت ساخرة، محدثة نفسها: «يكفي أنها أخيرًا وجدت لنفسها مكانًا في هذا المنزل الفاره وإقامة دائمة، دون أن يطلب منها أحدٌ مقابلًا».

نظر إليها وقد تغيرت ملامح وجهه ونظرات عينيه لها، حتى شعرت أنها تسببت في إيذائه بتأثير كلماتها.

فأبدت اعتذارها له، لكنه لم يمهلها، حتى أحاطها بذراعيه وضمها إلى صدره بطريقة لم تعتدها من قبل.

كانت ذراعه تحيط بخصرها وهما يصعدان الدرج إلى الدور العلوي من المنزل، فقد كانت هناك مجموعة من الغرف، ثم أشار إليها بالدخول إلى إحدى الغرف، ثم طلب منها أن تستحم وتتهيأ له حتى يعود. أغلقت على نفسها الحمام لتستمتع في هذا المسبح، وتنفض عن جسدها إرهاق رياح الخريف التي تلاطمها داخل مياهه الدافئة، وهي تتوقع بين لحظة وأخرى أن يدخل عليها، ولكنه لم يفعل.

بعد أن أنهت استحمامها، لفت جسدها بمنشفة ناعمة لم تعتد مثلها من قبل، وخرجت من الحمام لتجد الغرفة خالية. توقعت أن تجده بانتظارها، لكن الصمت كان يعم المكان. بدأت تستكشف الغرفة بنظراتها. كان هناك مرآة كبيرة معلقة على الحائط، فاقتربت منها ببطء. وقفت أمامها، تتأمل صورتها كما كانت تفعل، لكن هذه المرة كانت ملامسة يدها لوجهها مختلفة. لم تكن تبحث عن أثر مفقود، بل عن شيء جديد يتشكل في عينيها، وإحساس يجمع بين الخوف والرجاء.

فجأة، سمعت صوتًا خافتًا يأتي من أسفل الدرج. نزلت بحذر، وهي تمسك المنشفة التي على جسدها حتى لا تسقط منها، متتبعة الصوت حتى وصلت إلى بهو المنزل مرة أخرى. كان الرجل جالسًا على أريكة فاخرة، يحتسي كأسًا من النبيذ، وعيناه مثبتتان على تمثال ماتا هاري. لم يلتفت إليها، بل قال بهدوء:

«هل تعتقدين أن الجمال هو ما يبقى؟ أم أن ما نحمله داخلنا هو ما يمثل قيمتنا الحقيقية؟»

نظرت إليه في اندهاش شديد، ولم تجب على سؤاله، لكن السؤال استقر في ذهنها كحجر صغير يثير دوائر في بركة ساكنة.

ثم أشار إلى حقيبة جلدية موضوعة بجانب التمثال، وقال: «يوجد ما يكفي من المال لتبدئي حياة جديدة، بعيدًا عن الخريف الذي تهربين منه. لكن إن اخترتِ البقاء، فهذا المنزل ليس لليلة واحدة».

التفت بعدها ونظر إليها لأول مرة بنظرة لم تحمل رغبة، بل شيئًا أعمق، ربما تعاطفًا أو فضولًا.

وقفت صامتة، تنظر تارة إلى الحقيبة وتارة إلى التمثال. كانت تعلم أن القرار بيدها هذه المرة.

إنه ليس مفترسًا ولا صيادًا، بل إنسانًا يُعطى فرصة لكتابة فصل جديد. هل تأخذ المال وترحل، أم ستبقى لتكتشف ما وراء ستائر هذا المنزل؟

لم تتحرك بعد، لكن في داخلها، بدأت أجراس الخريف تتوقف عن الرنين، تاركة مكانها لهدوء لم تعرفه من قبل، وكأن تمثال ماتا هاري عادت إليه الحياة مرة أخرى.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

حقيقى انك تفوق الروعة والوصف
استاذى الفاضل انت إحسان عبد القدوس القادم وتذكر مقولتى هذة جيدا
تحياتى وتقديرى لك 🌹
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

الأستاذة العزيزة الغاليه صاحبة الثناء الجميل ...لا اجد من كلمات مايمكن ان اشكرك به....فقد اخجلتم تواضعنا....بل يكفينا مروركم الكريم ....ورأيكم فيما نكتب...شكرا استاذتنا الجميلة سعاد صادق
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

هذة حقيقة أنت تستحقها
لآ من باب المجاملة
انت تمتلك قلما قمة فى
الإبداع 🙏🌹
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة
بقلم عائشة عادل ابوسريع
بقلم طارق السيد متولى
بقلم محمد احمد الهواري
بقلم محمد احمد الهواري